گوران مريواني..صدام الاسطورة والواقع وترنيمة لغول المستقبل
نزار جاف
لأکثر من مرة کتبت عن الشاعر والکاتب گوران مريواني، لکنني وکلما أقرأ قصائده القديمة بشکل خاص والجديدة، أجد الحاجة ماسة للإبحار مجددا في بحاره التي لاشطآن لها والتحليق في فضاءاته اللامتناهية، وعند کل إبحار وتحليق، أکتشف شيئا ليس کأي شئ عادي، فعند مريواني يصطدم المرء بحالات غريبة فهو يکتشف أکثر من أسطورة في داخل الاسطورة نفسها کما يکتشف اللاحياة في الحياة، فعنده نجد الاموات أحياء وعکس ذلك تماما.
عشق الظلام والسرمدية وعالم الخيال والاساطير، هو الذي ولد في أعماق مريواني رغبة جامحة ومجنونة للموت أشبه ماتکون بحالة عشق تم فيها تطعيم السادية بالمازوخية، وإلا مايعني قوله في قصيدة"بيني وبين الظاهرات":
"وأنت أيها الموت!
الذي من دون هاتف،
من دون عنوان،
سواح مثلي
لاتملك مکان أومهجع!
بيننا أنا وأنت؛
فقط رغبة لقاء أبدي!"
وإن علاقة مريواني بالموت والتشاٶم ليس أمرا طارئا أو جديدا عليه، بل إنه يعود لبداياته الشعرية في العقد السابع من الالفية الماضية، ولاسيما عندما تصدى في تلك البدايات لجدلية الوجود والعدم والحياة والموت في قصيدة"النافذة" عندما يخلط بين حالتين من موته:
"في البعاد، أغرق في قعر تابوت لانهاية له.
إياك أعني..!!
قبل أن تطمرني
ضع لي نافذة!
کي أستنشق أنفاسك
...
أنا،
من دون أنفاسك،
أموت.
ومن غمار تلك الرغبة الجامحة للقاء الموت، يعود مريواني ليحلق مع حبيبته التي لايفصح عنها ويعشق مجهوليتها ليعزف على قيثارة ولهه بالحياة وماتکتنفه من مجاهيل ومروج وغرائب لحن أغنية على وقع کون من خلال التحديق بذهول بالحياة في صورة الناس الذين يبدون صغارا على الارض والامتزاج مع شعاع الشمس وإکتساب لونها الذهبي کما يقول في قصيدة"دارنا":
يوما،
نعود معا الى دارنا
الى القمر
نجلس في شرفتنا و
نحدق في الکون
ونذهل من الناس الصغار على الارض!
نحتسي معا رشفة شعاع
ونحظى بلون ذهبي"
تناقضات وتضادات الحياة والموت وأبجديات الوجود والعدم يتناولها مريواني بصورة يظهر من خلالها وکأنها تعصف به في وقت يسعى للمقاومة والمقارعة من أجل البقاء، وهو هنا أقرب مايکون لسمکة آرنست همنغواي وليس للشيخ الذي إصطادها، إذ ومع الروح النزقة للمغامرات الفنطازية، لکنه مع ذلك لايخفي قلقه وخوفه وجزعه من التصدي للأمور وخوض المواجهات أو إکتشاف الحقائق ومعانقة الاساطير کما في قصيدة"غيمة" التي ينطلق منها من الدائرة الذاتية الوجدانية الى الالواقع الاشمل الى الموضوع، وفي هذه القصيدة يبدو کعراف يتنبأ بما يخفيه المستقبل من کوارث وأهوال للبشرية جمعاء، وکأنه يريد أن يجسد ماقد ذکره فوکوياما في"نهاية التأريخ" و"نهاية الانسان" من تراجيديا مهولة تنتظر الانسان في تلك الغيمة التي تحلق کنيزك مشٶوم على رٶوس البشرية عندما يقول:
"غيمة سوداء في الطريق
ترعب القمر
والنجوم تهرب من خوفها.
غيمة وسخة
لئيمة وعقيمة.
جافة کاليباب.
کالذئب في مظهرها
لاتعبق برائحة المطر والبلل
وعندما تأتي على البيوت لاتقرع الابواب!"
لکن لاتقف النظرة ذات البعد الفکري والفلسفي وقبل ذلك الفنطازي لمستقبل البشرية في قصيدة"خيمة" لمريواني عند هذا الحد بل إنه يجنح ليس للأعماق وإنما ماورائها إن أمکن التعبير ولاسيما عندما يمضي في وصفه لجوانب ومميزات أخرى للغيمة أو بالاحرى مستقبل البشرية وهي نظرة مغرقة في التشاٶم بحيث يمکن القول إن شوبنهاور نفسه لم يصل الى هذا الحد من الغلو في التشاٶم عندما يقول:
"غيمة خرقاء
ضيفة غير مرحب بها
لو دخلت أي بيت
فإنها نذير شٶم!
غيمة لاتثار،
لاتتحرك.
عرشها في السماء،
لاتترکها
لغيمة وردية،
أو بيضاء وزرقاء،
صبية أو طفلة!"
ويسهب مريواني في وصفه الدقيق والعميق جدا للغيمة عندما يشير الى عقمها وبخلها الشديد ونزوعها لزرع الجوع والفقر والحرمان في کل مکان تصله وکأنه يصف الحياة المستقبلية الصعبة على الکرة الارضية، بقوله:
"لايعطر رائحة الارض
ولو بقطرة مطر"
لکن المميز في إسهابه بوصفه الدقيق إنه يقوم بربط المستقبل بالماضي وکأنه يقول إن الحياة الانسانية تراجيديا تدور وتدور کصخرة سيزيف من دون توقف وذلك من خلال عودة مفاجئة لماضيه، حينما يضيف:
"في طفولتي
رأيت هذه الغيمة
في بيتنا.
مع زمجرة رعدها،
کانت تقطع ثمار أشجار حديقتنا
والامال من قلب أمي!"
الحديث عن تنبٶات بشأن مستقبل مشرئب بتشاٶم إستثنائي لکنه في علم الغيب وسحبه على ماضي إنقضى وربطه به وجعل"الغيمة"قاسما مشترکا بينهما، نظرة فلسفية ـ فنطازية تجمع اللامعقول والمنطق والعبث والحقيقة المجردة معا في بوتقة واحدة وهي الوجود الانساني، إذ أن مريواني يقوم بربط جدلي هنا بين جفاف وعقم الارض وبين الجفاف والعقم الانساني بإشارته لثمار الشجرة والامال في قلب الام!
مريواني يعود الى المستقبل مرة أخرى ويتنبأ بأن السماء ستصبح جحيما للإنسان وإنها ستمطر عقاربا وليس غيثا يغيث الانسان والطبيعة وکأنه يصفع البشرية بما ينتظرها من أهوال ومصائب بسبب الثقب في طبقة الاوزون وکيف سينعکس ذلك على الانسان والبيئة بمختلف مکوناتها والتي إختصرها مريواني في"الفراشات والاطفال والينابيع" وهو يقول وکأنه يتلو على البشرية تعويذة مرعبة:
"غيمة
إذا أمطرت
تمطر عقاربا
وحين تطل
فإن حليب الاثداء
يغدو مرا
وإذا غضبت الغيمة
الفراشات والاطفال والينابيع
تصاب بالطرش"
مريواني، الذي يکاد أن يشبه في تکهناته الغارقة في تشاٶم مشرئب بحقائق مستمدة من واقع الاجرام الانساني بحق البيئة، ذلك العراف الذي تنبأ بمقتل يوليوس قيصر في إجتماع مجلس الشيوخ الروماني ولاسيما عندما يقوم بختم سيل توقعاته الصادمة بمقطع يٶکد فيه حتمية قدوم تلك الغيمة أو بالاحرى المستقبل المروع وکأنه يرى ذلك بأم عينيه، عندما يقول:
" غيمة تميل للسواد
تکاد أن تکون ذئاب الحکايات
غيمة أراها
ها إنها تأتي!
783 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع