غلاف «الرغيف» و غلاف «تلك التي أضحت»
بيروت: سوسن الأبطح:الحرب العالمية الأولى لم تنتهِ ذيولها بعد، وآثارها لا تزال عالقة في نفوس بعض اللبنانيين، وتحتاج من ينبش عنها.
هذا على الأقل ما تحاول أن تقوله الكاتبة اللبنانية نايلة عون شكيبان، في روايتها التي صدرت العام الماضي باللغة الفرنسية تحت عنوان «تلك التي أضحت» عن دار تاميراس، محاولة أن تستعيد حياة جدتها وبقية أفراد العائلة في تلك الحقبة القاسية من حياة لبنان. هذه الرواية التي بقيت في ذهن الكاتبة سنوات قبل أن تدبجها، لم تأتِ من حب في التاريخ بقدر ما جاءت من رغبة في اكتشاف ما حملته الكاتبة في نفسها، وما انتقل إليها من أمها وجدتها من إرث تلك الحقبة وعذاباتها، وهو على ما يبدو كثير ومؤثر، ولا يزال يعتمل في روحها إلى اليوم، وإلا لما كان لهذه الرواية أن تولد.
صحيح أن الحكاية تتمحور حول عائلة نجيب وأولاده (صبيان وبنتان) التي تسكن قرية بيت كاسين، في الشوف، إلا أن الخاص في تلك الفترة لم يكن ليبقى بمنأى عن الأحداث المحيطة، والتطورات المخيفة التي كانت تعصف بالمنطقة ككل. تختلط قصة الابنة الكبرى التي تريد أن تتزوج دون رضى والدها، ومحاولة هذا الأخير إبعادها عن المنزل، بما كان يزلزل المجتمع من انقلابات تفوق قدرة الأفراد على الاحتمال. كما تمتزج العادات والتقاليد التي كانت سائدة في ذلك الوقت، ولا يزال بعضها موجودا، بتشكل عالم جديد، ودول وليدة بدأت حدودها ترتسم.
نمر، نور، سارة، بطرس، جريس، أبونا جبرايل؛ لكل قصته، وشخصيته، وصراعه الذي لا ينفصل عن المجاعة التي فتكت بالعباد والجراد الذي هجم على البلاد، والحصار التركي برا، الذي كان يدفع بنجيب لإرسال رجاله يقطعون الأحراش الوعرة والخطرة على الحمير، إلى سوريا للإتيان بالطعام لأهل القرية، ليسدوا رمقهم. دون أن تنسى الكاتبة قصص «سفر برلك» ومحاولة الأتراك تجنيد أهل الجبل للقتال إلى جانبهم. جمال باشا، لم يغب عن الرواية هو الآخر، وإن بطريقة غير مباشرة؛ حيث يذهب الأهالي ليلتقوه في بيروت ويطلبوا منه المساعدة، لكنهم لا يجدون آذانا صاغية.
أبعاد كثيرة في الرواية التي تدور أحداثها من عام 1910 أي قبل أربع سنوات من اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلى 1920؛ حيث تتجاوز القصة حياة عائلة واحدة نتتبع مسار أفرادها، إلى أجواء جماعات محكومة بعنف الحرب، دون أن نسمع أصوات المدافع أو طلقات الرصاص.
لكن مفاجأة الرواية هو اكتشافنا أنها كتبت أساسا بسبب اهتمام المؤلفة بمعرفة جذور سوء معاملة جدتها (ماري) لوالدتها. الأمر الذي بقيت نايلة عون تتبعه وتحاول أن تستجر اعترافات ماري تكرارا، لندرك أن رواسب الحرب العالمية التي عاشتها الجدة، لم تغسلها الأيام، وأن ثمة ما بقي في النفس قويا ينتقل من جيل إلى آخر، وهو الذي كان الدافع الأول للكاتبة لتستطر هذه الرواية.
هذه ليست الرواية اللبنانية الجديدة الوحيدة، عن الحرب الأولى، فقد صدر أخيراً لغسان الديري رواية تحمل عنوان «زمن الحصار» وتعود أحداثها إلى الفترة نفسها، لكنه لا يعيد ذلك، لأسباب شخصية على طريقة عون، وإنما يقول إنه اختار استعادة أجواء الحرب الأولى، في هذا الوقت بالتحديد الذي يغلب عليه الفرقة والتشرذم، «لأن اللبنانيين توحدوا خلالها ضد المحتل. و(زمن الحصار) هي حكاية انتصار الوطن على أعدائه، والحب على الحقد والغربة، والمرأة على الموروث الثقافي الصارم والجهل».
وإذا كانت الرواية اللبنانية الجديدة انشغلت، بشكل عام، بالحرب الأهلية اللعينة، وولدت من رحمها، في بلد لسوء الحظ لم يعرف سوى العنف المتناسل، فإن الذين كتبوا في ظل الحرب العالمية الأولى، ومن وحي مناخاتها لم يكونوا قلة. فـ«الرابطة القلمية» تشكلت أثناء الحرب، وجبران خليل جبران كتب كثيرا عن الآلام اللبنانية والسورية عموما في تلك الفترة، وميخائيل نعيمة، بنفحته الإنسانية التصوفية، كان أحد أبناء تلك الحقبة القاسية التي ذاقت فيها الإنسانية ويلات لم تندمل بعد.
لكن أحد أشهر الروائيين اللبنانيين الذين كتبوا عن الحرب العالمية الأولى، هو بكل تأكيد الأديب توفيق يوسف عواد في روايته «الرغيف». هذه الرواية التي صدرت عام 1939 ونقلت انعكاس تلك الحرب على لبنان جوعا وبؤسا واضطهادا، ولقيت صدى كبيرا، وبقيت محطة أدبية مهمة، ليس فقط من حيث مضمونها، بل أيضا بصفتها عملا روائيا عربيا رائدا يؤسس لهذا الجنس الذي اجتهد النقاد في التأريخ له. ولعله من المهم استعادة ما كتبه حنا مينه في هذا الموضوع، وهو الذي يعترف بأنه تتلمذ على روايات توفيق يوسف عواد. ويعد مينه أن عواد «مؤسس في هذا الجنس الأدبي. وقد جاءت روايته (الرغيف) أشبه بحجر الزاوية في المدماك الروائي العربي، بما انطوت عليه من نضج فني، سردا وحوارا، ومن معلمية في الإيقاع والتشويق، ومن أسبقية في التقاط الواقع، على مهاد من الابتكار والتخييل، يسمح لنا، بعد هذا الزمن الطويل، أن نعيد النظر في اعتبار «الرغيف»، لا «زينب» لهيكل ولا «الأجنحة المتكسرة» لجبران، هي البداية الحقيقية للرواية العربية، مع استثناء رواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي».
ويرى مينه أن هذه الرواية لعواد «كانت تأسيسا فعليا، كما هو، في القرن التاسع عشر، عند ستاندال وبلزاك وفلوبير، وكانت ولادة متكاملة، وعملاقة، وذات أثر ملحوظ، في جيل الروائيين الآتين على دربه الممهد بروايته البكر، والممهد أكثر، وبصورة أشد استعلانا، في (زقاق المدق) لمحفوظ، (والأرض) للشرقاوي، و(المصابيح الزرق) لكاتب هذه الأسطر تاليا».
هذه الشهادة الأدبية لمينه تنضم إلى شهادات لا تقل أهمية من مي زيادة التي كتبت: «لم يؤرخ أحد المأساة الغبراء التي عرفتها بلادي كما أرّخها توفيق يوسف عواد في (الرغيف)، والمستشرق جاك بيرك الذي اعتبر (الرغيف)، تعتمد لدى المستشرقين في أوروبا وأميركا مرجعا لتاريخ حقبة هامة على الصعيدين الأدبي والوطني لا في لبنان وحده بل في البلدان العربية كافة».
من عواد إلى نايلة عون شكيبان، هذه الروايات تقدم ما يشبه محاكمة للبطش العثماني الذي ضرب جبل لبنان في تلك المرحلة، وتحتفي بالانتصار الإنجليزي والفرنسي، والخلاص من النير التركي، رغم أن ما حدث في الحرب العالمية الأولى، قسّم المنطقة العربية بـ«سيكس - بيكو» وغيّر الخارطة، وضم إلى جبل لبنان المدن الساحلية. ربما أن ثمة إمكانية لكتابات روايات من نوع آخر، وبرؤى مختلفة عن تلك التي رحبت بانتصار لم يكن أقل سوءا على المدى الطويل مما سبقه. الحرب العالمية الأولى وكذلك الثانية آثارها لا تزال كبيرة في المنطقة وربما أنها لم تكتب بعد.
664 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع