
لوحات وتاريخ

الرقم : 475
التاريخ : نوفمبر / 2025
لوحات وتاريخ
ضرغام الدباغ / برلين
من يصنع التاريخ .......؟
سؤال غالباً ما يتداوله فلاسفة التاريخ ومدونوه. الرجال يصنعون التاريخ، أم التاريخ والظروف السهلة أو الصعبة، ثم أن هناك أهمية استثنائية في تكريس التجربة التاريخية بصورة ما، قد تبدع ريشة فنان في رسمها لتطبع الحدث بصورة غير قابلة لأن تمحى، أو أزميل نحات، أو موسيقار يخلد الحدث أو التجربة أو طبيعة الحياة ونكهتها، فتمر مئات أو ألوف السنين شاخصة في الحياة وقد تداولتها أيادي وأذهان أجيال بعد أجيال، تشع في الحياة كعلامة مميزة.
نريد هنا أن نقدم مجموعة من الأعمال الفنية، رسم ونحت بدرجة رئيسية، أعمال تؤشر لأحداث، أو أنها تمنح فكرة عن طبيعة الحياة، أو تشير إلى مجموعة حقائق أكيدة،

اللوحة رقم 1
ومن تلك الجدارية المنحوتة (رقم 1 )التي تشير إلى معركة بين جنود آشوريون وأعراب بدو يستخدمون الجمال في منطقة جزيرة أبن عمر شمال البادية السورية، ولموجودة حالياً في المتحف البريطاني بلندن، وهي تشير بالإضافة لتقنيات قتال من أسلحة ومعدات وملابس، إلى حقيقة تاريخية كبيرة تتمثل بوجود العرب في تلك الأرجاء بقرون عديدة قبل الميلاد ربما تبلغ العشرة قرون.

اللوحة رقم 2
وفي استعراض تماثيل وجداريات من صخور المرمر والغرانيت محفوظة في المتاحف العراقية ومتحف لندن، واللوفر / باريس، وبيرغامون / برلين، نستدل على قيم ثقافية وسياسية كثيرة، منها تلك الجدارية التي تظهر الملك الآشوري ممتطياً عربة قتالية يصيد الأسود بالقوس والسهم، فهي تشير إلى معاني كثيرة .

اللوحة رقم 3
ومعاني مختلفة نجدها في لوحة تمثل واحدة من معجزات العقل البشري في كل العصور وتتمثل ببناء جنائن بابل المعلقة، حيث أبدع العقل العراقي في ابتكار أساليب تصل المياه لأعالي الحدائق لتروي الأشجار والبساتين، في بابل التي كانت حاضرة العالم والإنسانية جمالاً وحكمة وعلماً.

اللوحة رقم 4
وتشير اللوحة رقم 4 إلى رقي الحياة الاجتماعية والثقافية لبابل، وبذخ حياة السكان، التي لم يستقي رسامها الصورة من الخيال، بل من المعطيات التي تطرحها كتب التاريخ التي تشير إلى أن بابل كانت تضم طلاباً يدرسون العلم من أرجاء مختلفة، كما كانت أسواقها عامرة بسلع وبضائع تجعلها قبلة التجار
اللوحة رقم 5
ويشاء الرسام الفرنسي الكبير يوجين ديلاكروا أن يخلد دراما الملك البابلي ساردانبال (حوالي القرن الثامن قبل الميلاد)، الذي قرر الموت على نحو غريب ، إذ يضرم النار في قصره ونفائسه في صورة يمتزج فيها الخيال بالعنف، أثر خيانة قائد جيشه الميدي وتواطئه مع الأعداء.
واللوحة وموت الملك ألهبت خيال الشاعر البريطاني بايرن (اللورد جورج بايرن 1788-1927) وهو مناضل قضى من اجل الحرية في اليونان وهو في شبابه، فأنه اطلع على هذه الدراما ثم شاهد اللوحة الرائعة لديلاكروا، وكتب واحدة من قصائده الرائعة .
كم أحببت وكم عشقت ....
كم مارست الخيال في حياتي .
لم أدع لحظة واحدة من الحب تفلت من يدي
ولكنه الموت....
أنه ليس غريب عني
أنه أسهل مما نتخيل ونتصور ...
حقا ...أنني لم أدع قطرة دم واحدة تهدر عبثا
ما يملأ منه البحار ...
كسيد، لم افعل ذلك
أن يطبع اسمي مقرون بالموت في كل مكان
كان بوسعي أن افعل كل ضروب الرعب
التي تخلد كذكريات للنصر
ولكني لم افعل ذلك ...
ولست نادم على ذلك ...
فحياتي هي الحب
أكثر نقاء وصفاء
من مياه الأنهار
ولكن عندما يكون أهراق الدماء ضرورياَ
لذلك ....
فأنا فخور بأني لم أضحي بقطرة دم من أجلي ...
من شرايين ابناء آشور
وإذا شاءوا بعد ذلك أن يكرهوني ...
فذلك
لأنني لا احمل في قلبي الكراهية
وإذا ثار بوجهي عصاة، فلأنني لست بطاغيه
كم أنتم رجال سيئون..
لا ترتضون يدا تحمل الصولجان
بل يدا تضرب بالسيف ..

اللوحة رقم 6
واللوحة رقم 6 تظهر واحدة من أفضع المشاهد وحشية في التاريخ، عندما تطغي القوة المطلقة، على المدنية والحضارة، الهمجية عندما تكون مطلقة السراح تفعل ما تشاء، مستغلة مرحلة تاريخية متردية، فتطغي قوة الانحطاط على قيم البناء والعمران، على نحو لا يتكرر إلا نادراً في التاريخ، ولتكون بغداد هي من يتحمل هذه الوحشية النادرة والهمجية في شتى عصورها، المغول يحاصرون بغداد ثم يستبيحونها عام 1258، في مشاهد نادرة.
ويؤرخ الفن بجماله القبح أيضاً، ويظهره على نحو قاس، أين منه الجمال الذي يسمو بالإنسانية وليس بسواها، العنف قبيح، لذلك تصدى فنانون ليرسموا للتاريخ مشاهد لا تنسى.
اللوحة رقم 7
الوحشية تنتصر على الجمال مشاهد سوف لن تتكرر إلا بعد ذلك ب 745 عام عندما أستباح الأمريكان بغداد والعراق فأشاعوا فيه الدمار والخراب، وأحرقوا المكتبات، ودمروا المتاحف، تماماً كما فعل المغول، وخربوا آثار مدينة بابل التي لم تقوى ألاف السنين على تدميرها.
الفنان العراقي مخلد المختار رسم ببساطة هذه التراجيديا، نقول ببساطة لأن من الصعب تفسير الهمجية والوحشية إلا ببساطة، هم يتفوقون بالسلاح، والشعب يقدم حمامة السلام، الغزاة الهمج يمتلكون القوة، وبلادنا تمتلك الحكمة، هم يفضلون اللون الأسود، لون الموت والخراب والدمار، والعراقيون يلونون لوحات تاريخهم بالدماء، هم يقذفون بالقنابل الغبية، وذكائنا ينتج فسيفساء جميل ذو ألوان خلابة، ومن أخترع اللون الشذري غير فنانوا العراق ...؟


اللوحة رقم 8 / 9
العراق كان وسيظل يقدم الأمثولات للشعوب في الصبر والمطاولة، بغداد الضيافة والكرم، والعلم والثقافة، ولكن التاريخ سيسجل كيف تتحطم أكف من يقرع أبواب وأسوار بغداد غازياً، وهكذا يسهم العراق في صناعة التاريخ عبرة واعتباراً، بعد أن أسس الثقافة وقدمها للبشرية.
العراق علم البشرية الفن، وخلده في الثور المجنح، الذي تراه واقفاً وتراه يسير، والمهندس العراقي أبدع في الجنائن المعلقة، وأبدع في قناة سنحاريب، وعلم الشعوب الرياضيات واللوغارتمات، وعلمهم الوقت، واحترام الزمن. أنظر اللوحتين لوغارتمات الخوارزمي 9، وساعة الرشيد المائية 10

اللوحة رقم 10
بغداد بلغت درجة عالية من السمو في عهد الخليفة العباسي الرشيد، وفي عهده أسست الدبلوماسية العربية فتحاً من العلاقات القائمة على التبادل المفيد، فأشتهرت العلاقات مع البلاط الفرنجي وتبودلت الرسائل والهدايا والرسل. هذه العلاقات التي أرخها فنانون من الغرب، فرسم الرسام الألماني يوليوس كيكارد لوحته الشهيرة: الرشيد يستقبل ببغداد رسل الملك كارل اللوحة 11، وكارل يستقبل هدايا الرشيد في بلاطه بآخن/ ألمانيا،
الرشيد يرتدي ثياباً بيضاء، ويستقبل رعيته من الناس، ورسل الملك كارل يستعرضون قوتهم وبأس سلاحهم.

اللوحة رقم 11
الرشيد ابتعث بدوره الرسل إلى بلاط الملك كارل(تسميه المصادر العربية شارلمان) وهداياه كانت تعبيراً عن التبادل العلمي، فيبعث إليه بساعة مائية وإسطرلاب، وبفيل نادر أبيض اللون، تظهر عظمة الخالق، وهي معان لم يكن الرشيد يتجاهلها في خطابه وهداياه، وثياب تمثل نفائس الصناعات العربية والإسلامية من الحرير والدمقس، من أيدي المهرة في بلادنا.

اللوحة رقم 12
ونقل الفن لنا رسوم رائعة تسجل حروب صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين في أولى الصراع من أجل الحفاظ على هوية المنطقة العربية / الإسلامية، وهي حروب ستستمر فترة طويلة ستنتهي باندحار التدخل الاستعماري / الاقتصادي المبكر، وليكون للصراع وتداعياته مفردات كثيرة على الصعيد السياسي والاقتصادي والعلمي.

اللوحة رقم 13
خطابات السلام لم تبلغ غاياتها، ليس بين الشعوب، بل بين محركي الحروب وغاياتها التوسعية. وهكذا فالحروب الصليبية التي اندلعت تحت هذا المسمى، ولكن الغايات الأساسية كان توسع البورجوازية التجارية الميركانتيلية الأوربية من أجل أن تضع لنفسها قواعد تجارية في شرقي البحر المتوسط، بحر التجارة والثقافة منذ أقدم العصور، والتوسع الذي وجد في الشعارات الدينية سبيلاً لترويج تعاون المؤسسة الدينية المسيحية مع رجال المال وأمراء الحرب في حرب كانوا يأملون أن تدر عليهم المنافع، والتحريض الذي مارسه البابا أوربان الثاني في كليرمونت 1490 وجد طريقه في لوحة رسمها فنان أوربي من ذلك العصر.
أنظر اللوحة 13 البابا يلقي خطابه الشهير في كليرمونت وفيه يدعو لتحرير الأراضي المقدسة

اللوحة رقم 14
ولم يتواني رسامي تلك المراحل عن تصوير فظاعات الحروب الصليبية، والمدن التي كان يتم تبادل احتلالها وتحريرها مسلسل أستغرق أكثر من قرنين من الزمان. و تشير اللوحة 15 إلى سقوط القدس بيد الصليبيين وارتكابهم الفظائع.

اللوحة رقم 15
وتنقل لنا صورة نادرة عثرنا عليها في كتاب ألماني قديم عن الحروب الصليبية لا تذكر أسم الرسام لمجزرة في عكا خلال الحروب الصليبية، ولكن لابد من القول أن موقف الغالبية من الأوربيين هي ضد الحروب الصليبية، والتي يرون فيها أنها مجرد توسع استعماري / اقتصادي الأهداف والتوجهات لا علاقة له بالدين.

اللوحة رقم 16
في نفس تلك الفترة تقريباً، شهد الوجود العربي / الإسلامي نهايته في الأندلس، بنهاية إمارة غرناطة، فيسجل لنا الرسام (Alferd Dehodencq) لوحة شهيرة، حين يبلغ موكب المغادرين العرب قمة ربوة تطل على غرناطة تختفي بعدها المدينة إلى الأبد عن الناظر، تطلع الأمير العربي أبو عبدالله الصغير إلى الوراء بحسرة ليلقي بنظرة دامع العين أخيرة على قصر غرناطة، وليسمع من أمه الأميرة عائشة كلمات ذهبت مثلاً في التاريخ حين قالت له: أبك كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال.

اللوحة رقم 17
ثم تبلغ الحروب النابليونية المشرق العربي، حين تنزل القوات الفرنسية في مصر، ولتزحف من هناك على بلاد الشام، وهنا تقوم عكا بدورها التاريخي في الصمود، وتفانى الشعب في كل مكان في الدفاع عن الأرض، وتنقل لنا صورة عن الطاعون يفتك بسكان حيفا، ولترغم مقاومة الشعب والطبيعة الغازي نابليون وتفشل حملته.

اللوحة رقم 18
لوحة نادرة أمثولة في التعامل المتغطرس، وسياسة الابتزاز والبحث عن الذرائع، إذ كانت فرنسا مدينة للجزائر عن تجهيز كميات من القمح، تماطل فرنسا بدفع أثمانها رغم أنها حصلت عليه بثمن بخس للغاية، وفي حفل استقبال بمناسبة العيد عام 1828يسأل والي الجزائر القنصل الفرنسي ديفال عن تسديد الدين، يجيبه القنصل بوقاحة متناهية إجابة مهينة، فيضربه الوالي بمنشة ذباب كانت بيده، ولتتخذ فرنسا من ذلك ذريعة أن تحيل سياستها في المناورة والابتزاز إلى إعلان للحرب وتحتل فرنسا الجزائر لمئات الأعوام على أثر تلك الحادثة / الذريعة.
الصورة بالأسود والأبيض دون معرفة أسم الرسام

اللوحة رقم 19
لكن المطامع الفرنسية في البلاد العربية لم تكن لتنتهي، بل سوف تتواصل خلال القرون المقبلة، ففي سياسة استعمارية حيال الجزائر، وعموم المغرب العربي، وتتواصل سياسة ابتزاز قائمة على المؤامرة والقوة والنفوذ، وزرع الفتن وأسباب الانشقاق في البلاد، وهو مذهب استعماري قديم / جديد ما زالت القوى الاستعمارية تمارسه ليومنا هذا.
أنظر ممارسة غاشمة لسياسة القوة يمارسها الأسطول الفرنسي على السواحل الجزائرية عام 1816 سجلتها ريشة الرسام توماس لوتي. أنظر اللوحة 19
اللوحة 20
وإذا شئنا أن نضع خاتمة لبحثنا المصور هذا، فإننا سنفعل ذلك بعد أن نضع صورة لمجزرة قام بها الإنكليز في مصر(1906)، اشتهرت بأسم مجزرة دنشواي.
دنشواي قرية مصرية هادئة في الريف المصري، تشتهر بتربية الحمام، الذي قرر الضباط الإنكليز أن يكون هدفاً لبنادقهم من أجل التسلية فحسب. ولما حذر شيخ القرية أحد الضباط من عواقب أفعالهم، أطلق الضابط البريطاني النار وأصاب زوجة الشيخ مقتلاً، وحرق محاصيل القرية التي كانت مكدسة بعد موسم حصاد، فأشتعلت النيران في أكداس الحنطة والشعير، وهب أهل القرية لإطفاء الحرائق التي امتدت في أرجاء الحقول.
أصاب الرعب الضباط الإنكليز، فخشوا رد فعل سكان القرية فهربوا وأصيب أحد الضباط بضربة شمس من جراء الحر الشديد والشمس المحرقة، فتوفي، وحضرت قوة من الجيش البريطاني، وأخذت في أ‘تقال الفلاحين بالعشرات، وشكلت محكمة صورية من عناصر موالية للاحتلال، قامت بسجن العديد من الفلاحين، كما قضت بإعدام أربعة من فلاحي قرية دنشواي، لتدخل القرية وشهدائها في سجل الشرف الوطني المصري.
رسام مجهول خلد هذه الواقعة بصورتين ستحملان رقم 21 و22


اصدقائي الاعزاء
يسر المركز العربي الألماني أن يقدم إنتاجه كما عودكم في تنويع الإنتاج الثقافي، ونجد أنه أمر بالغ الضرورة أن نؤسس وعينا متكاملاً.
نضال أمتنا العربية شاق ودام طويل، زاخر بالتضحيات، والأعمال الفنية التي نقدمها اليوم، هي من إنتاج فنانين عرب وأجانب، كما هي آثار من حضارة الوطن الكبير.
نرجو أن نكون قد وفقنا في تقديم مادة ممتعة ومفيدة في آن واحد.
مع خالص الاحترام والتقدير
د. ضرغام الدباغ

574 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع