الحكم المائل:حين يُدان الماضي بقوانين الحاضر

ذو النورين ناصري زاده

الحكم المائل:حين يُدان الماضي بقوانين الحاضر

لعلّ من أعظم العلل الفكرية والأخلاقية التي تسلّلت إلى الوعي الجمعي في عصرنا، تلك النزعة المتعجّلة التي تتوهّم أن الزمن كتلةٌ صلدة، وأن العصور صفحاتٌ متطابقة، وأن الإنسان هو الإنسان مهما تبدّلت عنده موازين القوة ومحكمات الحال، وتغيّرت به أحكام الضرورة وإكراهات البقاء. فيَحمِلُ بعضهم ميزانَ عصره، ويقف به أمام دفاتر التاريخ، كمن يدخل محكمةً حديثةً بقوانينَ لم تُكتب بعدُ زمنَ الجريمة، ثم بعد ان يسقط زمانه على الزمان المدان يشرع في إصدار الأحكام بميلان القاضي، وجهل المؤرخ، وتعالي المنتصر الذي لم يخُض معركة الخاسرين.
إنّ تقييم سياسات وسلوكيات الدول والسلطات والمجموعات والشخوص لا ينفصل عن ظرفها التاريخي، ولا يُقتطع من سياقها الزمني؛ لأنّ السياسة – جوهرًا – ابنةُ الضرورة والظرف قبل أن تكون بنتَ المبادئ، تُملِيها موازينُ القوى، وتشكّلها الجغرافيا، وتُدخِل بها المعضلاتُ القائمة لا المثالياتُ المعلّقة في عالَمٍ نظري لا يعرف جوع الدول ولا حصار المدن. لكنّ فريقًا من هواة الأجوبة الجاهزة يناصبُ التاريخَ العداء؛ لا لأنه قاسٍ، بل لأنه ناقم، ولا لأنه ظالم، بل لأنه لا يسير بخطٍّ مستقيم، ولا يهادن العقول الكسولة التي لا تُحسِن إلا قياسَ المسافات القصيرة.
وهؤلاء الذين يحاكمون عهود ماضية بعُدّة الحاضر، يغفلون أن التاريخ ليس مختبرًا أخلاقيًا مُطابق الظروف، بل هو ميدانُ تبايُنٍ شاسع، لا تُفسّره المبادئ وحدها، بل تشرحه طبيعةُ اللحظة وضغطُ التهديد واستحقاقاتُ الوجود. وإنّ أخطرَ ما في خطابهم ليس خطأه المنهجي فحسب، بل وقاحتُه وفجاجته غير المعلنة، إذ يقوم على ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، دون الاعتراف بأنّ الحقيقة التاريخية نسبيّةُ الإنارة، متغيّرةُ الزوايا، متعدّدةُ الشروط، وأنّ المؤرخ المنصف ليس من يندّد أكثر، بل من يفهم أعمق. وإنك لتعجب من سفاهة من يطالبُ الماضين بما لم يتح لهم من أدوات ولا مساحة ولا ظروف: يطلبُ من القادة المحاصرين أخلاقَ المترفين، ومن الدول الناشئة تعقّلَ الدول الراسخة، ومن المجتمعات القلقة المضطربة سكينةَ المجتمعات المستقرة، ثم لا يرى في إخفاقهم إلا دليلاً على نقصهم، لا على قسوة ما كشفتْه الحياة أمامهم من أبوابٍ مغلقة، وطرقاتٍ لا تؤدّي إلا إلى خياراتٍ مُرّة، ليس فيها خيرٌ تام، بل أخفُّ الضررين وأقلُّ الخسارات.
إنّ منهج قراءة التجارب والحوادث والمجريات التاريخية يجب أن ينطلق من محكمة العصر الذي وُلدت فيه، وعلى ضوء ظروفه ومقاساته؛ لأن الفكرة حين تُقتطع من شرطها الزمني تتحوّل إلى شعار، والسياسة حين تُقرأ خارج مقياسها تتحوّل إلى تهمة، والحُكم حين يخلو من فقه الظرف يصبح وثيقةَ جهلٍ لا نصَّ عدل. لذا كان الإنصاف أن يُعاد الفعلُ إلى لحظته، والقرارُ إلى سياقه، والإنسانُ إلى قدر ما حازه، لا قدرِ ما لم يكن ليقدر عليه. وإنّ الذين لا يضعون الظرفَ بين أعينهم قبل التقييم، يتعاملون مع التاريخ كغنيمةِ استعراضٍ لا كحقلِ درس، فيُنتجون خطابًا صاخبًا ينكشف سريعًا أمام أول سؤالٍ حقيقي: ماذا كنتَ ستفعل لو كنتَ مكانهم؟ لا جواب… لأن الميزان الذي يحمله لا يصلح إلا لمن يقف خارجَ المشهد، لا داخله.
ومن هنا ينبغي أن نُشيع بين القرّاء أن قراءة العهود فعلُ فهمٍ وتأويلٍ وتحريرٍ من هيمنة اللحظة الراهنة، لا فعلُ محاكمةٍ بأثرٍ رجعي. وأنّ أول شروط النقد ليس إدانةَ التجربة، بل تفسيرها؛ وليس إسقاطها، بل وضعها في موضعها؛ وليس الصراخَ أمامها، بل الإنصات إلى أصواتها المؤجَّلة التي لا يسمعها إلا من يعرف أن التاريخ لا يُحاكَم، بل يُفهَم… ثم يُستفاد منه. وإنّ الوعي الذي لا يرى الماضي إلا بعيون حاضره، كمن يقرأ كتابًا في الظلام ثم يشكو اعوجاج الحروف، مع أنّ العيب في الضوء لا في المعنى، وفي القارئ لا في السطر، وفي الميزان لا في التاريخ نفسه.
إنّ الإنصاف مع الماضي ليس ترفًا عقليا، بل شرطٌ من شروط سلامة الوعي؛ فالتاريخ لا يطلب منّا تبرير أخطائه، بل أن نفهم علله وسياقاته. ومن أراد أن يقرأه حقّ القراءة فليدعْ عن نفسه عجلة الإدانة، وليتحلَّ بشجاعة الفهم؛ فليس كل ما جرى كان ممكنًا أن يجري على نحوٍ آخر. ومن لا يُحسن وضع الوقائع في أطرها، لن يُحسن الاستفادة منها في حاضره. فليكن ميزانك مستقيمًا، ونظرك متواضعًا، وحكمك مدعومًا بفقه الزمن، لا باندفاع اللحظة؛ عندها فقط يصبح التاريخ نافذةً تهدي، لا ساحةً تُدان… ودربًا يُعلِّم، لا ماضيًا نجلده بجهل الحاضر.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1261 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع