أ.د. ضياء نافع
انطباعات عن جلسة عراقية في موسكو
تلقيت دعوة كريمة من مجموعة عراقية في موسكو ترتبط بالحزب الشيوعي العراقي لحضور ندوة تعقد في موسكو للاحتفال بالذكرى الحادية والستين لثورة 14 تموز 1958 , وقد حضرتها طبعا و بكل سرور , من اجل ان التقي مع زملاء واصدقاء قدامى لي منذ ايام الدراسة , ومن اجل ان استمع الى آراء حول هذا الحدث الكبير في تاريخنا العراقي الحديث . واود ان اسجل هنا للقارئ انطباعاتي حول تلك الندوة , واطرح بعض الافكار التي استمعت اليها , والتي أدلى بها بعض المشاركين في تلك الندوة العراقية البحتة ونحن نجلس في موسكو , وتحت امطارها الصيفية التموّزية ونتذكر ( امطار!!) ذلك التموّز العراقي العاصف من عام 1958 عندما حدث ما حدث ...
شاهدنا في البداية مقاطع من لقطات تاريخية عن مسيرة تلك الاحداث ورجالاتها, اللقطات التي انتهت بذلك المنظر التراجيدي الرهيب والمؤلم لعبد الكريم قاسم وصحبه وهم يرقدون على الارض بملابسهم العسكرية الكاملة مضرّجين بالدماء ( بعد رميهم بوابل من الرصاص ) وخلفهم كراسي قديمة فارغة وباهتة تحدّق بهم في تلك الغرفة البائسة , التي تقع في بناية اذاعة وتلفزيون بغداد , وهي الصورة التي نشرتها في شباط/ فبراير 1963 معظم صحف العالم تقريبا , وتذكرت كيف انني شخصيا – عندما كنت طالبا آنذاك - اشتريت من الكشك الخاص لبيع الصحف الاجنبية في جامعة موسكو جرائد فرنسية وانكليزية والمانية وايطالية واسبانية لدرجة ان بائعة الصحف استغربت وسألتني – كم لغة تعرف ؟ فنظرت اليها صامتا ومبتسما بألم وأسى ولم أقل لها شيئا , وكان بودي ان اقول لها – اعرف لغة واحدة فقط هي لغة الحزن , التي لازلنا ولحد الان نتكلم بها في العراق مع الاسف الشديد. وتذكرت ايضا , كيف اننا – نحن الطلبة العراقيين في جامعة موسكو آنذاك – حاولنا الاتصال تلفونيا بوكالة انباء تاس السوفيتية في اليوم الاول لانقلاب 8 شباط الاسود لمعرفة آخر الانباء عن الشئ الذي يجري في بغداد الحبيبة, وبعد التي واللتيا من جانب وكالة الانباء تلك واستفساراتها المتنوعة و التفصيلية عن المتكلّم , قالوا لنا – نعم , حدث انقلاب مضاد لعبد الكريم قاسم في العراق وانهم يتابعون الاخبار وسوف يعلنونها لاحقا بعد التأكّد من حقيقة احداثها و..و.. و .و ..و
بعد ذلك العرض التلفزيوني الوجيز والمعروف طبعا , ابتدأت وقائع تلك الندوة الفكرية, والتي قالوا لي عنها , انك تشبه مشجّعا متحمّسا للعبة كرة القدم الذي يذهب الى الملعب لمشاهدة لعبة يعرف مسبقا نتائجها بالضبط , وقد ضحكت انا وقلت لهم , نعم هذه صورة فنية دقيقة و صحيحة , اذ ماذا يمكن فعلا ان يقول الشيوعيون العراقيون وغيرهم من القوى الوطنية الاخرى عن ثورة 14 تموز بعد مرور (61 ) سنة من حدوثها , لكني – مع ذلك – سأذهب الى تلك الندوة , كي ابحث عن نقاط ونواعم جديدة (او شبه جديدة) في ركام الكلام القديم و العتيق الذي سوف استمع له حتما , وذلك لان عملية البحث هذه في الركام القديم للكلمات بحد ذاتها تمنح الانسان بعض السكينة و السلوان وسط حياتنا اليوميّة الصاخبة الان . وهكذا استمعت – صامتا - بانتباه وامعان شديدين الى كل الكلمات والتعليقات التي وردت في تلك الندوة عن ثورة 14 تموز العراقية, رغم اختلاط الحابل بالنابل بعض الاحيان لدرجة باني لم اسّتطع أن أميّز بين كلام ( الحابلين والنابلين!) في تلك اللحظات المتشابكة, ولكن يجب القول انها كانت لحظات قليلة نسبيا , مقارنة مع طبيعة الجلسات العراقية عموما . واودّ هنا ان أذكر رأسا , اني وجدت تلك النقاط والنواعم الجديدة , التي كنت أبحث عنها, ومن بينها , تلك القصّة الجديدة فعلا , التي رواها زميلنا ضياء العكيلي ( ضيف الندوة ) عن اللقاء الذي حضره مع عبد الكريم قاسم بعد محاولة اغتياله الشهيرة عام 1959 , اذ رافق ضياء أخيه الاكبر عبد الامير العكيلي , المستشار القانوني لقاسم آنذاك , وسمع من الزعيم قوله , انه لا يتفق مع آراء عبد الامير العكيلي بشأن تفسيره للقوى التي قامت بمحاولة اغتياله , وقال قاسم للعكيلي ما معناه , ان تفكيره يشبه تفكير المهداوي , وقد وجدت في هذه القصة الحقيقية فعلا تأكيدا جديدا على سذاجة هذا الرجل النظيف والعفيف , والتي كانت مصائر العراق كلها بيده تقريبا, الرجل الذي لايزال الشعب العراقي يقارنه بحكامه كافة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد الان ولا يجد شبيها له ( لا من قريب ولا من بعيد ) من حيث النزاهة والاخلاص والعفّة , الرجل الذي حتّى الاعداء يقولون عنه انه كان نزيها و عفيفا . ولابد من الاشارة الى بعض الافكار العميقة , التي تم طرحها في الندوة , رغم انها مكررة , مثل تحديد الحدث , وهل هو ثورة ام انقلاب , وهو الموضوع الذي تكلم حوله د. ابراهيم الخزعلي , والذي أثار ردود فعل متباينة جدا , بحيث لم يتسع المجال للخزعلي حتى ان يجيب عن تلك الآراء حول ذلك , او الصورة التي رسمها د. فالح الحمراني لعبد الكريم قاسم من وجهات نظر بعض الباحثين في كتبهم حول قاسم , وهناك طبعا مسائل اخرى مهمة ترتبط مع المفاهيم الماركسية المعروفة, منها مثلا , هل غيّرت ثورة 14 تموز من طبيعة القوى المنتجة في المجتمع العراقي , او , الاصلاح الزراعي ومسيرته ....الخ
لا يمكن لندوة عامة ان تتسع لكل القضايا المرتبطة بهذا الحدث الكبير , خصوصا بعد كل هذه الفترة الطويلة , لهذا , ومن اجل التعمق في دراسة هذا الحدث , يجب تحديد موضوع دقيق ليكون محور الندوة الفكرية , ويجب التهيئة المبكرة لها , كي تكون الكلمات موضوعية ومعمّقة , وليست انطباعات عامة او ذكريات ذاتية ليس الا , ومع ذلك , فقد كانت الندوة بشكل عام ناجحة ومفيدة للتذكير ( والتفكير ايضا ) باحداث عراقنا الجريح , والذي لازال ينزف ...
4814 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع