بقلم/ حامد خيري الحيدر
نقوش من وحي الظلام قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
مع هبوب نسائم الفجر الباردة أطل (أيشوأيلو) برأسه من نافذة مشغله الصغير، مُستنشقاً بعمق قدر ما يستطيع من عليلها العذب ليرطب بها صدره ويزيد من طاقة جسمه، قبل أن يبدأ تنفيذ فكرته المجنونة التي لا تأتي غالباً إلا لمن وصل لمرحلةٍ متقدمة من العبقرية أو الخَبَل... وبعد أن تمطى بجسمه مزيلاً ما علق به من خَدَر، لف رأسه بعصابة سوداء سميكة أعدّها ليغمض بها عينيه، ثم مد يده الى اللوح الحجري الكبير الصقيل المتكأ على الجدار والذي كان قد أعدّه قبل أيام، مُتلمساً بأنامله سطحه وأطرافه الخارجية، محدداً الأماكن التي سيبدأ بها نقش أولى تفاصيل لوحته البانورامية التي تصورها، ثم بهدوء تناول من بين أدوات عمله مطرقته وازميله، ليضرب ضربته الأولى التي بدد دوي صداها سكون الصباح.... هكذا بدأ رحلته مع تلك النزوة المتمردة التي تملكته، معلناً ثورته الصريحة العارمة على مفاهيم الفن التقليدية الجامدة التي كبّلتها قيود العقل وازدرتها رياح التطور، مانحاً الغرائز البشرية فرصتها كي تعبّر عما سُجن بين ثناياها طيلة سيطرة عقول البشر الفاشلة على مقدرات هذه الدنيا.. أراد بعيداً عن المحاباة والتملق أن ينفذ لوحته بعيون مُغمضة مؤرخاً فيها سيرة أيام (بابل) الممتدة على مدى متاعب حياته السالفة، مختزلاً فيها عشرات من السنين العجاف منذ احترافه الفن، دون أن يكون لبصره وعقله أي أرادة على توجيه يديه وفكرة عمله، مانحاً اللجام فقط لغرائزه وعقله الباطن الخفي.... مع تتابع ضربات (أيشوأيلو) الأولى أحس أن ازميله يسير بسهولة ويُسر في بدن اللوح، كأنه يغور في أرض طينية أنبتت أوراداً بيضاء، راسماً سَيرُه أهلّةً صغيرة تشابه ثغور أطفال جوعى تواقة لمليء بطونها الخاوية، تحاشا الازميل تكدير صفو براءتهم المعذبة، متجنباً جرح أجسادهم الغَضة.. توالت الضربات دون توقف، منتقلة الى مكان آخر موجهة مسار الازميل صعوداً ونزولاً كما لو أنه يصور قضبان سجون سوداء.. أحس أن اللوح في هذا المكان شديد القسوة، يرفض السماح للإزميل بكسر أرادة صلابته، ضرب بعنف وبشكلٍ هستيري، حتى غدا الازميل أحمراً لاهباً كالجمر أحرق راحته لكن دون جدوى، حتى دوّى صوت هائل، عرف عندها أن الازميل قد أنكسر، بسرعة تناول آخر ليواصل الضرب رافضاً التوقف.. قاده مسار النقش الى مكان آخر من اللوح، عنده أصبحت الضربات بطيئة لكن قاسية، اقتلع الازميل بها قطعاً عريضة من سطحه، تتابعت وفق تناغم لحني مُنسّق يتردد صداها لأماكن بعيدة، كأنها مسيرة جنود مدججين تضرب أقدامهم بشدة أرض رخامية ناصعة البياض غير عابئين بتدنيس جمالها.. ثم أخذ صوت الضربات يعلو تارة ثم يخفت تارة أخرى بتناقض مُلفت غريب، وفق نمطية مُملة بدت كتراتيل الخشوع الزائفة التي تُسمع في صوامع المعابد الدهماء، تلك التي يرددها كهنة متزلفون بأفواهٍ مرتجفة من خوف الآلهة، لكن في طارفها ابتسامة صفراء مريضة تجمعت فيها كل شرور العالم.. وبانتقال النقش الى مكان جديد أحَس أن يده قد تعرَقت بشكل غريب، جعلت الازميل يَتمَزلق منها، لا يقوى الصمود في أحضان الكف، بدت لزوجة حبات العرق كدموع نسوة ثكالى ينُحن بين هياكل بيوت متهاوية، يندبّن أيام جميلة مضت وفتية غيبهم الثرى، يلتمسن من الآلهة، بل وحتى من الشياطين أن يعود السلام لأرض (بابل)...... مع توالي ضربات المطرقة ونقرات الازميل أختطف ذلك الحماس اللاإرادي (أيشوأيلو) لعوالم أخرى، لم يعد يدري معها بمرور الوقت وتوالي الساعات.. لم ينتابه أي شعور غريزي بجوع أو عطش أو قضاء حاجة، فقد الاحساس بالتعب والألم، قطعت كل الخيوط الواهية التي كانت تربطه بالحياة، باستثناء أذنيه المنصتتين لموسيقى تتابع ضربات مطرقته، كان بحق ميتاً مرتدياً زي الأحياء، مسلوب الارادة والفكر والاحساس، بعد أن أوكل مهمات عقله لإلهامٍ خفي مُحتبس بين ثنايا قلبه..... ومع صياح الديك مُعلناً حلول يوم جديد محمولاً على أجنحة الغَبَش، توقفت يده عن الطرق.. وضع مطرقته وازميله جانبا، ثم مد يده الى اللوح الحجري ليزيل براحته بقايا الغبار عنه، مُتلمساً سطحه الذي غدا مُتخماً بالنقوش، لم يبق منه جزء ولو صغير ألا ونال نصيبه من نصل الازميل، عندها عرف أن عمله أخيراً قد أنتهى.... بهدوء رفع عصابة عينيه التي اصطبغت بغبار النقش.. كان متشوقاً ومتعجلاً لمعرفة ما أنتجته يداه، غير مكترث لشدة تورمهما من كثرة الضرب وقسوته.. أنتظر قليلاً حتى اعتادت عيناه الضوء، ثم القى بصره على لوحته الغامضة المثخنة بالضربات الموجعة.... نقوش متداخلة بلا أشكال أو معالم يمكن أن توصف بها، أطّرت بخطوط متعرجة ومتمايلة، وأخرى مستقيمة، بعضها متوازية وبعضها متقاطعة وبعضها تسير باتجاهات غير واضحة أو تصل لنهايات ملتوية، فوضى في النسق، تباين في قياسات الفن والمنطق، وأبعد ما تكون عن مفهوم الجمال... أمعّن النظر في هذه الفوضى التي ليس لها أول من آخر، محاولاً اعطائها أي تفسير أو معنى أو رمزية ما وأن كانت واهمة أو أسماً يتناسب مع جنونها، لكن دون جدوى.... وبينما هو مُمعن بتفحص أنجازه المُبهم، أخذ اللوح بالتشقق شيئاً فشيئاً وسرعان ما تهاوى مُتهشماً بكامله على الأرض... ظلّ (أيشوأيلو) مأخوذاً مشدوهاً بما جرى، ناظراً بحيرة وذهول الى كِسر وشظايا الحجر المتناثرة هنا وهناك، لا يقوى الإتيان بحركة، وكل الذي أستطاعه، بث بضع زفرات وحسرات، وعبرة مخنوقة كوت صدره.
2419 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع