من جحد جذره أضاع أمره: ملحمة الهوية والانتماء

إبراهيم فاضل الناصري


من جحد جذره أضاع أمره: ملحمة الهوية والانتماء

في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتهاوى فيه المواقف كما تتهاوى أوراق الخريف تحت عواصف الرياح، يظل الأصل والجذر صخرة صامدة، وحجر الزاوية الذي يقوم عليه بناء الإنسان وهويته، وهو المِرساة التي تحمي النفس من تيارات الضياع والانجراف. وبعد أن خرست الأبواق، وتوقفت الدنابك التي أرهقت الأسماع بصخبها، وانطوت لافتات وصور المواسم الانتخابية كأوراق ذابلة بعد عاصفة الصيف، يعود الناس إلى انتماءاتهم الحقيقية، كلٌّ إلى كراعه، إلى أصله، إلى لقبه العريق، حيث الطمأنينة والذاكرة والتاريخ الذي لا يشيخ.
لكن هناك أولئك الذين ضلّوا الطريق، الذين تشوّهت رؤيتهم، ولم يعرفوا لهم جذورًا، ولا أثرًا في ذاكرة الأرض يربطهم بمهد أو منبت، ولا خيطًا يثبتهم في خريطة الحياة. أولئك الذين خلعوا أنسابهم كما تُخلع أردية المهرّجين، واستبدلوا ألقابهم كما تُبدّل الأقنعة في ملهى الصخب، ظنّوا أن الانتماء مجرد شعار يُرفع ساعة المصلحة، وأن الأصل يمكن رميه جانبًا كما تُرمى رماد النار الباردة، كأن الجذر ترف موسمي أو عبء ثقيل على أكتاف الطامحين إلى الزيف والسطو على الحقيقة.
إن هذا الإنكار للجذور ليس مجرد خيانة للذاكرة الفردية، بل هو هدم للتراث وإلغاء للقيم والأعراف، واعتداء على جذور المجتمع ذاته. فالهوية ليست كلمات تتداولها الشفاه، بل شبكة معقدة من الدم والتربة والتاريخ والعلاقات، من نبض الأرض إلى نبض القلب، لا تُلغى أو تُستبدل لمجرد نزوة عابرة. حين يفرّ الإنسان من أصله، فإنه يفرّ في الحقيقة من ذاته، ويصبح غريبًا في عالمه، حتى وإن ارتدى أقنعة الولاء الزائف وزخارف الانتماء المؤقت.
أيها المنكرون للجذور، يا من خنتم الطين الذي أنجبكم، وظننتم أن الهوية ورقة تُبدّل عند أول منعطف، أأنتم تظنون أن الانتساب كخلع الرداء؟ أم حسبتم أن الأصل يُستبدل كما تُستبدل ساعة في معصم مترف؟ لقد ارتكبتم خطيئة لا يغفرها التاريخ، ولا يمحوها الزمان، فأنتم لم تخونوا أسماءكم فحسب، بل سحقتم شرف الإرث، ووأدتم النواميس والقيم والعادات، ودفنتم نخوة الأسلاف تحت رماد طموحات باردة لا دفء فيها ولا ضمير، ودثرتم الوفاء تحت أكوام الشعارات المزيّفة والعهود المكسورة، كأنكم أطفأتم شمعة الزمن وألقمتم الظلام مفتاحًا للغرق.
وستظل المرايا تذكركم بذلك كلما نظرتم فيها، لأن ملامح الخيانة لا تُخفى، ولو طُليت بألوان الولاء المزيف. وجوهكم ستفضحكم ولو لبستم ألف قناع، والطين الذي جحدتموه سيبقى شاهدًا عليكم، يهمس في أذانكم أن من يفرّ من جذره يسقط في هاوية لا قرار لها، وأن من ينكر أصله يُنفى عن نفسه قبل أن يُنفى عن الناس.
الأصل، أيها المتخلّعون عن جذوركم، لا يُشترى ولا يُستعار، ولا يُقايض في سوق السياسة، ولا يُرهن في مزاد المناصب. الأرض تعرف أبناءها، حتى وإن أنكرها العاقّون، والسماء لا تظلّل من تطاول عليها. ومن باع جذره لن يجد ظلًّا في الظهيرة، ولا قبراً حين يأتي المساء، لأن من جحد أصله فقد خسر كل شيء: الكرامة، النسب، الهوية، والميراث النفسي والوجداني، وحقه في الانتماء إلى التاريخ العظيم لأجداده.
إن فهم العلاقة بين الإنسان وجذوره هو دعوة صادقة لإعادة الاعتبار للذاكرة، للوفاء للأرض، وللتمسك بالشرف الذي لا يقدر بثمن. فالهوية ليست شعارًا يُرفع، بل موقف يُعاش ويُحمى، والتاريخ ليس ورقة تُطوى، بل حصاد يُرعى، وجذور تُصان، وذاكرة تُعاد إليها الهيبة والاحترام. وفي زمن تتلاشى فيه الحدود بين المصلحة والطموح، يظل الأصل صخرة لا تنكسر، والهوية شعلة لا تنطفئ، نبراس يضيء لمن عرف قيمته وتمسك بجذوره، وحصن يحميه من الرياح العاتية للضياع والانحراف.
الذين يفرّون من جذورهم يواجهون فراغًا وجوديًا لا يملأه أي انتماء مؤقت، ولا تعوّضه أي مكاسب زائلة أو سراب زائف، بينما من يعرف أصله ويحتفظ بهويته يجد نفسه ممتدًا في الأرض والزمان، متشابكًا مع ذاكرة أجداده، متماسكًا بالكرامة، وقادرًا على أن يبني مستقبله على صخر ثابت من الوفاء والتاريخ العريق.
فمن جحد جذره أضاع أمره، ومن تمسك بأصله امتلك مفاتيح ذاته وعالمه، واقترب من الخلود الرمزي الذي يتركه من يلتزم بالذاكرة، ويصون الجذور، ويزرع الوفاء في الأرض والزمان. ومن تنكر للأصول واركانها ونواميسها سوف تطارده الآفات.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1322 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع