"الدبلوماسية في العلاقات الدولية، وسام الزهاوي الذي كانت كلماته ومداخلاته تقلق إسرائيل وتتهيب منه"
عرفت الدبلوماسية العراقية برفعتها وأهميتها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة منذ عشرينات القرن الماضي مستنيرة بما تملكه من إرث وانتماء حضاري وقومي، فلا العراق ولا الدبلوماسيين كانوا تابعين لدولة أو جهة ألا من ندر من الشواذ، فهناك بصمات كثيرة في مسيرة الدبلوماسية العراقية، فيها الكثير من الإبداعات والمواقف تطلبتها معطيات ما مر به العراق من أحداث على المستوى الداخلي والخارجي، فالعمل الدبلوماسي أداة تنفيذية هامة لتحقيق السياسية الخارجية لأي دولة، باعتبار أن الدبلوماسية هي المفاهيم والقواعد والإجراءات والمراسم والمؤسسات والأعراف الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية والممثلين الدبلوماسيين، بهدف خدمة المصالح العليا (الأمنية والاقتصادية والسياسات العامة)، تعتبر الدبلوماسية أداة رئيسية من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية للتأثير على الدول والجماعات الخارجية، بهدف استمالتها وكسب تأييدها بوسائل شتى وبالإضافة إلى توصيل المعلومات للحكومات والتفاوض معها، تعنى الدبلوماسية بتعزيز العالقات بين الدول وتطويرها في المجالات المختلفة، وبالدفاع عن مصالح وأشخاص رعاياها في الخارج وتمثيل الحكومات في المناسبات والأحداث، فأنّ العلاقات الدبلوماسية بين الدول، تحكمها اتفاقيات دولية أقرّتْ منذ أوائل أعـوام ســتينات القرن الماضي، وهي المعنية بضبط وتنـظـم شكل وأســـاليب أداء الأجـهـــزة الدبلوماسية لأيّ دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهي التي عرفت باتفاقيتي فيينا.
عندما نتحدث عن تجربة عملية في العمل الدبلوماسي يكون الحديث بالتأكيد عن مرحلة متجزأة، ومرتبطة إما بزمن معين أو بتجربة شخصية محددة، وفي هذا الصدد تجول بخاطري تكملة لما كتبناه عن الدبلوماسي عصمت كتاني وما له من تأثير على المستوى الدولي، فان الدبلوماسي وسام الزهاوي هو الآخر كان له مكانة في المحافل العربية والدولية ذكريات الماضي، وبها ابتعد الى العمق البعيد، لالتمس سنين مرت، فيعانقني الشوق والحنين كأنني في عربة تجول بي إلى أرض الحب والموسيقى والتراث وتجعلني اتذكر أناس خالطتهم وأناس تعرفت عليهم كأنها لوحة رسام يعرف معاني رسوماته ما أجمل الذكرى واطيبها.
وسام شوكت الزهاوي الضليع في الشؤون الدولية، الدبلوماسي العريق بمواقفه الوطنية المشرفة في مختلف ساحات العمل السياسي والدبلوماسي، والده الدكتور شوكت الزهاوي الوزير ومؤسس فرع الباثولوجي، وبيته بيت علم ووجاهة، ينتسب إلى قبيلة (بابان) الكردية، أمراء السليمانية، ولهذه القبيلة شأن كبير في التاريخ الكردي الحديث، اشتهرت أسرة وسام بـ (بالزَّهاوي) نسبة إلى مدينة زَهاو التي كانت امارة مستقلة قريبة من خانقين، وكانت الأسر الكردية الشهيرة تقود الثورات ضد الصفويين تارة، وضد العثمانيين تارة أخرى، ويضطر بعض أبنائها، نتيجة فشل ثوراتهم، للانتقال من المنطقة الواقعة ضمن النفوذ الصفوي إلى المنطقة الواقعة ضمن النفوذ العثماني، وهؤلاء ينمتون إلى خالد بن الوليد،
والدته اخت غازي الداغستاني، عم والده جميل صدقي الزهاوي، الشاعر الفيلسوف والداعية الاجتماعية ونصير المرأة وحريتها، اخوه الصديق الأستاذ مازن الزهاوي الضليع في الأدب الإنكليزي والمترجم المحترف.
وسام الزهاوي من مواليد بغداد عام 1931، تربى في أحضان العلم ودرس في المدارس حيث حصل على الشهادة الثانوية والتحق بإحدى الجامعات الامريكية وحصل على اختصاص في العلاقات الدولية والتحق بالعمل بالسلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية عام 1961او بداية 1962، وخدم في عدد من البعثات الدبلوماسية في المانيا، والنمسا، وفي البعثة الدبلوماسية في الأمم المتحدة، تقلد عدة مناصب مهمة في وزارة الخارجية منها سفيرا ورئيس دائرة المنظمات ووكيل وزارة الخارجية العراقية في فترة الثمانينات وبداية التسعينات كانت حياته الوظيفية التي استمرت اكثر من 40عاما ،مليئة بالبذل والعطاء، في العلاقات الدولية بمختلف أوجهها وتخصصها في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي والدفاع عن القضية الفلسطينية.
الزهاوي رمز من الرموز الشوامخ في تاريخ وزارة الخارجية في العصر الحاضر، يجمع بين الهدوء والحزم الرصين، ودقة التحليل، يملك من الحنكة والمقدرة ان يخاطب المجتمع الدولي بلغة العقل، الوطني الغيور، لننقل ما قاله السفير الشهير الدكتور سعيد الموسوي رئيس دائرة المنظمات في وزارة الخارجية والمندوب السابق للعراق في نيويورك الذي عمل معه منذ أواخر الثمانينات عندما كان وكيلا لوزير الخارجية، "كان دبلوماسيا فذا رصينا مثقفا ضليعا باللغة الإنجليزية وطنيا فريدا وقوميا مؤمنا، وشاركت معه في بعض المؤتمرات في نيويورك، وكان محل احترام الجميع وكانوا يستمعون لكلماته باهتمام ويتفاعلون معها، له مواقف مشهودة في الدفاع عن القضية الفلسطينية في الامم المتحدة، وفوق كل هذا عندما احتل بلده لم ينقلب على النظام السياسي الذي كان جزءا منه، وهذا دليل إضافي على صدق سريرته وطيب منبته".
وسام الزهاوي المحب للموسيقى والاغاني الكلاسيكية لموزارت وباخ وبتهوفن، والاغاني التراثية بما فيها المقام، ويقول احد أصدقائه الأستاذ نذير قيردار "بأن وسام له صوت شجي ويجيد غناء المقام والاغاني التركية، انه مغني كلاسيكي"، من المحبين لارتياد المسارح ودور الاوبرا، وعندما كان يأتي الى فيينا فترة وجودنا هناك، كان يرتاد دار الاوبرا والحفلات الموسيقية.
اكتسب من خلال عمله في السلك الدبلوماسي وغزارة اطلاعه عن القضية الفلسطينية، التخصص في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، في مقالة للكاتب القدير الدكتور سعد ناجي جواد بعنوان(حول اصرار السيدة تيريزا ماي للاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور المشئوم)، ويضيف.. وحول هذا الموضوع وصلتني رسالة بمثابة بحث من السفير والخبير القدير بقضايا الصراع العربي الصهيوني وسام الزهاوي سأقتبس منها بعض الوثائق المهمة، مع إضافات بسيطة مني. "كانت اهم هذه الجرائم اغتيال اللورد والتر ادورد موين المندوب السامي البريطاني في القاهرة عام ١٩٤٤، والذي كان رافضا لفكرة إقامة كيان يهودي في فلسطين، وكان يقول ان مثل هذا الكيان يحب ان ينشأ في بروسيا-ألمانيا، لان جرائم النازية كانت السبب وراء تهجير اليهود، قامت عصابة شتيرن الصهيونية، والمتفرعة عن عصابة الارغون باغتياله وسائقه البريطاني قرب منزله في حي الزمالك في القاهرة.
وتم إلقاء القبض على الفاعلين واعترفوا بانتمائهم. وتبع هذه الجريمة جريمة تفجير فندق الملك داوود في القدس عام ١٩٤٦ والتي قامت بتنفيذها عصابات الأرغون التي كان يرأسها الإرهابي مناحيم بيغن، وذهب ضحيتها واحد وتسعون شخصا من بينهم ثمان وعشرون بريطانيا.
وتعقيبا على هذه الجرائم قال ونستون تشرتشل, رئيس الوزراء البريطاني والمؤيد لإسرائيل، في مجلس العموم (اذا كان لأحلامنا بالصهيونية ان تنتهي بمجموعة من العصابات الاجرامية التي لا تختلف جرائمها عن جرائم النازية، فان الوقت قد حان لإعادة النظر في مواقفنا السابقة. واذا كان هناك أي امل لمستقبل آكثر سلمية ونجاحا للصهيونية فان على الحركة ان توقف أعمالها الشريرة وان تستأصل من يقومون بها من جذورهم).
ولكن القائمين بمثل هذه الاعمال مثل بيغن وشامير وبيريز ورابين وشارون، لم يتم استئصالهم وانما أصبحوا رؤساء وزارات وارتكبوا مجازر أكثر واكبر عندما شغلوا مناصبهم الرسمية هذه، وحظوا بدعم بريطانيا. . وفِي أعقاب مذبحة دير ياسين في عام ١٩٤٨ والتي قتل فيها ٢٥٠ رجلا وأمراءة واطفال قال وزير المستعمرات البريطاني في مجلس العموم في ابريل ١٩٤٨ (ان هذا الاعتداء البربري هو دليل على وحشية القائمين به. انها جريمة تضاف الى سلسلة طويلة من الاعمال الوحشية التي ترتكبها الصهيونية لحد هذا اليوم ولا اجد اي ادانة او استنكار من جانب الحكومة البريطانية). علما ان اغلب قادة المنظمات الارهابية الصهيونية مثل الهاغانا وشتيرن وارغون وغيرهم كانوا على راس قائمة المطلوبين من قبل الشرطة البريطانية لجرائمهم ضد جنود ومسؤولين بريطانيين في فلسطين. ثم توجوا جرائمهم بقتل المبعوث الدولي لفلسطين اللورد فولك برنادوت في سبتمبر ١٩٤٨".
كان لي الشرف وانا في ممثلية العراق لدى الوكالة في فيينا ان احظى واتعلم منه الكثير عند مشاركته في اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة1981_1987 لمناقشة الهجوم الإسرائيلي على مركز الأبحاث النووية العراقي، والذي اعتبر الهجوم على المنشأة النووية العراقية الخاضعة للضمانات بمثابة هجوم على الوكالة ونظام الضمانات الخاص بها، والتوصية بأن ينظر المؤتمر العام تعليق المساعدة الفنية لإسرائيل وحقوق إسرائيل في العضوية إلى أن تقبل تل أبيب أحكام قرار مجلس الأمن رقم (487) الصادر في الـ 19 من يونيو 1981، والذي دعا إسرائيل إلى قبول ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها النووية، بذل الزهاوي بحنكته ومعرفته المتكاملة عن طبيعة وتفكير الإسرائيليون والعارف بالقضية الفلسطينية جهودا جبارة وبارزة لتعرية وفضح الأساليب والممارسات الإسرائيلية والاعيبها، وكانت كلماته ومداخلاته وقوة الحجة لديه حول البند المتعلق بإسرائيل مثار اهتمام واعجاب من الوفود، وكان الاسرائيليون يتحرون دائما من مجي السفير الزهاوي ليتسنى لهم جلب اكبر عدد من دبلوماسيهم للرد على كلماته او مداخلاته، وكنا بدورنا نستنسخ الكلمات والمداخلات ونوزعها على الأعضاء وكان هذا الاجراء يقلق الامريكان والاسرئيليين خوفا من تأثيرها على المستوى العام.
ترأس الوفد العراقي الذي كان يظم ممثلين عن وزارة الخارجية ومنظمة الذرية لمؤتمر المراجعة الخامس لاتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1995 وقد بين موقف العراق في القضايا الخاصة بنزع السلاح سواءً على المستوى الدولي أو المستوى الإقليمي ودور إسرائيل في امتلاك السلاح النووي.
عندما وصل الى سن التقاعد، اختير ان يشغل سفيرا لدى الفاتيكان تقديرا لمكانته ودوره الدبلوماسي في المحافل الدولية.
بعد اكثر من اربعين عامًا من الخبرة الدبلوماسية اريد ان تشوه سمعته من خلال الادعاء بمزاعم ملفقة بشأن صفقة اليورانيوم التي حملت اسمه، اتهمه البريطانيون بمحاولة شراء اليورانيوم من النيجر لصالح برنامج العراق النووي، من خلال «معلومات استخبارية مستقلة»، مشيرة إلى ان مبعوثا عراقيا زار النيجر العام 1999، وهو السفير وسام الزهاوي، وتبنت فرق التفتيش هذا الادعاء، فند العراق الادعاء وحضر السفير وسام الزهاوي امام فريق التفتيش وبين لهم انه ضحية تزوير، وسئل عما إذا كان وقّع رسالة كانت مؤرخة بالسادس من يوليو /تموز 2000، موجهة إلى النيجر بخصوص اليورانيوم. وأجاب بالنفي، كما بين ان الرسالة التي هي بحوزتهم مزورة وان التوقيع فيها ليست توقيعه، وطلب منه لاحقا إرسال توقيعه عبر الفاكس. وقدم نسخا من الرسائل التي كتبها في روما، وهذه الرسائل والوثائق التي بحوزتهم قد اقنعت فريق الوكالة انها كانت مزورة، وبالرغم من أن هذه الدعوى أخذت تتساقط عاملا بعد آخر، الا ان بريطانيا اخذت تركز على زيارة الزهاوي للنيجر بصورة متزايدة، وفي مطلع /آذار 2003، عشية الحرب على العراق، أخبر رئيس الوكالة محمد البرادعي مجلس الأمن ان وثائق النيجر "ليست حقيقية، وليست ذات مصداقية، وانه لا يوجد دليل او اشارة محتملة بان العراق قد اعاد احياء برامجه". ومع ذلك ، استخدمت إدارة بوش ادعاءات الحصول على اليورانيوم من النيجر كأساس رئيسي لشن الحرب.
شغل منصب الأمين العام لمنتدى الفكر العربي، منذ 2004 حتى 2007، الذي يرأسه الأمير الحسن بن طلال، وبعد انتهاء عمله بالمنتدى، اقامت أسرة المنتدى في نادي الملك حسين حفلا خاصا تكريما للأمين العام السابق الاستاذ وسام الزهاوي، وقد أشاد الأمير حسن بالخدمات التي قدمها الاستاذ الزهاوي للمنتدى خلال السنوات الماضية وعمله في الارتقاء بالفكر العربي عامة في ظروف دقيقة، ودوره البارز في الحوارات التي أقامها المنتدى داخل المللكة وفي ارجاء العالم العربي والدول الاجنبية ومساهماته في اثراء الحوارات دون ان يتأثر بالتحديات التي واجهته.
لقد ثبت ان الزهاوي دبلوماسياً رفيع المستوى، وهو من جيل قل نظيره وهو مؤهل على نحو فريد للكتابة عن السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، والصراع العربي – الإسرائيلي، فهو خبير بهذه الشؤون، نتمنى ومعنا الكثير من الدبلوماسيين مناشدة السفير وسام ان يركن لكتابة مذكراته، وخبراته الوظيفية لكي تكون شاهدة للتاريخ، ولكي تدرس في المعهد الدبلوماسي لتكون ذا فائدة لأجيال من الدبلوماسيين، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
601 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع