يا سَاكِـنَي العِـراقِ هَلْ مِـنْ عَـوْدَةٍ أحْيَا بِهَا، يَا سَاكِنِي العِراقِ ِ
وَا لَهْفـَتِي، ضاعَ الزّمَانُ وَلـَمْ أفـُزْ مِنْكُمْ، أهَيْـلَ مَوَدّتِي، بِعِناق ِ
(معارضة ابن الفارض، لموريه)
تمضي الايام والحنين الى العراقِ يزداد "يا أهيل اشواقي"، وأنا اعلل النفس بقرب اللقاء، والاسئلة تنهال علي من الأصدقاء الصحفيين بين مشفق ومواس ٍ، لِمَ كل هذا الحنين بعد كل هذه السنين، التي نيفت على الستين، وها أنا اليوم وأنا اقترب من السن التي يحتاج فيها المرء الى ترجمان، فأقول: "إن الثمانين وبلغتموها"، والقلب يتمزق مع كل مفخخة ومجزرة ينقل انباءها المفجعة الراديو والتلفزيون، أكاد اقول يا "اهيل مودتي"، كل عام وانتم بالف خير، ولكن الشر يستطير، في بلادي بلاد الأنبياء، بلاد التاريخ وكنوز قارون، بلاد الطغاة الظالمين، والشعب جائع "وفي كل عام وفي العراق جوع". اريد اليوم وقد اخذني الاسى لِما يجري في هذا العالم الذي يتأرجح بين العلم والجهل، بين التعصب والتسامح، بين الحق والباطل. بين الحب والكراهية، بين فهم لرسالة الأديان وبين تزويرها، والقلب لا يطاوعني سوى ان اجيب بصراحة على استفسارات السائلين.
اصدقائي الأعزاء، شكرا على رسائلكم واقتراحاتكم لاجراء مقابلات صحفية معي، أعترف بأن رسالئلكم توقعتـني فيما كنت أتجنبه واحذره، من ان أنكأ الجرح الذي ظننته قد التأم، كما كان عاشق عاتكة "يتجنب دارها حَذَرَ العِدى، وبها الفؤادُ مُوكـّل". فقد كنت أخشى أن تنهال علي رسائل العذل إذا استجبت لعقد مقابلات أدبية عن العراق لاحدكم دون الآخر. والسبب في تفضيل كاتب عراقي على غيره هو بأنني اعلم علم اليقين، وكما قلتُ مرارا لأصدقاء عراقيين، راسلوني في الماضي، بأني عندما تصلني رسالة من أخ عراقي، "تنشق المرائر مني، وتتقطع النياط ويبكي لها في حنايا الصدر عربيد"، شوقا لايام الطفولة والصبا:
ويا للشباب الحلو في التصابي روائح الجنة في الشباب
فلا استطيع أن أتجاهلها ولا يطاوعني وجداني ألاّ أن أرد عليها بالرغم من ضيق وقتي. ولكنني اليوم بعد أن قرأت ردود قراء جريدتي "إيلاف" و"الأخبار" الالكترونيتين، أدركت أن لكتاباتي محورين أساسيين جعلاها "رهينة المحبسين"، كما كان الأمر مع فيلسوف الشعراء العرب، أبي العلاء المعري، وكم اخشى ان تدك طائرات الاسد ودباباته، قبر فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، في معركته لاحتلال معرة النعمان. المحبس الأول الذي تعاني منه ذكرياتي هو، "حب العراق والحنين إليه"، "وما الحب إلا للحبيب الأول"، وهو محور يشكك فيه بعض القراء؟ لأن الكاتب هو يهودي من العراق هاجر إلى إسرائيل، وغـيّر اسمه من سامي إلى شموئيل، وهو ينوح على الفردوس المفقود فيها، ولكنه لا يسب إسرائيل صباح مساء كما عودهم بعض الكتاب الذين كانوا مدللين في العراق، لذلك فيجب التشكك في نواياه، مثلما كان أدباء الأندلس المسلمون يشككون في إسلام الشاعر والوشّاح الكبير إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي، هذا الذي ابدع في وصف غرقه احد الادباء الاندلسيين، في وصفه لـ"غصن الاندلس الرطيب"، بقوله بتورية رائعة: "عاد الدرّ الى قعره". فإذا أراد أحدهم القول "هذا أمر مشكوك فيه"، كانوا يضيفون إليه "كإسلام الشاعر إبراهيم بن سهل الإسرائيلي". حتى أصبحتُ أخشى أن يقول القومجية العراقيون والعرب عامة، من الآن وصاعدا، عن الأمور المشكوك فيها "هذا أمر مشكوك فيه كحنين شموئيل موريه الإسرائيلي إلى العراق!"، والعياذ بالله.
ومن خلال نشر ذكرياتي بأسلوب "تيار الوعي" وتداعي الذكريات، أدركت أن الغرض من كتابة ذكرياتي هو المحافظة على الاجواء العراقية واللهجتين الاسلامية واليهودية العراقية، وما يحز في نفسي من نكران الجميل في "فرهود اليهود" عام 1941 وحرب انقاذ فلسطين عام 1948، والنكبة التي اصابة الفسطينيين ويهود البلاد العربية سواسية. فتدوين الذكريات عامة غرضها "فتح دفاتر عتيقة" لمحاسبة الماضي والفترة التاريخية التي عاشها المؤلف وعتاب الأهل والأصدقاء والسياسيين والأعداء، فهو حساب عسير مع التاريخ والزمن والعائلة والمدرسين والأصدقاء بل محاسبة النفس عن الأخطاء التي ارتكبها المؤلف في حياته والتي ارتكبها الآخرون في حقه، كما يظن، كل ذلك للعبرة والاعتبار بها وليتجنبها الكاتب ولتتجنبها الأجيال القادمة لأجل مستقبل أفضل. وبما أن العراق هو قدري الذي يلاحقني الى كل مكان اذهب اليه، واصبح "سجن العمر"، وما يزال جزءا حيا من حياتي وكياني، في الماضي والحاضر، والحنين الذي يقض مضجعي ليل نهار، فأنا أرجو أن تساهم هذه الذكريات في تلافي الأخطاء في المستقبل لأجل عراق أجمل، عراق الخير والبركة والإخاء والوفاق الوطني، عراق دار السلام، وإن كان السلام ابعد ما يكون، وهل يستطيع النقد البناء، وهو أضعف الإيمان، بناء عراق المستقبل، وليس كما قال أحد القراء في تعليقه على فصل رقم 29 من سلسلة ذكرياتي عن يهود العراق، في "ايلاف" و"الأخبار" وفي كتابي "بغداد حبيبتي" (حيفا، مكتبة كل شيء، 2012)، معلقا في 29 أكتوبر 2007، معلنا للقراء على رؤوس الأشهاد ومحذرا: "أدعوكم أن تمعنوا في مذكراته كلها ستجدون خطا دراميا يروي لكم قصة سوء قوميتكم وديانتكم، فلا تدافعوا عن الباطل بحسن نيّة!". وقد شك بعض القراء في وجود سوء نية من قبل الكاتب المعلق بإقحامه النعرات الدينية لإثارة الكراهية والحقد والبغضاء، وأساء تفسير رسالة الأدب في النقد البناء وإصلاح ما يمكن إصلاحه لخير المستقبل.
أصدقائي الاعزاء، يخاطبني بعض قراء ذكرياتي "بشموئيل"، هذا أمر فيه مغزى. وقد سألني أحد المشاركين في ندوة نادي الرافدين في برلين، التي ترأسها البروفيسور كاظم حبيب، كيف أريد أن يخاطبني، هل باسم "سامي" أو "شموئيل"؟. قلت له نادني كيفما تشاء، لأني سأعلم موقفك مني. فإذا دعوتني "سامي" فسأعلم بأنك تراني أخا لك من العراق، أما إذا دعوتني "شموئيل" فسأعلم أنك تعتبرني "يهوديا إسرائيليا" يجب الحذر من "كلامه المعسول ونواياه الغادرة!" (كما ذكر أحد المعلقين على ذكرياتي رقم 29 والذي نعته القراء النابهون "بالقومجي التكريتي")، فقرروا مناداتي باسم "سامي"، فأدركت أن نواياهم صافية، وهكذا كان والحمد لله.
ثم كان القاء التاريخي في جامعة كمبردج في مؤتمر يهود البلاد العربية بمبادرة سمو الامير الحسن بن طلال ووقوفي على آرائه الرائدة الجريئة نحو السلام والتفاهم بين الشعوب والاديان، جعلني افكر مرة أخرى في موقفي الرافض من المقابلات الصحفية التي عرضها علي بعض الأدباء التي اتشرف بصداقتي معهم عبر الانترنيت والتي وصلتني أسئلتهم عن طريقه العابر للقارات والرقابات السياسية والحدود المغلقة والاسلاك الشائكة، فاصبحنا والحمد لله "أصدقاء بلا حدود"، ولكن معزة العراق والدالة الكبرى للعاصمة عمان مقر الأمير المبجل عليّ، والتي تشبه بقصورها الرخامية والصخرية الملونة العامرة، مدينة ذات العماد التي شادها عاد بن شداد، عمان المحروسة برعاية الله وأحفاد بيت رسوله الغرّ الميامين، مما اثار قريحة صديقي الشاعر الكوفي الوفي الدكتور جبار جمال الدين بقصيدة عصماء في "أمير الفكر" كبّر لها كبار المثقفين العرب. والدالة الكبرى لعمان عليّ الى جانب اطلاعي على آراء سمو الامير الحسن الرائدة في الإخاء الانساني وحل المشاكل الى تعترض طريق السلام ورفاهية الشعوب عامة في العالم، هي دعوة السفارة الإسرائيلية لي عندما كان السيد السفير يعقوب روزن، وهو تلميذي سابقا، السكرتير الأول في السفارة الإسرائيلية في عمان، وكان المرحوم فكتور نحمياس الملحق الثقافي فيها، وذلك لافتتاح قاعة المحاضرات في السفارة عام 1997 لإلقاء محاضرة عن "مكانة الأدب العربي في المجتمع وفي جامعات إسرائيل". هناك التقيت بكبار المثقفين والأكاديميين الأردنيين وانعقدت بيني وبين بعضهم أواصر صداقة حميمة، وأخذني أحد كبار الأدباء من بينهم (ولا أريد ذكر اسمه، خوفا عليه من أعداء التطبيع)، باريحته، للقاء الشاعر الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي في أحدى مقاهي عمان، ودعاه لحضور حفلة العشاء التي أقامها هذا الصديق تكريما لزيارتي لعمان في بيته الكبير العامر، وقد تدلت فيه عناقيد العنب، كثريات الذهب. ولذلك أصبحت لا أسمع باسم العاصمة عمان العامرة، إلا ويتبادر إلى ذهني لقائي بالشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، الذي عاش مشردا بين الدول العربية والأوربية لأنه اراد، رحمه الله، خير العراق وشعبه. حمدت الله الذي قدر لي لقاء البياتي في عمان المحروسة، وأنا إلى اليوم نادم على ضياع فرصة لقاء الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في المستشفى في لندن، إذ حذرني المشرف على أطروحتي وهو البروفسور بوب سارجنت من مغبة مثل هذه الزيارة عليه من يهودي عراقي من إسرائيل لشاعر العراق الكبير، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة للشاعر وحرمانه من رعاية الحكومة العراقية في المستشفى الذي كان يرقد فيه في لندن على حساب الحكومة العراقية، وما أزال آسفا لضياع فرصة أخري حرمتني منها المقاطعة العربية "الحكيمة"، ضد اسرائيل، وهي زيارة عمر بن ابي ربيعة المحدث، الشاعر السوري الكبير نزار قباني، شاعر الحب والمرأة، الذي كتب عن الحب ولواعجه انتقاما لانتحار اخته التي منعوا زواجها من حبيبها، ويا لقسوة التقاليد. حتى في لندن وقفت الاقدار في طريق لقائي بكبار الشعراء العرب المعاصرين، فقد كان وقته مكرسا هناك لمعالجة ابنه الذي أصيب بالسرطان فاعتذر لذلك، رحمهما الله، ولاتَ ساعةَ مَنْدم.
وأقولها صراحة، انه عند تسلمي أسئلة بعض الاصدقاء قبل اجراء المقابلات شعرت بالحرج، فقد سألني الاستاذ إبراهيم حمزة من جمهورية مصر العربية "هل ساءني سؤاله عن ابحاثي عن المسرح العربي وسبق الاستاذ الاعرجي في التوصل الى وجود مسرح حي في العراق في العصر العباسي،"؟ وإلحاح الاديب والناشر مازن لطيف في ان تكون له الاسبقية في نشر مقابلة له معي.
ولكن الحقيقة يجب ان تقال، فقد سبقهما كاتب عراقي بطلب مقابلة والح في طلبه وسألني اسئلة سياسية احرجتني حقا، فشعرت أمامها كأني في وسط حقل ألغام بعد أن زودني بخريطة مفصلة لهذا الحقل وهي مقال "يهود العراق" بقلم سيادة رئيس السلطة الفلسطينية الدكتور محمود عباس – أبو مازن، وطلب مني الخروج بسلام من هذا الحقل. قلتُ لنفسي، والله هذا أديب من دهاة الأدباء والصحفيين، وضعني في موقف حرج ليسبر غور انتمائي الفكري والعقائدي، ليقرر موقفه مني، هل أنتمي إلى التيار الفكري العراقي العربي، أو انتمي إلى التيار اليهودي الاسرائيلي الصهيوني؟ وهكذا شعرت بنفس موقف طارق بن زياد وقد قام بإنزال مجاهديه على ساحل الأندلس الرطيب، وحرت هل أحرق سفني فأبقى على الساحل الإسرائيلي أم أعود بها الى ساحل الأمان، وهو الساحل العراقي العربي؟
355 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع