وسط أنقاض الأمس وأمل الغد، ينهمك البناؤون في المراحل الأخيرة من إعادة تشييد جامع النوري الكبير، مستعيدين مئذنته الحدباء
إيلاف من بغداد: تعود معالم الموصل التاريخية إلى الواجهة بعد سنوات من الدمار الذي ألحقه تنظيم الدولة الإسلامية بالمدينة العراقية. الكنائس والمساجد والمنازل القديمة، التي كانت شاهدة على قرون من التعايش الديني والثقافي، تفتح أبوابها من جديد بفضل جهود ترميم ضخمة قادتها منظمة اليونسكو، بمشاركة محلية ودولية واسعة.
بعد عام واحد من تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف في 2017، أطلقت اليونسكو مشروعًا طموحًا لإعادة إعمار المدينة، بميزانية بلغت 115 مليون دولار، جمع معظمها من الإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي. واليوم، تشهد الموصل مراسم إعادة الافتتاح بحضور المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، إلى جانب الحرفيين المحليين وسكان المدينة وممثلين عن مختلف الطوائف.
الموصل بين الماضي والمأساة
في عام 2014، سقطت الموصل تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي فرض أيديولوجيته المتشددة على المدينة، مستهدفًا الأقليات وقامعًا كل أشكال المعارضة. خلال سنوات الاحتلال الثلاث، شهدت المدينة انتهاكات جسيمة، وانتهت بمعركة طاحنة شنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى جانب الجيش العراقي والميليشيات المتحالفة معه آنذاك. بلغت المواجهات ذروتها في المدينة القديمة، حيث خاض مقاتلو التنظيم آخر معاركهم.
فجر التنظيم مسجد النوري الشهير، بما في ذلك مئذنته الحدباء، رمز الموصل لمئات السنين، أثناء انسحابه عام 2017. المصور علي البارودي كان من أوائل من دخلوا المنطقة بعد انتهاء القتال، ليرى مدينته وقد تحولت إلى كومة أنقاض. يقول لهيئة الإذاعة البريطانية: "كانت أشبه بمدينة أشباح. جثث الموتى في كل مكان، ورائحة مقززة، ومشاهد مروعة للأفق بدون المئذنة الحدباء. لم تكن هذه الموصل التي نعرفها، كان الأمر أشبه بكابوس".
إعادة البناء: تحديات تتجاوز الحجر
دُمرت 80% من المدينة القديمة، ولم تكن الكنائس والمساجد والمنازل وحدها التي احتاجت إلى ترميم، بل كان هناك دمار عميق في نسيج المجتمع ذاته. إعادة الإعمار لم تقتصر على ترميم المباني، بل امتدت إلى إعادة بناء الثقة بين سكان المدينة الذين عاشوا في وئام نسبي لعقود.
الأب أوليفييه بوكيون، الكاهن الدومينيكاني الذي عاد إلى الموصل للإشراف على ترميم دير نوتردام دي لاهور، والمعروف محليًا باسم "دير الساعة"، يؤكد أن التحدي الأكبر كان في إعادة جمع الناس معًا، مسلمين ومسيحيين، للعمل جنبًا إلى جنب. يقول: "إذا كنت تريد إعادة بناء المباني فعليك أولًا إعادة بناء الثقة - بدونها، لا قيمة لأي جدران تُبنى".
المهندسة ماريا ريتا أسيتوسو، كبيرة المهندسين المعماريين في المشروع، التي جاءت مباشرة من أعمال الترميم لصالح اليونسكو في أفغانستان، ترى أن إعادة الإعمار ليست مجرد عملية هندسية، بل فرصة لإعادة الأمل وتنمية المهارات وخلق فرص العمل. تقول: "لقد تمكنّا من تدريب أكثر من 1,300 شاب على المهارات التقليدية، ووفّرنا حوالى 6,000 فرصة عمل جديدة. كما تمت استعادة آلاف القطع الأثرية التي كانت مدفونة تحت الأنقاض".
عودة الحياة إلى قلب الموصل
مع عودة الناس إلى منازلهم، بدأ الأمل يزهر مجددًا في المدينة القديمة. تم ترميم أكثر من 100 فصل دراسي في الموصل، ليتمكن الطلاب من العودة إلى مقاعد الدراسة بعد سنوات من الانقطاع. كما تم ترميم 124 منزلًا قديمًا، من بينها قصران فاخران، بفضل جهود اليونسكو وشركائها.
مصطفى، أحد سكان الموصل، وجد منزله الذي بُني عام 1864 مدمَّرًا جزئيًا بعد معارك التحرير. "لم أكن أعتقد أنني سأتمكن من العودة إليه يومًا، لكن بعد ترميمه، أشعر وكأنني أعيش معجزة حقيقية"، يقول لـ"BBC" بحماسة.
عبدالله، الذي تعيش عائلته في منزل بالمدينة القديمة منذ القرن التاسع عشر، عبّر عن سعادته بالعودة إلى منزله بعد أن أعادت اليونسكو بناءه. "رؤية هذا الحي ينبعث من جديد كانت لحظة لا تُنسى. لقد فقدنا الأمل يومًا، لكننا اليوم نستعيد حياتنا خطوة خطوة".
الموصل... من بين الرماد
بعد ثماني سنوات من الاحتلال والدمار، تدق أجراس كنيسة الطاهرة من جديد، وترتفع مئذنة الحدباء مرة أخرى في أفق المدينة، ويعود جامع النوري لاستقبال المصلين. ومع كل حجر يُعاد إلى مكانه، تستعيد الموصل جزءًا من روحها التي سُلبت منها.
يواصل المصور علي البارودي توثيق هذه اللحظات التاريخية، متأملاً في تحول مدينته من ساحة معركة إلى رمز للصمود. يقول: "إنه مثل رؤية شخص ميت يعود للحياة بطريقة جميلة جدًا. هذه هي الروح الحقيقية للموصل، التي لن تموت أبدًا".
758 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع