ظلُّ السيف: ثقافة الميليشيات في جسد العراق النازف

بقلم باندان

ظلُّ السيف: ثقافة الميليشيات في جسد العراق النازف

في الأزقة الملتوية لذاكرة العراق، حيثُ يختلط صدى المدافع مع همسات الأسلاف، تتكرر الأشباح، بوجوه جديدة وأسماء مستعارة: "الخرس القومي" بالأمس، "الجيش الشعبي" بالأمس الأبعد، و"الحشد" اليوم. ليست هذه الكيانات إلا أطيافًا مُسلحةً نُعيد إلباسها ثيابًا جديدة كلما تغير الراعي وبقيت الأيديولوجيا على قيد الحياة.

هنا، لا تُولد الميليشيات من رحم الفوضى، بل من رحم الخوف... ذاك الخوف المقدّس من سقوط الفكرة، من فقدان السيطرة، من لحظةٍ يعترف فيها الوطن أنه بلا سلطة حقيقية. في هذا الفراغ، ينمو الظل المسلّح، حتى يغدو أطول من جسد الدولة نفسها، وأثقل من نصوص دستورها.
نرفع رايات الديمقراطية ونغنّي للفيدرالية، لكن تحت القشرة البراقة، يتنازعنا شقٌّ عميق: دستورٌ يُعلن احتكار الدولة للعنف، وواقعٌ تُنظّم فيه الميليشيات هذا العنف كما لو كان ميراثًا أبديًا. جيش وطني بزيٍّ موحّد، لكنه يحمل ولاءاتٍ متنافرة. برلمان يتلو مواد الدستور، في حين تُنتهك بنوده بصمت البنادق في الأزقة الخلفية.
لماذا نعجز عن كسر هذه الدائرة؟ لأن الميليشيا ليست مجرد بندقية، بل كائنٌ ثقافي متجذّر في اللاوعي. إنها اقتصادٌ موازٍ يحكم من تحت الطاولة، وهويةٌ طائفية تُسكّن قلق الانتماء في غياب دولة المواطنة، وطقوسٌ دينية تُحوّل السلاح إلى معبود يمنح الحياة أو الموت وفق "فتوى".
الميليشيات في العراق ليست طارئة، بل تُشبه الطبقات الرسوبية التي رسختها القرون: من عهد السومريين إلى الفاطميين إلى عصر الاحتلالات، كل لحظة انهيار سلطوي كانت تولّد جسدًا موازيًا يحمل سيفًا وصوتًا ورايةً "خلاصية". لم نُفطم بعد عن حليب العنف، ولم نُحسن استخدام القلم بعد أن تعلّمنا النقش على الطين.
العراقي لا يحمل السلاح فقط للدفاع، بل للتعريف. فالميليشيا تمنح اسمه موقعًا، وانتماءه بُعدًا، ووجوده قيمة. في الأحياء المُنقسمة طائفيًا، السلاح ليس وسيلة للقتل، بل هوية حامية. تتأسّس الولاءات داخل هذه البُنى كأنها قبائل جديدة، لها اقتصادها، تعليمها، إعلامها، وأحيانًا أسواقها.
ثقافة السلاح في العراق تُشبه "الهوسة" في الأعراس الشعبية: طقوس تصعيدية، صاخبة، تُمجّد الفِتنة والقوة، وتُحيي القبيلة تحت جلد الدولة. حين تصبح الهوسة الميدانية بديلاً عن نص الدستور، نعلم أن الخراب لم يعد قادمًا... بل قد وصل.
الدستور العراقي – ذلك النصُّ المقدّس على الورق – لا يزال يحاول تذكيرنا أن الدولة، وحدها، تحتكر العنف المشروع. لكن الواقع يسخر من هذه المادة. في كل محافظة، هناك جيش غير مرئي، يتبع جهة غير معلنة، ويأتمر بأمر غير رسمي، بينما رئيس الوزراء "القائد العام للقوات المسلحة" لا يستطيع أن يُحرّك وحدةً دون موافقة سياسية.
هكذا تصبح السيادة سلعة: تُعرض في سوق المساومات السياسية، وتُشترى بعملاتٍ طائفية. وهكذا تتحول الدولة من جسدٍ حيّ إلى هيكل عظمي، تُمسك به الميليشيات من الرقبة، فيما يظن الشعب أن الدستور سيُحرّك العظام!
أليست هذه الأرض هي التي اخترعت الكتابة؟ هل يُعقل أن نعود من لوح حمورابي إلى لغة الدم؟ بابل التي علّمت البشرية العدالة، تُراقب من وراء القرون كيف تحوّلت ألواح الطين من سجلات حقّ إلى أناشيد تمجيد للغزاة. حضارة بألفي عام من القوانين، نُسيَت لحظةَ أُطلقت أول رصاصة باسم "الشرعية الثورية".
نقف اليوم على مفترقٍ لا يحتمل الحياد. إما أن نعيد الاعتبار للدولة عبر احتكار العنف وفق القانون، أو نستمر في تكريس الفوضى عبر ميليشيات تلد الميليشيات. الفرق بين الدولة والميليشيا ليس فنيًا، بل وجودي: الدولة تصنع زمنها بقوانينها، أما الميليشيا فتسرق الزمن من غيرها بثقافة الرصاص.
الخلاص الحقيقي لا يكمن في تفكيك الميليشيات فحسب، بل في اغتيال الوحش الثقافي الذي يُنجبها كل عقد. علينا أن نقتلع من لاوعينا خرافة "الخلاص الحديدي"، ونزرع بدلاً منها يقينًا واحدًا: لا خلاص للعراق إلا بسيفٍ واحد هو سيف القانون، ورايةٍ واحدة هي راية الدولة، وصوتٍ واحد هو صوت الناخب.
العراقيون اليوم بين فكّي كماشة:
• من فوقهم: شعارات دستورية ترفرف كأعلامٍ بلا سارية.
• ومن تحتهم: ثقافة ميليشياوية تنخر جسد الدولة كسوسٍ صامت.
فهل نختار مطرقة البناء لنرفع سارية الوطن؟ أم نستمر في الرقص على أرضٍ تنشقّ تحت أقدامنا؟
التاريخ لا يرحم من لا يتعلّم، والحضارات لا تُورّث لمن يبيع سيادته بثمن التبعية.
إذا كان السيفُ ظلاً للدولة، فليكن ظلاً واحدًا... وإلا فكلُّ الظلال تقتل النور.
ليس العراق ساحةً للصراع بين الميليشيات والدولة فحسب، بل مسرحٌ تاريخي تتصارع فيه فكرتان:
فكرة تُؤمن أن القانون هو السيف الوحيد القادر على رسم حدود العدالة، وأخرى تُصرّ أن السيوف المتعددة تصنع سلطةً أقوى من القانون.
لكن ما لم ندركه بعد، هو أن الزمن لا يُعيد نفسه عبثاً. كل مرة نسمح فيها لظلّ السيف أن يطغى على نور الدولة، فإننا لا نفقد فقط السيادة، بل نفقد الحق في الغد. فالميليشيا ليست نهايةً آنيّة، بل موتًا مؤجلاً لوطنٍ يسير على حافة المقصلة، يرقص على حبلٍ مشدودٍ بين ماضٍ لم يُدفن، ومستقبل لم يُولد.
إننا لا نحتاج إلى قائدٍ جديد، بل إلى وعيٍ جديد؛ لا إلى راية أخرى، بل إلى جذرٍ ثقافي يُعيد تعريف مفهوم "القوة".
أن تبني دولة، يعني أن تحتكر الشرعية لا بالسلاح، بل بالثقة. أن تحكم شعبًا، يعني أن تُقنعه أن العدالة أقوى من الرصاص، وأن القلم أطول عُمرًا من السيف.
فإما أن نكون أمةً تصنع ظلًّا من النور، أو نبقى ظلالاً تمشي في العتمة... حتى تُمحى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع