"غيرترود بيل" الجاسوسة التي رسمت حدود العراق

       

          انتحرت بيل قبل أن ترى تداعيات قراراتها بخصوص العراق

مي خلف - الخليج أونلاين:قبل أن تدخل غرفتها في بيتها ببغداد، وتتناول حفنة من الأقراص المنوّمة لتنهي بذلك حياتها عام 1926، شكّلت غيرترود بيل فعلياً الشرق الأوسط الجديد، ورسمت حدود العراق، وبذلت كلّ ما لديها من علم ومهارات وحنكة لوضع النظام السياسي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تدخلت بتشكيل نظام الملكية الدستورية في العراق، وتنصيب الملك فيصل حاكماً له، بالتنسيق مع الاستعمار البريطاني الذي اتخذ "مكتب القاهرة" مكاناً للتخطيط.

"كانت بيل صديقة ومصدر ثقة الملك الجديد فيصل، ومحركاً أساسياً لرسم حدود الدولة وتأسيس الملكية الدستورية هناك، إضافة للبرلمان ومرافق الخدمات المدنية والنظام القضائي"، بحسب ما قالت ليورا لوكيتز في كتابها "السعي في الشرق الأوسط: جيرترود بيل وتكوين العراق الحديث"، الصادر عام 2006، ليحكي تفاصيل حياة بيل، ويوثق دورها السياسي واضطرابات حياتها الشخصية.

          

غيرترود بيل، أشهر جاسوسة بريطانية، غابت عن الذاكرة العربية الجمعية لعقود طويلة، على عكس الإصدار الذكوري منها "لورانس العرب"، وذلك على الرغم من أنها كانت أهم امرأة في منظومة الاستعمار البريطاني وفي المنطقة العربية في تلك الفترة، حيث كانت أحد الخبراء الـ39 الذين دعاهم وينستون تشرتشل لمؤتمر القاهرة عام 1921 للتشاور معهم حول مخطط تقسيم الشرق الأوسط في فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية، ورسم حدود الدولة القومية.

فبعد أن كانت أول خريجة بامتياز من جامع أكسفورد قسم التاريخ، أدارت بيل ظهرها للعالم الأرستقراطي الذي ترعرعت فيه في إنجلترا حيث عاشت مع عائلتها النخبوية، لتجوب العالم وصحاريه بصفتها مستكشفة وباحثة في الآثار ومستشرقة.


وبعد أن جابت أرجاء العالم اتجهت بيل لبلاد الفرس، في رحلة مع عمّتها ماري، التي كان زوجها سفيراً إنجليزياً هناك، ومن هنا كانت طهران بوابة بيل للمشرق، فخلال ترحالها الطويل تعلمت لغات عدة، منها العربية والفارسية والتركية، وأتقنتها بشكل كبير، أدت بها لسبر أغوار الحضارة العربية والعادات والثقافة، والتغلغل داخل المجتمع المشرقي، وجمع المعلومات حوله من أحاديث الناس؛ النساء خاصة.

  

- تجليات النسوية المبكرة

لا يعود غياب قصة غيرترود بيل عن الأدبيات العربية– والغربية كذلك- لسبب واضح، لكن ظهورها في حقبة زمنية اتسمت بالذكورية إلى حد بعيد، يعد أحد الأسباب التي غيّبت اسمها عن أذهان المؤرخين الذين جمعوا وكتبوا عن تلك الفترة، على الرغم من أن دورها كان مشابهاً، وربما أكثر أهمية من دور لورانس العرب الذي حظي بذكر أكبر في المؤلفات المكتوبة والمرئية مبكراً.

في هذا السياق تقول المؤرخة والكاتبة لوكيتز: إن "المؤرخين الكبار كانوا رجالاً، ولم يأخذوا (بيل) على محمل الجد لكونها امرأة".

إلى جانب ذلك، نظراً لأن بيل وثقت حياتها عن طريق كتابات شخصية شملت أيضاً أحاديث عن الفساتين واللقاءات الاجتماعية، قد يكون ذلك أسهم في تغييب سيرتها.

عقود طويلة قبل تأسيس الحركة النسوية في الغرب، كان طابع حياة وعمل غيرترود بيل يثير التساؤلات أحياناً والإعجاب في كلّ الأحوال، إذ كان الحيز العام في السياسة خاصة مخصصاً للرجال بشكل كامل، لكن غيرترود كانت المرأة الوحيدة بين الخبراء الذين استعان بهم تشرشل لتشكيل الدول القومية، وترسيم الحدود، وهو ما يثير التساؤلات حول مساهمة بيل– بشكل واعٍ أو غير واعٍ- بالتراكم المستمر الذي أثر لاحقاً على دور المرأة في الحيز العام.

                             

وفي هذا السياق تقول لوكيتز: إن "غيرترود قد تكون هي تجلّي النسوية المبكر، أو نسوية لأجل نفسها (...) فقد نسيت أن النساء المنتميات لطبقة اجتماعية أقل من مكانتها، لم تكن ستتوفر لهن الظروف لتحقيق ما حققته هي".

وتضيف أن بيل لم تتحدَّ أو تنتقد النظام الأبوي في السلطة والمجتمع، بل عملت من خلاله.

- العودة لذاكرة الحاضر

لم يكتب المؤرخون عن غيرترود كثيراً، إلا أنه بعد عقود من التجاهل وجدت الكاتبة والباحثة ليورا لوكيتز كنزاً ثرياً، وهو كتابات ومذكرات أهم مرأة في الإمبراطورية البريطانية، واعتماداً على ما تكشفه الأوراق من تفاصيل حياتها الشخصية، وتقلباتها النفسية، ودورها السياسي، ألفت لوكيتز كتابها وهو السيرة الذاتية الشاملة لحياة بيل، وتعمل حالياً على جزء ثانٍ له.

في الوقت الذي يشهد فيه العراق منذ أكثر من عقد انهياراً مستمراً للنظام السياسي، وتحديات معقدة كثيرة، توثق إصدارات مرئية قصة المرأة التي رسمت حدود العراق، وأنهت حياتها قبل أن تعرف مصيره.

   

ففي فيلم "ملكة الصحراء"– من إنتاج هوليوود 2015- تجسّد الممثلة الأمريكية نيكول كيدمان، شخصية غيرترود ومراحل حياتها، إلا أن نقداً كبيراً واجه الفيلم؛ لكونه يركز بشكل كبير على جانب حياة بيل الرومانسي والاجتماعي، ويظهر أسلوب حياتها الأرستقراطي الذي أخذت جزءاً منه معها إلى الشرق أيضاً.

في حين يضع الفيلم في الهوامش دور غيرترود السياسي البارز وتداعيات تنفيذ مخططها والحدود التي رسمتها للعراق، والذي نتج كما نرى اليوم عن إقامة دول تصنف سنوياً ضمن قوائم الدول "الفاشلة" وتعاني من نزاعات داخلية مستمرة أو من تدخل عسكري أجنبي.

وثمة فيلم آخر: "رسائل من بغداد"، بعد تجنيده لدعم مادي شعبي عبر حملة جمع تبرعات إلكترونية، انتهى العاملون من إنتاجه هذا العام، وهو يعرض صوراً وقصصاً نادرة للمرأة التي استثناها التاريخ من أوراقه. بقالب وثائقي دراميّ يعتمد الفيلم على رسائل بيل ليحكي قصتها الاستثنائية، إذ كان لها دور أكثر تأثيراً من صديقها وزميلها لورانس العرب، الذي خلده ذكر المؤرخين والكتب العربية والأفلام منذ الستينيات.

غيرترود التي استثناها التاريخ، وانتحرت بعد معاناتها من اكتئاب حاد، ساعدت على ترسيم الحدود في الشرق الأوسط، وإقامة متحف العراق. وكان لها موقف مخالف للإنجليز فيما يخص فلسطين والحركة الصهيونية، فقد وجد بين أوراقها رسالة لعائلتها تقول فيها: "أنا أكره الإعلان الصهيوني للسيد بلفور، ففي رأيي ليس هناك إمكانية لتطبيق الأمر، تلك البلاد غير ملائمة لطموح اليهود، فهي أرض فقيرة لا يمكن تطويرها، وثلثا سكانها من العرب المسلمين الذين لا يحبون اليهود، هذا مخطط اصطناعي أتمنى له ألا ينجح".

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع