ذاكـرة المدينة /جراديغ التمور.. تعليب المذاق !
1ـ /مجلة العربي الكويتي 1958 : العراق يمتلك 32 مليون نخلة تنتج الذ اصناف التمور من واقع 87 مليون نخلة في شتى انحاء العالم /
2ـ /كانت التمور المغربية اخطر الانواع المنافسة رغم ان التمر المغربي كان يجفف صناعيا بينما كان التمر العراقي يجف على اشجار النخيل قبل ان يكبس/
كانت مكابس التمور منتشرة في ارجاء البصرة غير انها تتركز بحكم كثرة البساتين في قرى ابي الخصيب وعلى ضفتي شط العرب منشطة الحركة التجارية والاقتصادية والاجتماعية حيث مراسي المراكب والمقاهي والدكاكين . غير ان تجارة التمور تعرضت الى اكثر من نكسة بدء من الخمسينات من القرن الماضي ، مع انها كانت مصدر رزق لمئات العائلات الجنوبية وغير الجنوبية . في هذه الحلقة من الذاكرة نستعرض الحياة في اكثف بساتين النخيل ايام زمان وكيف انحدرت الحال بالتمور وتجارتها الى ما نجده في يومنا هذا :
كانت عشرات من مكابس التمور ( الجراديغ ) تنهمك في موسم الخريف في تصنيع وكبس اجود انواع التمور وتصديرها من بينها تمور الداود ومارين وكذلك جرداغ مجيد سلومي على ضفة نهر الخورة وغيرها كثير . كان الحاج نعيم السلمي والسيد فاخر ابو العيس وهما وكيلا شركة هلس اخوان الشرقية المتحدة وبعض اصحاب معامل التمور امثال الشيخ مصطفى آل ابراهيم وغضبان امنوني وتوفيق مارو يصدران ، على سبيل المثال لا الحصر كميات من التمور المصنفة الى العديد من دول الشرق والغرب واشتهرت السكاكين المستوردة لتفشيق القشور لدى اوساط مكابس التمور فاطلقت عليه تسميتا الجوكية والفرنكية نسبة الى المستر جوك والمستر فرانك .
موسم الحرائق
كان انتاج التمر بالبصرة شيئا عجيبا قياسا لكل دول العالم فقد كثرت مكابس التمور على ضفتي شط العرب والانهر الرئيسية المتفرعة منه في منطقة طولها 60 كيلومترا ينتهي بنهر ابو الفلوس وقد بلغ اعداد المكابس 123 مكبسا عام 1953 وفي بقية مناطق العراق 11 مكبسا على الفرات لكبس تمور الزهدي وكان العمال زهاء 50 الف عامل يعملون بتلك المكابس بالاضافة الى 38 عاملة من النساء وكانوا ينقسمون الى : الفوادة وهم ابناء العشائرالنازحين للبصرة في موسم قطف الحاصل ويسكنون مؤقتا في ظلال النخيل وهناك ايضا عمال الكبس وهم متعاقدون مع الشركة ويسلفنون التمر وموسم العمل يستغرق 75 يوما وكانت تسمى المكابس سابقا ( الجرداغ ) وجمعها جراديغ .
كانت العديد من البواخر ترسو امام مكابس التمور المتجاورة الى السبيليات جنوبا وحى منطقة اليهودي شمالا . والحقيقة ان الموسم يبدأ في الخريف لغاية اواسط الشتاء ثم يفتر العمل في اواسط الشتاء ليبقى العمل للتمر المسلفن بينما ينتهي كبس الصنف المفروم والمصفوف والمفشوق والعادي عند بداية دخول الشتاء . وبعد الانتهاء من العمل الفعلي لمنطقة كوت السيد والمناطق المحيطة بها يتحول العمل الى منطقة الصنكر التي كان عدد مكابسها يزيد عن السبعة ويعمل فيها المئات من العوائل القادمة من مسافات بعيدة حيث يعمدون لتشييد بيوت بسيطة من القصب والبواري والتي كثيرا ما تنهشها نيران الحرائق وتمحوها عن بكرة ابيها لأسباب غامضة .
نبوءة مبكرة
في العدد الاول من مجلة العربي الكويتي الصادر في كانون الاول 1958 ثمة استطلاع عن مكابس التمور في البصرة يقول ان العراق يمتلك ما يعادل 32 مليون نخلة من واقع 87 مليون نخلة منتشرة في شتى انحاء العالم . ونعلم جميعا ان الحروب والصراعات السياسية تركت آثارها المدمرة على واقع النخلة البصرية . غير ان الريبورتاج المصور يلفت النظر الى اشارة تحذير مبكرة لم تلتفت اليها حكوماتنا المنهمكة في الصراعات السياسية فهو يقول ان صادرات العراق من التمور انخفضت عام 1956من 221 مليون كيلوغرام الى 173 مليون كيلوغرام بواقع عجز مقداره 71 مليون كيلوغراما نتيجة للمنافسة الخارجية التي تعرضت لها تمور العراق رغم انها كانت التمور الاجود مذاقا في العالم .
وكانت التمور المغربية اخطر الانواع المنافسة رغم ان التمر المغربي كان يجفف صناعيا بينما كان التمر العراقي يجف على اشجار النخيل ولكن التمر المغربي صار ينقل الى مرسيليا الميناء الفرنسي المعروف حيث تجرى تعبئته بطريقة جذابة ولذلك ازداد الاقبال عليه واستطاع ان يحتكر اسواق اوربا ويطرد البلح العراقي منها !
ونأتي الى ما تركته الحروب من آثار مدمرة على الجانب العراقي بالأخص من خلال الملاحظة التحليلية للخبير البحري كاظم الحمامي عبر مقالته الهامة ( نهر شط العرب الصغير .. نهر آخر اغتالته الحروب ) والذي يصف فيه ما خلفه الجهد الحربي لقواتنا قبل التأثير الحربي للقوات الايرانية على بساتيننا الخضراء مشيرا الى الخراب الذي احال هذه الشلهات والجزر الى حقول للالغام في حين تحولت بساتين النخيل الى مسحات صلعاء تبعث على الاكتئاب ! ومن بعدها انطفأ نشاط الجراديغ الى الابد مثلما اندثرت العديد من الصناعات التي كانت السمة المميزة لبلاد ما بين الرافدين .
سقى الله ايام زمان !
936 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع