أ.د. ضياء نافع
المفكّر و الفيلسوف غوغول
غوغول هو احد الادباء الروس الكبار الذين دخلوا في تاريخ الفلسفة الروسية ( انظر مقالتنا بعنوان – الادباء الروس في تاريخ الفلسفة الروسية) , وتوجد الكثير من المصادر الروسية ( من كتب وبحوث و مقالات ... الخ) تتناول طبيعة فلسفتة وتحلل خصائصها و تدرسها, و تطلق تلك المصادر عليه بشكل مباشر وواضح وصريح تسمية - ( الفيلسوف غوغول ) , لكن غوغول يرتبط ايضا بتسمية اخرى ( و موجودة ايضا في العديد من المصادر الروسية) , وهذه التسمية هي – ( المفكّر غوغول ) . لا يوجد بالطبع تناقض او تنافر بين التسميتين , بل انهما ينسجمان ويتناغمان في الواقع معا , فالفيلسوف هو مفكّر , والمفكّر - فيلسوف , ولكن هذه الحالة ( اي ثنائية التسمية) لا تبدو بمثل هذا الوضوح مع دستويفسكي وتولستوي ولا تظهر متلازمة مع اسميهما في المصادرالروسية , وهما – كما هو معروف - الاسمان الاكثر سطوعا بين الادباء الروس في تاريخ الفلسفة الروسية ومسيرتها . مقالتنا هذه تتوقف قليلا عند هاتين التسميتين حول غوغول, وتحاول تعريف القارئ العربي بهذا الموضوع الطريف والكبير والمهم ايضا في تاريخ الادب الروسي ( التعريف ليس اكثر, لأن الموضوع اكبرمن سطور مقالة محدودة ) , وذلك لان غوغول هو احد الاسماء المشهورة والمعروفة لهذا القارئ , بل وحتى يمكن القول , انه من جملة الادباء الاجانب ( وليس فقط الروس ) الذين يتعامل القارئ العربي والمبدع العربي ايضا معهم بحب وتعاطف و ابداع , ويحوّر نتاجاته الى اعمال ادبية وفنيّة تعكس مشاكل العالم العربي نفسه , ولنتذكّر فقط مسرحيته الشهيرة ( المفتش العام) كمثال على ذلك , والتي تحوّلت الى اعمال مسرحية وتلفزيونية في عالمنا العربي , او كانت تتمحور حول الفكرة الرئيسية في تلك المسرحية او تقتبس منها وتتم عملية تحويلها و توليفها , وبالتالي جعلها ذات طابع عربي يرتبط بالواقع العربي ويعالجه من وجهة نظر محددة و دقيقة , ومازلت اتذكر , كيف ان المرحومة أ.د. حياة شرارة كتبت مقالة طريفة وعميقة ونشرتها في جريدة الجمهورية آنذاك حول مسلسلة تلفزيونية مصرية بثّها في حينها تلفزيون بغداد مقتبسة من مسرحية غوغول – ( المفتش العام) , وقد دخلت هذه المقالة الان ضمن تراث المرحومة حياة شرارة.
لم يكن غوغول - منذ بداياته الادبية – يكتفي بنشر النتاجات الادبية البحتة فقط ( ان صحّت صفة البحتة هنا ) , بل كان يحاول ايضا ان ينشر و يطرح افكاره النظرية العامة , و هي افكار مرتبطة بدور الادب والفن عموما بمسيرة الحياة الاجتماعية , و هو جوهر البحث الفلسفي لغوغول , ولهذا , فان النقاد يرون ( وهم على حق ) , ان هناك جانبان او نشاطان يسيران معا في نتاجات غوغول – جانب ادبي يكمن في السرد الفنّي (نتاجاته النثرية العملاقة وابداعه المتميّز فيها ) , وجانب آخر يكمن في الفلسفة ( نتاجاته التأملية حول دور الادب والفن عموما في جوهر الحياة الاجتماعية وافكاره الدينية والاستيتيكية عن هذا الدور) . لقد أدى هذا الانشطار ( ان صحّ هذا التعبير) في مسيرة غوغول الابداعية الى التصادم بين الجانبين في نهاية المطاف , بل و الى تناقض صارخ بينهما في اعماق روحه, بحيث ان غوغول وصل الى قرار فكري خطير( لم يتكرر في تاريخ الادب الروسي ) , وهو ان يحرق الجزء الثاني باكمله من روايته الارواح الميتة قبل رحيله الابدي , الجزء الذي كتبه طوال سنوات مكوثه في ايطاليا , والذي كانت كل روسيا المثقفة تنتظره واقعيا, اي حدث في اعماق روحه انتصار الجانب الفلسفي على الجانب الفني في مسيرة ابداعه , اي انتصر غوغول الفيلسوف والمفكّر على غوغول الاديب والفنان في عملية الانشطار الفكري الذي كان يعاني منه غوغول, والذي كان واضحا جدا عندما أصدر كتابه الاخير( مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) , وهو الموقف الذي شجبه بيلينسكي في رسالته المشهورة له آنذاك – (انظر مقالتنا بعنوان -حول بيلينسكي ورسالته الى غوغول ) . وتشير المصادر الروسية الحديثة والمعاصرة الآن , الى ان بيلينسكي لم يستوعب ولم يفهم هذه الظاهرة الفكرية الفلسفية العميقة , التي حدثت في مسيرة غوغول ( وهو عكس الموقف الفكري السوفيتي تماما من هذا الحدث, ولا مجال للتوسع أكثر حول ذلك في اطار مقالتنا هذه ) , وان رساله بيلينسكي تلك الى غوغول هي دليل واضح على ذلك ( اي عدم استيعاب بيلينسكي لتلك الظاهرة المرتبطة بغوغول وعدم فهمها) . ان هذه الرسالة في نهاية المطاف هي تأكيد على ان غوغول وليس بيلينسكي هوالذي انتصر في تلك المعركة الفكرية التي حدثت بينهما , والتي بدأها بيلينسكي نفسه , و كان غوغول مدافعا عن نفسه ليس الا ضد هذا الهجوم .
المفكّر والفيلسوف غوغول لايزال حيّا في أجواء الفكر والفلسفة الروسية , مثلما لايزال حيّا في مسيرة الادب الروسي , وكم نحن بحاجة الى الدراسة المعمّقة في ابداع هذا المفكّر والفيلسوف والاديب ...
1378 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع