
"العنبة بالصمون طعام الشارع، وجبة لذيذة احبها الصغار والكبار"

في غربتنا تعصرنا آلام الحنين ومحبة الوطن، فلوطن ليس مجرد مكان نعيش فيه، بل هو الهوية والجذور والانتماء، ومهما ابتعدنا عنه تبقى أرواحنا معلقة به، وذكرياتنا نابضة في أزقته وشوارعه، هي الأماكن التي نمر بها ولكن مكان النشأة ومرتع الصبا لا يزال يحيا مع الوجدان، لتعيد إلى أنفسنا وحنيننا دفء الشعور، هذه الذكريات لا تنسى وتبقى محفورة بالقلب والعقل حيث ترافقنا في رحلة حياتنا إلى أي مكان نحط فيه، فتكون مؤلمة رغم جمالها وتحول الحياة إلى سلسلة من الأحاسيس الإنسانية الرقيقة كلما توغلنا في زرقة مياه الذكريات فتموجاته ترسل تعابير الشوق لتكشف الكثير والحسن المثير إلى ردهات قلوبنا، وليست الذكريات وحدها ما تجعلنا نبتعد عن الرقاد حتى نستسلم النوم بحلم جميل في بستان يصدح عنها أصواتا سيمفونية جميلة تتربع علي عرش القلوب ونغمات شذية كرقصة شرقية على وقع الحب.
تجذب منطقة جميرا في دبي بشواطئها الخلابة وفيلاتها الفاخرة ومتاجرها الفاخرة ومطاعمها ومناظرها الطبيعية الكثير من سكان المدينة وزوارها خلال كل الأيام، لما لها من تأثير سحري على النفوس سواء في منحها فرصة للالتقاء والمتعة في أحضان جمال تكويناتها،
وعند مطعم كباب أربيل احدد افضل المطاعم العراقية والمتميز بديكوراته الجميلة وخدماته الممتازة كانت لنا جلسة غداء مع الأصدقاء..
استمتعنا بوجبة متنوعة من السمك المسكوف والكباب والمقبلات، ومنها ينطلق حديث الحوار حول شؤون بلدنا ومتابعة احداث الساعة وغيرها كما يسميها العراقيون شكو ماكو،

كانت العنبة حاضرة بكل نكهتها كمطيبات للسمك والاستخدامات الأخرى لها، وتشعب الحديث عن العنبة وكيف هي صلصة عراقية بامتياز وكيف جاءت الى العراق وما هي استعمالاتها، وطلب احد الأصدقاء ان نكتب عنها باعتبارها احدى اكلات الشارع وتفنن العراقيون في استحداث الكثير من الطرق لتقديمها، والتي أصبحت جزأ من الموروث العراقي، وبهذه الشذرات من الحوار بدأنا رحلة مشوقة لتذكر ذلك وبكل شوق وحنين وما مكاناً ولا زماناً يغيب عن ذاكرتنا بدأ قلمنا يكتب وسيستمر بالكتابة لطقوس العمبة واستخداماتها كجزء من الوجبات العراقية.

تمثّل العمبة او العنبة إحدى أشهر وجبات الشارع في ازقة بغداد وبعض المحافظات ، وهي عراقية بامتياز، وترتبط بذكريات الطفولة والوجبات الشعبية، اذ تعتبر رمزاً لثقافة اكل الشارع العراقي، اعتاد العراقيون تناولها نظرا لسهولة توفيرها، فرائحة التاريخ تتسلل إلى أنفك وبريق الماضي يضئ أمام عينيك وأنت تتابع بشغف اكلة العنبة "أيام زمان" والتي ارتبطت ذكرياتها عند الكثيرين وهم يشاهدون عربات بائعي الصمون والعنبة المتجولين في ازقة بغداد.

العمبة اكلة لم يعرفها اجدادنا في العهد العباسي او العثماني، من المؤكد انها قد نشأت في الهند كما هي الحال بالنسبة للتوابل، وكان التجار اليهود العراقيون الذين هاجروا الى الهند واستقروا في مومباي، عملوا على استيراد التمور و الخيول العربية من العراق و توريد التوابل الهندية الى الشورجة، وهناك تعلموا على اكلة العمبة المخللة بالكاري..

تروي بعض الحكايات المتداولة أن عائلة ساسون اليهودية البغدادية هي التي ابتكرت صلصة العمبة عندما كانت تستورد من الهند براميل متوسطة الحجم من الخشب فاكهة المانجا المغمسة بالحامض وصولاً إلى ميناء البصرة، ثم بعدها دخلت الأسواق قناني زجاجيه تحوي العنبة علامة الجمل او علامة السفينة.
تفنن باعة الشورجه بعمل خلطات من مسحوق التوابل تمزج مع الماء الساخن لتكون مزيجا ثخينا يشابه العنبه الهنديه، والكثير من العراقيين يطلقون عليها الشريس والسبب في لزوجة العنبة هي إضافة مسحوق البامية بعد تجفيفها حسب ما علمناه من احد تجار الشورجة.

ارتبطت بصورة خاصة بأكل السمك المسكوف و الكبة البرغل، حتى لم يعد من الممكن ان نتصور سمكة مسقوف في شارع ابي نواس بدون عمبة و طماطا.
اخذ اليهود الذين هاجروا الى اسرائيل معهم اكلة العنبة، واشاعوها هناك، وهكذا اخترقت العنبة قائمة المقبلات في إسرائيل وامسى لها حضورا متميزاً.
من ذكريات الطفولة أيام الدراسة وامام باب المدرسة التي لا تنسى، تتواجد عربانة بائع العمبة ذلك المكان المقدس بالنسبة للتلاميذ، تسمع ينادي بها: وكان هناك من يضع (العمبة) في برميل صغير وسلة الصمون صارخاً بأعلى صوتهِ (صمون بالعمبة ألحك ياولد) وكانت الصمونه تقطع لأربع أجزاء كل جزء بخمس فلوس، وكنت كلما تذوقت تلك الأكلة البسيطة الطيبة أشعر بأني شبعت، واعتبرها طقس من طقوس المدرسة لازالت عالقة في اذهاني، وكثيراً من بائعي العمبة يعملوها مخلوطة مع العمبة الأصلية، ومنهم من يضع شرائح الشجر اوشرائح البطاطا وعلى أساس أنها شرائح المانكو، تطورت لفة العنبة واصبح يضاف اليها البيض، وعند انتشار لفة الفلافل التي تتكون من "الصمون"، وتوضع في داخله حبات الفلافل بعد طهيها بالزيت، وتضاف إليها العمبة، ومن اكثر الذين اشتهروا بتقديمها في بغداد الجديدة هو فالح والذي عرفه البغداديون ب (أبو العمبة) صاحب واحد من أقدم محلات (الفلافل) في بغداد الذي اجاد باضافة (صلصة العمبة) الى لفات (الفلافل) لتصبح (الفلافل بالعمبة) شيئا مميزا وخاصا بالذوق العراقي.

رزوقي أبو العنبه اشهر بائع في الاعظمية، كان لوحده المصدر المهم للتمتع بلفة شهية من العنبة المحلية التي يعملها بيده مع البيض والطماطة، في عربة يدفعها قانعا برزقه تفوح منها أعطر رائحة، وكان طلاب ثانوية الاعظمية يشترون منه من خلال البوابة الخلفية لثانوية الأعظمية دون ما تعترض ادارة المدرسة ولا مضايقات، وبعد العصر امام سينما الاعظمية، شخصية ظريفة وصاحب نكتة، كريما في تعامله، احب كثير من المعاظمة العنبة عن طريقه، دائما نخاطب رزوقي الله يخليك شوية جماله وبابتسامته المعهودة يضيف قطعة صغيرة أخرى من العمبة، وهو يقول بان العمبة التي يبيعها تختلف عن اي عمبة في بغداد، اي أنها ليست شريس، اما من يطلب العمبه بالبيض فيجيب ضاحكا البيض اصلي مال العرب اي انه بيض دجاج يتربى في البيوت!!، كان يبيع لفة العنبة بالصمون مع بيضة واحدة بسعر خمسون فلسا فقط، أما قاسم أبو البايسكلات وبطل الدراجات الشهير الذي كان محله مقابل محكمة التمييز، اشتهر ببيع العنبة مع روست اللحم او البيض، وبالرغم من المسافة القريبة جدا بين دكان قاسم عربة ارزوقي فلا وجود للحسد والتنافس بينهما.
عندما كنا طلاب نتندر فيما بيننا عند التوجه على اكلة العمبه نقلب المعنى ونقول لنأكل (صمبة وعمون)!!.
مثلت العمبة، حكاية خلطة متنوعة مبتكرة لشعب واع و مبدع وذواق، له خصوصيته وهويته التى هى عصية عن التقليد، لا أظن عراقياً من كل المستويات الا وله مع عشق العمبة حكايات لا تنتهى لأنها راسخة فى روحه مستمرة متجددة جذابة ساحرة وفاتنة ، ستبقى العمبة قيمة رمزية خاصّة عند العراقيين في الداخل والخارج لا يستطيع أيّ طبق آخر أن يأخذها منه، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود

817 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع