
الولايات المتحدة تفتح قنصليتها الأكبر في العالم في كردستان العراق.
أربيل - في خطوة تتجاوز طابعها الدبلوماسي التقليدي، افتتحت الولايات المتحدة الأربعاء مجمعًا قنصليًا ضخمًا في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، في توقيت إقليمي دقيق يحمل دلالات سياسية وأمنية عميقة.
ولا يقتصر الحدث على توسيع التمثيل القنصلي الأميركي، بل يعكس تحوّلًا محسوبًا في طبيعة الحضور الأميركي بالعراق، وانتقاله من الاعتماد المكثف على الأدوات العسكرية إلى ترسيخ نفوذ طويل الأمد عبر بوابات دبلوماسية وأمنية واقتصادية.
ويؤشر حجم المجمع القنصلي وموقعه وتكلفته غير المسبوقة، كونه الأكبر من نوعه في العالم، على أن واشنطن تنظر إلى أربيل بوصفها نقطة ارتكاز استراتيجية في المشهد العراقي والإقليمي. فالمساحة الشاسعة التي أُقيم عليها المشروع، والاستثمار المالي الكبير، لا يوحيان بمهمة قنصلية تقليدية، بل ببنية متكاملة قادرة على استيعاب وظائف سياسية وأمنية تتجاوز نطاق الإقليم إلى عموم العراق والدول المجاورة.
ويأتي هذا التطور في سياق إعادة تموضع أميركي أوسع داخل العراق، تزامن مع نقل جزء من القوات الأميركية التي كانت متمركزة في مناطق أخرى ضمن إطار مهمة مكافحة تنظيم داعش، وذلك بموجب تفاهمات مع الحكومة المركزية في بغداد.
ويعكس هذا التحول قناعة متنامية في واشنطن بأن مرحلة الانتشار العسكري الواسع قد بلغت حدودها، وأن النفوذ الدبلوماسي المدعوم بالشراكات الأمنية أكثر فاعلية وأقل كلفة في بيئة عراقية شديدة التعقيد.
وفي هذا الإطار، تبدو أربيل خيارًا مفضّلًا للولايات المتحدة، نظرًا إلى ما يتمتع به إقليم كردستان من استقرار نسبي مقارنة ببقية المناطق العراقية، إضافة إلى طبيعة علاقته التاريخية مع واشنطن. فالإقليم لطالما شكّل حليفًا يمكن التعويل عليه في لحظات التحول الكبرى، سواء في الحرب على داعش أو في موازنة النفوذ الإيراني المتعاظم داخل العراق.
وكشفت تصريحات نائب وزير الخارجية الأميركي خلال الافتتاح بوضوح عن البعد السياسي لهذه الخطوة. إذ ربط الاستثمار الأميركي في القنصلية الجديدة بفكرة “عراق ذي سيادة وآمن ومزدهر”، لكنه في الوقت نفسه وجَّه انتقادات صريحة للميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، محملًا إياها مسؤولية زعزعة الاستقرار وتقويض سيادة الدولة العراقية.
وتعكس هذه الرسائل قلقًا أميركيًا متزايدًا من تصاعد الهجمات ضد البنية التحتية الحيوية، لا سيما قطاع الطاقة، وهو قلق تجسّد مؤخرًا في الهجوم بالطائرات المسيّرة على حقل كورمور للغاز، وما ترتب عليه من انقطاع واسع للكهرباء.
ورغم عدم تبني أي جهة مسؤولية تلك الهجمات، فإن الإشارة الأميركية الواضحة إلى الميليشيات الموالية لإيران تكشف عن احتدام صراع النفوذ داخل العراق. فواشنطن، التي تسعى إلى تقليص حضورها العسكري المباشر، تجد نفسها في مواجهة أطراف محلية مسلحة تمتلك قدرة متزايدة على تعطيل مشاريع الاستقرار والتنمية، وتهديد المصالح الاقتصادية والأمنية في البلاد.
ومن هنا، تكتسب دعوة واشنطن لكل من بغداد وأربيل إلى إضعاف وتفكيك هذه الميليشيات أهمية خاصة. فهي دعوة تعكس إدراكًا أميركيًا بأن استقرار إقليم كردستان لا يمكن الحفاظ عليه بمعزل عن الاستقرار العام في العراق، وأن أي خلل أمني في مناطق أخرى سينعكس بالضرورة على الإقليم، مهما بلغت درجة تحصينه نسبيًا.
وفي المقابل، يُظهر ترحيب القيادة الكردية بالقنصلية الكبرى حرص أربيل على تثبيت موقعها كشريك استراتيجي موثوق للولايات المتحدة.
ويعكس وصف رئيس إقليم كردستان القنصلية بأنها “رسالة سياسية واضحة” إدراكًا كرديًا بأن المشروع لا يحمل فقط بعدًا دبلوماسيًا، بل يوفر مظلة سياسية وأمنية تعزّز موقع الإقليم في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. فالقنصلية، بالنسبة لأربيل، تمثل مركزًا محتملًا للتعاون الاقتصادي والاستثماري، فضلًا عن دورها في تنسيق الجهود الأمنية في منطقة شديدة الحساسية.
كما أن هذه الخطوة تمنح الإقليم ورقة قوة إضافية في علاقته مع بغداد، في ظل الخلافات المزمنة حول ملفات النفط والميزانية والسلطات الاتحادية.
وقد يسهم الوجود الأميركي المكثف في أربيل في موازنة العلاقة بين المركز والإقليم، لكنه يحمل في الوقت ذاته مخاطر تعميق الانقسامات داخل المشهد العراقي، إذا ما فُسِّر على أنه انحياز أمريكي لطرف دون آخر.
وفي المحصلة، يعكس افتتاح القنصلية الأميركية الكبرى في أربيل تحولًا استراتيجيًا في مقاربة واشنطن للعراق، يقوم على تقليص الدور العسكري المباشر لصالح نفوذ دبلوماسي طويل الأمد، متركز في مناطق أكثر استقرارًا. وهو أيضًا رسالة إقليمية واضحة، لا سيما إلى إيران، بأن الولايات المتحدة لا تعتزم الانسحاب من المشهد العراقي، بل إعادة صياغة حضورها بأدوات مختلفة.
وبينما ترى أربيل في هذه الخطوة فرصة لتعزيز مكانتها ودورها، يبقى نجاح هذا الرهان مرهونًا بقدرة العراق ككل على استعادة توازن سيادته، وكبح الفاعلين المسلحين خارج إطار الدولة، وتحويل الشراكات الدولية إلى رافعة استقرار لا إلى عنصر توتير إضافي.

1221 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع