" وصف الدبلوماسية في العلاقات الدولية، عصمت كتاني رمز من الرموز الشامخة في العمل الدبلوماسي"

" وصف الدبلوماسية في العلاقات الدولية، عصمت كتاني رمز من الرموز الشامخة في العمل الدبلوماسي"

نشأت العلاقات منذ نشأة الإنسان، والمتصفح لتاريخ العلاقات الدولية يرى أنها قامت بين الحضارات، واخذت أشكالا وأنماطا متعددة تلاءمت مع الظروف والأحوال التي كانت سائدة القديمة وشملت كافة نواحي الحياة آنذاك، وإن الدول منذ نشأتها في العصور القديمة إلى يومنا هذا لا تستطيع أن تعيش بمنأى عن دول العالم، بحيث لا بد لها أن تتبادل مع بعضها البعض علاقات تجارية، سياسية، اقتصادية وثقافية التي تعود بالنفع عليها وعلى شعبها.

أنّ مصطلح الدبلوماسية مُشتق من كلمة دبلوما اليونانية القديمة، والتي تعني (الوثيقة المطويّة إلى قسمين)، وكانت في البداية مرتبطة بالامتيازات التي يتم منحها للأمراء، ولكن فيما بعد أصبحت تشمل جميع الوثائق الرسميّة الصادرة عن المستشارين، خاصًة تلك التي تحتوي على اتفاقيات بين الملوك، إلى أن ارتبطت بالعلاقات الدوليّة في يومنا هذا.
هناك أراء كثيرة ومتعددة للمفكرين والباحثين حول تعريف "الدبلوماسية"، حيث تنوعت تعريفاتها حسب وجهة نظر كل مفكر، يمكن استعراض بعضها فيما يلي:
في موسوعة لاروس على سبيل المثال هناك ثلاث معاني على الأقل مرتبطة بكلمة الدبلوماسية:
أولا: تشير الدبلوماسية إلى الإجراء و (طريقة) تمثيل دولة ما بدولة اجنبية وفي المفاوضات الدولية
:الدبلوماسية معنية بـالسياسة الخارجية لدولة ما ثانيا
ثالثا: الدبلوماسية هي فرع من العلوم السياسية الذي يهتم بالعلاقات الدولية
يعرف أرنست ساتو الدبلوماسية على أنها: "استعمال الذكاء في إدارة العلاقات الرسمية بين الحكومات والدول المستقلة".
أما شارل كالفو فيعرفها على أنها: "علم العلاقات القائمة بين مختلف الدول، كما تنشأ عن مراحلها المتبادلة، وعن مبادئ القانون الدولي ونصوص المعاهدات والاتفاقيات التي تنشأ، وهي ضرورية لقيادة الشؤون العامة ومتابعة المفاوضات"
ويعرفها راؤول جينيه بأنها: " فن تمثيل الحكومة ورعاية مصالح البلاد لدى الحكومات الأجنبية، والسهر على ةان هذه المصالح".
وعرفها هارولد نیكلسون الذي تبنى تعريف قاموس اوكسفورد: "الدبلوماسية هي توجیه العلاقات الدولية عن طریق المفاوضات، والأسلوب الذي به یدیر السفراء والمبعوثون هذه العلاقات، وعمل الرجل الدبلوماسي أو فنه".
ووصف سير هنري واتون، الدبلوماسي البريطاني في القرن السادس عشر، "الدبلوماسي بانه بانه انسان فاضل وشريف يتم ارساله الى بلد آخر لكي يمارس التمويه دفاعا عن مصالح بلده". ىلا
تمثل الدبلوماسية فنّ إدارة العلاقات الدولية وسياستها؛ عبر الحِوار والتفاوض البنّاء؛ بهدف تحقيق المصالح الوطنية، وتعزيز التعاون بين الدُّوَل بالوسائل السلمية دون اللجوء إلى العُنف أو الصِّراع المُسلَّح، وهي صفة تخص التمثيل السياسي للبلاد، وتصريف شؤون الدولة الخارجية مع الدول الأجنبية وأساليب التمثيل السياسي للبلاد وتصريف شؤونها الخارجية لدى الدول الأجنبية، ويطلق على مسؤولي الدول وممثليها في سفاراتها وقنصلياتها بالدبلوماسيين.
ومن منظورٍ تاريخي، نجد أنّ مفهوم الدبلوماسية يُشير إلى حقيقة تسيير العلاقات الدولية والرسميّة بين أي بلدين -عادةً- يكونان ذا سيادة واستقلالية، ومع انهيار الملكية "التي كانت تزعم حقها الإلهي في الحكم" أمام الأنظمة الملكية الدستورية والجمهورية، وفقًا للمتعارف عليه إلى صُلح وستفاليا الذي عُقد عام 1648، وضع حدًّا لنزاعات حرب الثلاثين عامًا، وأرسى مبدأ استقلال الدول، وحرية الاعتقاد والتسامح الديني، أما أول وزارة خارجية فأسسها الكاردينال الفرنسي ريشيليو عام 1626، الذي طرح كذلك المنهج الكلاسيكي في العلاقات الدولية، القائم على مبدأ الدولة المستقلة الذي تحركه المصالح القومية كهدف نهائي، تحولت الدبلوماسية من التنقل إلى الثبات، حيث ترسخ أكثر فأكثر إنشاء السفارات والمفوضيات في جميع أنحاء أوروبا، ومع نهاية القرن التاسع عشر تبنَّى العالم بأسره الدبلوماسية على الطريقة الأوروبية وقد استخدمت بريطانيا العظمى في القرن الثامن عشر سياساتها الدبلوماسية لخدمة توازن القوى الدولية، بينما استخدمت النمسا في عهد مترنيش سياساتها الدبلوماسية لإعادة بناء مجلس أوروبا، الذي قامت فيما بعدُ ألمانيا في عهد بسمارك بحله لتغير بذلك وجه الدبلوماسية الأوروبية وتجعلها على حد تعبير هنري كسنجر: "لعبة وحشية تدور حول سياسة القوة"، إذ كانت نظامًا دبلوماسيًّا مكتمل النمو، فأصبح لدى الدول الكبرى سفارات في نظيراتها من الدول الكبرى، ومفوضيات في الدول الصغرى، ورأَس السفارات سفراء بينما ترأس الوزراء المفوضيات، وقد توقف فيما مضى تصنيف البعثات الدبلوماسية كسفارة أو مفوضية، وتنصيب رئيسها كسفير أو وزير، على الأهمية التي توليها حكومتا الدولتين للعلاقات المتبادلة بينهما، وأصبحت الدبلوماسية ماكيافيلية في الشؤون الدولية، ومن 1815 إلى 1914 أصبحت الدبلوماسية أكثر دقة وثباتاً، حيث تحددت القواعد المنظمة لنشاط البعثات الدبلوماسية وأضحى الدبلوماسي ممثلاً لدولته وليس للملك أو الحاكم، وعملت الدبلوماسية على تسهيل التعارف المتبادل بين الدولة الموفدة والدولة المضيفة وتنمية التعاون الدولي وحل الخلافات الدولية بالوسائل السلمية، وبحلول القرن 20 إلى وقتنا الحاضر تميزت الدبلوماسية، بمكانة متميزة في العلاقات الدولية، حيث أصبحت المدخل الأساسي والحيوي الذي يتم من خلاله حماية ورعاية مصالح الدول والافراد، وإلى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية ودعائية لخدمة مختلف القضايا، كما تحولت الدبلوماسية التقليدية إلى الدبلوماسية العلنية التي تمارس ضمن إطار من الصراحة والجماهيرية، وتأثرت السياسة الخارجية للدول بظهور الرأي العام وممارسته للضغوط على الحكومات المحلية والدولية، وظهور تكتلات دولية حديثة، وكذلك تأسيس المنظمات الدولية والاجتماعات الدولية والقمم والبرلمانات، التي ترافقت مع تطور العلاقات الدولية بعد الحربين العالميتين، وتحولت نحو دبلوماسية الاجتماعات واللقاءات بين المسؤولين التي تساعد على تمتين العلاقات بين الدول ومجتمعاتها، بمختلف المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. ورغم الاتفاقات التي تم عقدها من أجل تحديد أوضاع المبعوث الدبلوماسي، فإن ذلك لم يؤدي إلى تحسين العلاقات بين الدول ووضع الدبلوماسيين التدخل في الشؤون الداخلية للدولة الموفد إليها، هذا ما دعا بالجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1959 إلى عقد مؤتمر دولي في فينا توصل إلى وضع اتفاقية دولية حول التمثيل الدبلوماسي في أبعاده المختلفة.
الدبلوماسية اليوم تعكس التنوع والتعددية في عصر العولمة. يكاد يكون من المستحيل دراسة أي مشكلة في العلاقات الدولية المعاصرة بشكل فعال دون النظر في التحديات الدبلوماسية التي تطرحها والابتكارات في الممارسة الدبلوماسية التي تستدعيها والمساهمة التي يمكن أن تقدمها الدبلوماسية للتخفيف من حدة المشاكل، وستظل الدبلوماسية تعبر عن دينامية العلاقات المنفتحة باعتبارها نسقاً من الممارسة والسلوك الهادف إلى تنظيم المصالح المشتركة، ونشاطاً يتغلغل إلى عمق العلاقات بين الأمم والشعوب مع محافظتها على تقاليدها الأصلية في تحقيق غاياتها السامية والتكامل مع مقومات الدولة الحديثة.
يتصور الكثيرون بان الدبلوماسية العراقية قد بدأت بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وانما كحقيقة انها اسبق من ذلك واعرق، انها بدأت منذ مطلع الالف الثالث قبل الميلاد حتى القرن ال رابع والعشرين قبل الميلاد، حيث عقدت العديد من المعاهدات في العديد من المجالات وقد عثر على أقدم معاهدة في التاريخ، وهي المعاهدة المعقودة بين دولة مدنية ( كلش) ودولة مدنية (أوما) المجاورة سنة 3100 ق.م حيث نقشت على نصب حجري باللغة المسمارية، وتضمنت النص الذي أكد على وجوب احترام الحدود التي اعترف بها شعب (أوما)، مقروناً بقسم لبعض كهنة سامراء، كما تضمنت تلك المعاهدة شرطاً على التحكيم لحل المنازعات التي تثور بسبب الحدود بين الطرفين. ويتضح من ذلك أن هذا العصر شهد أول تطبيق للمعاهدات الدبلوماسية المكتوبة المعقودة بين الدول.
وصلت الدولة العربية الإسلامية أوجها في عهد الدولة العباسية، ولقد عرفت تلك المرحلة انتقال العاصمة من دمشق إلى بغداد، وظهور الدولة العباسية كأكبر دولة في العالم آنذاك، وكانت عاصمتها ملتقى للوفود والسفارات من مختلف بقاع الأرض، بالإضافة إلى مشاركة عناصر غير عربية في الحكم، وطور العباسيون الدواوين الخاصة بالعلاقات الخارجية، واهتموا بتوسيع علاقاتهم السياسية، وكان اتساع الدولة العباسية قد جعلها قريبة من العديد من الدول مما فرض عليها أن تنظم علاقات سليمة بينها وبين هذه الدول، وتسوية المنازعات الناشئة بينها، ودبلوماسية مع الدول المعاصرة لها، صديقة كانت أو عدوة، عن طريق السفارات والبعثات السياسية التي كان لها أهداف، إلى جانب المواصفات والمؤهلات التي لابد أن يتحلى بها من يختار للسفارة، كما ترسخت أعراف وتقاليد استقبال السفراء واستضافتهم وتوديعهم وتمتعهم بالحصانات والامتيازات الدبلوماسية، وهذا ما تميز به تاريخ الدولة العباسية وأصبح سمة علاقاتها الدولية، ومن ناحية أخرى فإنّ العباسيين عرفوا نظام المراسم واستقبال الرسل والاحتفاء بهم، إذ كانوا يخصون السفير ومرافقيه باستقبال حافل على الحدود ومرافقته حتى دخول العاصمة، حيث يجد بانتظاره شخصية سامية، وينزل ومرافقه قي قصر الضيافة، وقد جرت العادة على أن يستقبل السفير من قبل وزير مكلف بالمهمة ويحدد معه موعد لمقابلة الخليفة وعندما يحظى بمقابلة الخليفة يقدم له كتاب رئيس دولته، ومن ثم الهدايا التي يحملها له، كما كان الخلفاء يرسلون سفراء لحاجة الدولة ولتحقيق هدف ما، كما فعل الخليفة العباسي المتوكل حيث أرسل نصر بن الأزهر سفيراً إلى إمبراطور الروم ميخائيل الثالث لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم، وإذا كانت اللغة العربية لم تستخدم مصطلح العلاقات الدولية أو الدبلوماسية لأنها مصطلحات لاتينية، إلا أن الدبلوماسية وقواعدها عرفها العرب قبل أن تظهر في أوروبا بقرون".
تولت بريطانيا بعد احتلالها للعراق في عام 1917 إدارة كافة شؤون العراق الخارجية، وذلك بواسطة السفارات والقنصليات التابعة لها، وبعد تأسيس المملكة العراقية في عام 1921 أصبح للعراق تمثيل سياسي في الخارج، إذ خولت المادة (الخامسة) من معاهدة التحالف بين العراق وبريطانيا لسنة 1922 ملك العراق حق التمثيل السياسي في لندن وغيرها من عواصم العالم الأخرى، وفي عام 1924 تقدم رئيس الوزراء آنذاك (ياسين الهاشمي) بمقترح لتأسيس وزارة الخارجية خلال الجلسة الوزارية التي انعقدت بتأريخ (24 تشرين الثاني)، تم الاتفاق على أن يتولى رئيس الوزراء مسؤوليتها وتكون جزءاً من مهامه، وبعد موافقة الملك (فيصل الأول) على التوصية المرفوعة له بشأن إنشاء وزارة الخارجية، صدرت الإرادة الملكية المرقمة (753) في (24/11/1924) بتأسيس وزارة الخارجية، وأسندت مهامها إلى (ياسين الهاشمي) لكونه رئيساً للوزراء آنذاك، وبذلك أصبح الهاشمي أول من تولى مهام وزارة الخارجية في العراق، وأعقبه بعد استقالته (عبد المحسن السعدون) الذي تشكلت وزارته بتاريخ (26 حزيران 1925)، وبعد قبول العراق في منظمة عصبة الأمم بتأريخ (3 تشرين الأول 1932)، لم تعد مسؤولية وزارة الخارجية العراقية من مهام رئيس الوزراء، إذ أصبحت مسؤولياتها تسند لمن تعهد إليه الوزارة، وجدير بالذكر أن (عبد القادر رشيد) هو أول وزير للخارجية يشغل المنصب أصالةٍ عام 1832.
مرّت السياسة الخارجية العراقية منذ نشوئها الذي اشتمل على تمثيل من الشباب من مختلف الطوائف تأكيدا للهوية العراقية بمراحل ومحطّات عديدة اتّسمت في أغلب الأحيان بالمرونة والثبات والشجاعة بأبداء الرأي في القضايا العادلة وانحيازها لقضايا العرب المصيرية، وأهمها القضية الفلسطينية، وقد لعبت الدبلوماسية العراقية دوراً فاعلاً ومحورياً في تحقيق الإنجازات الوطنية، وهي على الدوام أداة أساسية لخدمة الأجندة الوطنية وأهدافها السامية، وتمكنت من إيجاد مركز حيوي ومكانة مؤثرة سياسياً لها. وهذا التأثير لا يقتصر فقط على الصعيدين العربي والإقليمي، بل يشمل أيضاً الصعيد الدولي، كما لنها تجنبت الاصطفاف وراء محاور إقليمية ودولية ضمانا لاستقلال قرارها الوطني، ووصلت إلى المنصات الدولية وكانت حاضرة في القضايا الدولية التي كانت تؤرق المجتمع الدولي، خلال مسيرة وزارة الخارجية منذ تأسيسها والى احتلال العراق، قاد العمل فيها عدداً كبيرا من رجال الدولة المشهود لهم بالكفاءة وحسن التقدير، وواصلت الأجيال المتعاقبة من وكلاء وسفراء مدنيين وعسكريين ودبلوماسيين المسيرة وحافظت على سيادة العراق ودعم مقومات استقلاله والدفاع عن مصالحه في الخارج.
زخرت ذاكرة العراق أسماء وعناوين لشخصيات كانت لها مكانات وابداعات وادوار مؤثرة وجلية في ميادين عدة بعضها غادر الحياة تاركا وراءه ارثاً تنهل منه الأجيال، واعطت حياتهم العلمية والمهنية والاجتماعية وحتى السياسية مناراً للاقتداء، كتبنا عن البعض منهم لتكون بصماتهم باقية تتناقلها الأجيال، ومع ذلك، قلما تجد من كتب عن الدبلوماسيين الذين كانت لهم بصمات وادوار بارزة في عملهم في وزارة الخارجية العراقية منذ تأسيس الدولة وحتى يومنا هذا وانصف تاريخهم، ولتوخي الحقيقة بعيدا عن العواطف والاهواء والتأثيرات أيا كان نوعها، قدحت فكرة الكتابة عن شخصيات مرموقة لنا معها تأريخ في العمل الدبلوماسي وهي تستحق ان يكتب عنها، ونبدأها مع واحد من أعمدة الدبلوماسية العراقية عصمت كتاني وأحد ورموزها المضيئة على مر العصور، لما لهذا الرجل الذي راكم في جعبته سنينَ طوالاً من الخبرة؟ و لشهرته التي اكتسبها في السلك الدبلوماسي العراقي ومن سمعته كخبير عالمي في تسوية النزاعات الدولية، سنحاول بكل سعادة واستحقاق في توثيق مسيرته وادواره الوظيفية، لقد كان من حسن حظي أن أتمكن من العمل مع السفير عصمت منذ سنة 1980 حين ترأسه وفد العراق لاجتماعات المراجعة لاتفاقية حضر الأسلحة النووية وكنت احد أعضاء الوفد العراقي بمعية الدكتور رحيم عبد الكتل، وكذلك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ترأسها عام 1981-1982.


عصمت طه كتاني (1929-2001)
ولد عصمت كتاني في *قرية كاني سينج* *قرب العمادية*، التابعة للواء الموصل سنة 1929 من أسرة كوردية من عشيرة "نيروة"، كان والده الحاج طه يشتغل بالفلاحة، نشأ في ظروفٍ صعبة، وكان يحبذ الإشارة إلى أنه لم يرَ ضوءًا كهربائيًا حتى بلغ الثانية عشرة من عمره.
أنهى دراسته الثانوية سنة 1946 في الديوانية حيث كان عمه عزت يعيش هناك، حائزا على المرتبة الأولى.
في سن السابعة عشر عام 1946 حصل كتاني على منحة دراسية للدراسة في الخارج، وبتشجيع من أخيه الذي كان يدرس في جامعة كاليفورنيا، اختار الالتحاق بكلية نوكس في غاليسبورغ، لويزيانا في الولايات المتحدة الامريكية، وهو في السابعة عشرة من عمره، خلال فترة دراسته في نوكس، لعب دورًا فاعلًا في شؤون الطلاب، حيث عمل عضوًا في مجلس الطلاب، ورئيسًا لنظام ميثاق الشرف الذي وُضع حديثًا. كما كان عضوًا فاعلًا في نادي العلاقات الدولية، وتخرج عام 1951 بدرجة بكالوريوس بامتياز في العلوم السياسية في العلاقات الدولية.
عاد إلى العراق، في عام 1952، عمل مدرسًا للغة الإنكليزية في المدرسة الثانوية في اربيل لفترة وجيزة قبل أن يلتحق بقسم الشؤون الدولية في وزارة الخارجية العراقية، وقضى اول عامين فيها، وفي عام 1954 عين ملحقًا في السفارة العراقية بالقاهرة.
خدم في بعثة العراق لدى الأمم المتحدة من عام 1957 إلى عام 1961 حيث كان مندوباً في عدد من المجالس من بينها مجلس الامن التابع للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، بعدها ارسل ليعمل مندوبا للعراق في جنيف سويسرا للفترة من عام،1961-1964، وفي العام 1964 انتخب اميناً للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في نيويورك، و في عام 1971 اعيرت خدماته الى الأمم المتحدة أصبح مساعدًا للأمين العام للشؤون المشتركة بين الوكالات، وفي عام 1973 أصبح رئيسًا لمكتب الأمين العام كورت فالدهايم، وبقى في نيويورك حتى عام 1975.
عاد إلى بغداد عام 1975 وعين رئيسا لدائرة المنظمات الدولية في وزارة الخارجية ح وكيلا للوزارة، وكان عليه القيام برحلات متكررة ذهابا وإيابا إلى نيويورك، ظل شجاعاً في الدفاع عن مصالح وطنه، ورافعا رايته خفاقة بين الأمم في كافة المحافل الدولية. كما كان مدافعا بقوة عن قضايا العرب، ولم ينحاز الى قوميته الكردية، لكنه انحاز بشدة إلى عراقيته، وسيظل التاريخ شاهدا على الدور الوطني الغيور الذي قام به في المحافل الدولية.
في عام 1979، أثناء عمله في السلك الدبلوماسي العراقي، ترأس كتانيّ لجنة تابعة لحركة عدم الانحياز، اجتمعت في القاهرة لمراجعة اقتراح لإدانة مصر بسبب تقارب الرئيس السادات مع إسرائيل، والمواقف التي اتخذها بشأن سلسلة من القضايا المثيرة للجدل، وقد أشار بطرس غالي، نائب وزير الخارجية المصري آنذاك، في مذكراته إلى أن كتانيّ، أنقذ الموقف لمصر، ومنع طردها من الحركة لاحقًا، بصفته أمينًا عامًا للأمم المتحدة، أبدى بطرس غالي مرارًا وتكرارًا امتنانه وتقديره الكبير لكتاني.
يمتلئ تاريخ الدبلوماسي المحنك بخصال راقية عصمت كتاني بمحطات مؤثرة في تاريخ المنظمات والمؤتمرات وساهم بكل حكمة وحنكة واقتدار في أداء مسؤولياته لمناطة به:
ففي عام 1980 ترأس مؤتمر المراجعة الاول لمعاهدة الحد من الانتشار الاسلحة النووية في جنيف عصمت كتاني وكيل وزارة الخارجية في حينه استطاع ان يقود الاجتماعات بشكل متميز وبكفاءة عالية، وكان وفد العراق بالاظافة له يتكون من الدكتور رحيم عبد الكتل وسرور ميرزا.
ترأس كتاني الجمعية العامة للأمم المتحدة 1981-1982، واظهر قيادة متميزة في توجيه اعمال الجمعية امام التحديات في فترة الحرب الباردة، انه شخصية مألوفة لدى الوفود والأمم وتذكر له خدماته المتميزة ، حيث عمل امام المنصة وخلفها وفيها أثبت عصمت كتاني أنه رجل المهمات ببصيرته وتفانيه في سبيل تحقيق رؤاه، كان ذكيًا ودقيق للتحليل، يجمع بين الهدوء والرصانة ومنفتحًا على التنازلات، وقدّره زملاؤه "حتى عندما اختلفوا معه"، لكن بعد احتلال الكويت، بدأت بريطانيا والولايات المتحدة تُبديان تحفظاتٍ على ولع بطرس غالي بكتانيّ واستخدامه المتكرر للعراقيين في مهام خاصة.
عمل كتاني رئيساً لمكتب الأمين العام كورت فالدهايم وكان مستشاراً ملازماً
لخمســة أمنــاء عــامين عهدوا إليه بكثير من المهام الحساسة، فقد أُرسل في سلسلة من المهمات، زار، في أوقات مختلفة، يوغوسلافيا السابقة والصومال وطاجيكستان وجورجيا، مع ذلك كان دبلوماسيًا محترفًا للغاية، وقد واجه كتاني فترةً صعبةً للغاية في الصومال، حيث أرسله بطرس غالي ليحل محل محمد سحنون، الذي فقد حظوته لدى الأمين العام لانتقاده سياسة الأمم المتحدة في البلاد، فلم يتمكن من تحقيق أي تقدم مع الفصائل المتحاربة.
في أوائـل التسـعينات ارسل ممثـلا خاصـا للأمـين العــام في المؤتمر العالمي
الرابع للمرأة المعقود في بيجـين في عـام 1995 وقد أدى مهمته بتميز كبير.
سيظل التاريخ شاهدا على الدور الوطني الغيور الذي قام به في المحافل الدولية.
كان مدافعا بقوة عن قضايا العرب، ولم ينحاز الى قوميته الكردية، لكنه انحاز بشدة إلى عراقيته، وسيظل التاريخ شاهدا على الدور الوطني الغيور الذي قام به في المحافل الدولية.
ترك مكتبة دبلوماسية زاخرة بالكتب السياسية والتأريخية والأدبية بلغات مختلفة في جنيف. أوصى قبل وفاته بأنشاء دار للرعاية الاجتماعية في قطعة الارض التي تملكها اسرته (كاني سنج) القريبة من العمادية وقد خصص في وصيته مبلغاً يتراوح بين (100- 150) الف دولار لهذه الغاية على ان ينشأ مشروع صناعي انتاجي لخدمة سكان المنطقة ولتمويل الدار.
توفي متأثرا بالسرطان في جنيف، وقد نقل جثمانه إلى بغداد ومنها إلى العمادية ووري جثمانه الثرى في مسقط رأسه في كاني سنج. وقد شارك الأستاذ طارق عزيز في مراسم التشييع ممثلا لرئاسة الجمهورية، وحضور مجلس الفاتحة الذي اقيم في بغداد، كما اقيم حفل تأبيني له في اربعينيته في قاعة الشيخ عبدالقادر الكيلاني بتاريخ 17/ 12/ 2001 القيت فيه عدة كلمات اشادت كلها بكفاءة ونزاهة الدبلوماسي القدير عصمت كتاني، وقد ترك خلفه ابنه دارا.
قال السيد الامين العام كوفي عنان في بيان صدر في نيويورك في رثاء كتاني: "لقد أنجز العديد من المهام الحساسة بمهارة وحكمة بالغتين. كان محبوبًا من عرفوه، ومحترمًا من كل من تواصل معه".
ووصف الأمين العام السيد كتاني، المولود في العمادية بالعراق عام 1929، بأنه "دبلوماسي بارع، يجمع بين رصانة الموظف المدني الدولي والمعرفة الدقيقة بالعملية الحكومية الدولية".
كما اضاف: "عندما تقاعد من عمله في المنظمة، قال في خطاب وداعه إنه لا يُجبر أحد على العمل في الأمم المتحدة؛ بل إن المرء يفعل ذلك لإيمانه بأهدافها". وأضاف: "كان عصمت كتاني شخصًا ساعدنا جميعًا على ترسيخ هذا الإيمان، وجعل عملنا هنا أكثر فائدة".
وعبر رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة للدورة السادسة والخمسين السيد سونز سو من كوريا الجنوبية لتـأبين سـعادة السـيد عصمـت كتـاني، رئيـس الجمعيـة العامـة في دورتها السادسة والثلاثين، اذ قال: مـن الواجـب المحـزن أن أقوم بإبلاغ أعضــاء الجمعيـة بوفـاة سـعادة السـيد عصمـت كتاني من العراق،
لقد كان الســيد كتــاني رئيســا للجمعيــة العامــة في دورـتهـا السادســة والثلاثــين في عــام 1981 وبالإضافــــة إلى ذلك، فقد كـان السـيد كتـاني دبلوماسـيا معروفـا جيـدا خـدم بلده في العديد من المناصب الرفيعة. كمـا عمـل السـيد كتـاني لوقــت طويــل في وظــائف بــارزة في الأمــم المتحــــدة، فقـــدم خدماته للأمناء العامين السابقين في فترات مختلفة بصفته أمينـا عاما مساعدا ورئيسا لمكتب الأمـين العـام ومستشـارا خاصـا، وكذلك ممثلا خاصا للأمين العام في بعـض البعثـات الحساسـة للغاية. إنـه سيـذكر كدبلوماسـي ومفـاوض بـارع، لإخلاصـه والتزامه بمثل ومبادئ الأمم المتحدة.
كما عبر نائب المين العام للأمم المتحدة: لقـــد اجتمعنا اليوم لتأبين عضـو لا يــنسى مـن أعضـاء أسـرة الأمـم المتحـدة. لقـد كـان عصمـت كتــاني صديقــا وزميــلا ومعلمــا وملهما لعدد لا يـحصـى من الناس. لقد أحبـه كـل مـن عرفـه واحترمه كل من اتصـل بــه. ولقـد اسـتفادت منظمتنـا لعقـود عـدة مـن حكمتـه وخبرتـه ومهاراتـه الدبلوماســـية ومــن دفء إنسانيته ورقتـه.
وقال الاخضر الابراهيمي يرثيه: "لم أجد دبلوماسياً ألمع وأكثر حضوراً منه"
"عصمت من الديبلوماسيين الذين افتخر بهم!". اما عميد السلك الديبلوماسي العربي في الامم المتحدة السفير عبد الله الاشطل فقد قال ان كتاني "ألمع ديبلوماسي عربي عرفته الامم المتحدة".
يعاني العراق اليوم ظروف عدم الاستقرار السياسي، نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية، فضلاً عن وضع داخلي غير موحد، وخلافات في المواقف السياسية جعلت مواقفه السياسية الخارجية غير موحدة، فالسياسة الخارجية هي انعكاس للسياسة الداخلية، وبشكل عام يمكن توصيف السياسة الخارجية العراقية بعد عام 2003 على اقل تقدير بأنها سياسة مضطربة عانت من عدم وضوح الرؤية والتوجه، عاجزت عن إنتاج سياسة خارجية مستقلة، كما ان وزارة الخارجية فقدت تقاليدها المعروفة في اعداد الكوادر الدبلوماسية من خلال معهد الخدمة الخارجية، ونظامها المعروف في طرق انتقاء العمل الوظيفي في مناطق العالم حسب اهتمام البلد، والتي أصبحت الان وفق المحاصصة لتعيين السفراء بعيدة عن الكفاءات لدرجة فقد جرى تعين سفراء لا يحملون شهادات جامعية، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1361 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع