بقلم/ اللواء الركن المتقاعد فؤاد حسين علي
قراءة في كتاب وأد البطل للدكتور سعد العبيدي
أثار انتباهي عنوان كتاب اصدره أخيرا، الكاتب الدكتور سعد العبيدي "وأد البطل... حكاية جيش وملحمة وطن" تخيلته قبل تصفحه، رواية من تلك التي بات يصدرها أخيرا لتوثيق المرحلة الزمنية الحديثة للعراق باسلوب روائي.
جلبت انتباهي فكرة الكتاب التي اراد منها الابتعاد عن صورة البطل التقليدية الراسخة في عقل القارئ العراقي، عندما اشار في الصفحات الاولى الى ان البطل المعروف في ذاكرتنا، صورة بطل، أو خيال عتمة مشوشة لذكرى بطل، نرمي على أكتافه همومنا، أوجاعنا، مآسي الحياة والعمل. تبين له بعد خمسين عاما من الخدمة العسكرية سلما وحربا ان المقصود بالبطل او المفروض ان يكون البطل هو الجيش العراقي الذي كما يقول الدكتور سعد ان زمانه قد أفل. وانه قد أستُغِلَ وأستَغَلَ واسَتنجدَ به كل الحكام. أرادوه بطلا يحمل سيفا، يحمي عرشا، في الوقت الذي اراده الابناء رمزا وطنيا، يتفيئ بظله الضعفاء. وفي ذات الفكرة يتسائل هل حقا انه بطل؟.
لكن البطل من وجهة نظره، يُنقذ شعبه، يُخلص قومه، بينما بطلنا أكدت حوادث قد استعرضها باسلوب التحليل السلس، أنه كمن يستلم وعاء الزيت من الكبار يصبها على النار المشتعلة، ليقتل معنى البطولة في النفوس. كذلك أكدت مواقف تمت الاشارة اليها منذ تاسيسه عام 1921، حتى تلقيه طلقة الرحمة من قبل الحلفاء عام 2003 انه كمن أُلبِسَ عباءة انقلاب أكثر من مرة، لينهي في نفوس منتسبيه معنى الوطنية الحقة، والانضباط الصحيح والتقيد بالمعايير والقيم العسكرية النبيلة.
العائلة المالكة العراقية
ان اكثر ما يجلب الانتباه في هذا الكتاب المصاغ باسلوب سياسي، عسكري، نفسي فريد من نوعه، تلك الاشارات المتعددة لادخال هذا الجيش المفروض ان يكون بطلا في عالم السياسة من أبواب شُرعت لدخوله كي يكون مذنبا في قتل العائلة المالكة، ضرب الابناء، ازاحة حاكم، تنصيب آخر، وتغيير شكل الحكم، فعاش طوال العقود الاربعة الاخيرة من عمره التسعيني، وكأن البطولة قد أنتزعت من جسده المتهالك، ليعيش بدلا منها معاناة لوم لذاته المُرهقة، وخز عذاب لضميره المتعب، بطريقة ارهقته تماما، سحبته بالتدريج الى حالة الوهن، فتصدع بناءه بعد استبدال ضوابطه المهنية بالالتزام الحزبي، وأنتهى ولاءه الوطني بعد تحويله الى الحاكم، وتدنى أداءه، بعد ان سُيست "بعثت" أهدافه، فكانت سلسلة من الوهن والخذلان بدأت حلقاتها الاولى تظهر بشكل واضح بعد أول انقلاب غيّرَ شكل الحكم عام 1958، زادتها الحروب الداخلية والخارجية شدة، حتى أمكن القول أنه قد قُرب، وتَقَربَ من المنية "عملية الوأد" وان الاحداث التي مرت به والمواقف التي مر بها جعلت هذه المنية وكانها محتومة.
أن الكاتب في الفكرة التي قدمها لكتابه العاشر في سلسلة كتبه المتنوعة، والحوادث التي سطرها، وبعض القادة الذي تناول سيرهم الذاتية، جعلته يتيقن ان لا وجود للبطل، إلا في الخيال الاجتماعي، وان من يريد التكلم عن البطل، عليه إيقاظ أولئك القدامى، بدفاترهم، وخططهم، ونواياهم، يستعرض مسيرتهم، يتابع الأجيال التي تَلَتهم، والأحداث التي صنعتهم، وتلك التي صنعوها، يضعهم أمامه، يحاكيهم، يفهم منهم، ما أرادوه وما لم يريدوه، وما حصل لتسع عقود من زمن آخره عناء. ليتأكد بنفسه ان الاوائل كان لديهم مشروع جاد لانتاج بطل، وقد حاولوا، وحاول بعض ممن جاء بعدهم، للمحافظة عليه رمزا وطنيا للبطولة والتضحية، لكنهم صُدّوا، أحبطّوا، فشهد أبنائهم عملية وُأده لمن اريد له ان يكون بطل، وهدم لمعنى البطولة.
وبنفس الاتجاه من حوار الفكرة لاثبات عملية الوأد يطرح الكاتب سؤالا او بالاحرى اكثر من سؤال:
من هو المسؤول عن عملية الوأد؟.
هل الحاكم أم المحكوم؟.
القادة أم المنتسبون؟.
الطموحات الذاتية أم التطلعات الوطنية؟
كيف حصل؟.
كيف تخلى عنه الكبار؟.
كيف أمروا بحله وهو من أدى مهام حروب بالانابة عنهم، حروب حُشرَ فيها حشرا في طريق طويل، تحددت نهايته طريقا، بنهايته جيشا. مثلها الكاتب وكأنها دفن له حيا "وأد".
ان استعراض التاريخ الطويل لهذا الجيش العريق الذي اريد له ان يكون بطلا حسب تعبير الكاتب، شارك في صنع احداث، أجتهد، أخطأ، دافع، انحرف قادته أحيانا عن الطريق. مادة جمعها الكاتب بخبرته العسكرية وتخصصاته النفسية، من بحوث اعدها، ومقابلات أجراها، وشواهد عاشها، وحكايات سمعها، لغاية افصح عنها بشكل صريح، قوامها إعطاء القارئ فسحة لان يعيد رسم الصورة الحقيقية لبطله، عسى أن يجد فيها تفسيرا لعملية الوأد وكيفية حصوله، ومن كان وراء ما جرى بعد ان وصفه كنايةً بالبلاء.
أن الافكار المذكورة قدم تفاصيلها الكاتب باربعة ابواب تناول في البابين الاولين الهدم المنظم لاسوار العسكر، ثم اثر الحروب التي خاضها تكرارا على عملية الهدم. لكنه لم يتوقف عندها اذ قدم في الباب الثالث ما اسماه بحرب البناء المؤسسي، تناول فيها مسالة اعادة تشكيل الجيش من جديد، في ظروف حرب داخلية صعبة، رافقتها عقبات تسليح وتجهيزوأعمال فساد ونفاذ سياسي، وتدخلات خارجية، اثرت على مستويات اداءه فيها، حرب بالضد من قوى الارهاب اتفق اصحاب النفوذ في العالم القوي على ان تكون ساحتها العراق. وكان الباب الرابع والاخير، الذي اسماه حرب الامن الداخلي، بمثابة الخلاصة الفعلية لخبرته الطويلة في مجال العمل العسكري والسياسي والنفسي، قدمها بصيغة تقترب من اسلوب البحث العلمي، الذي يتأسس على خطوات التعريف بالمشكلة ثم حساب عوامل التأثير بها، واخيرا وضع المقترحات المناسبة للتعامل معها، وبما يفيد القائمين على الجيش الجديد في خطواتهم لتجاوز الخطأ وارساء قواعد الصح.
ويفيد القراء العسكريين وغير العسكريين، في تفهم الملابسات والاسباب التي ادت الى فقدان جيش لهم، كان من المؤمل أن يكون ويبقى بطلا.
ويفيدهم جميعا في دعم جيشهم الجديد لان يكون بطلا بالمعنى الوطني للبطولة.
12/10/2012
795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع