د.هالة مصطفى
لم يعد الحديث عن الأحزاب السياسية في مصر جذابا لأي محلل سياسي لكثرة ما كتب عنها و عن أسباب ضعفها، ولكن ورغم ذلك فإننا إزاء حالة تبدو متناقضة ،
فمن ناحية تصدرت أخبار التحالفات الحزبية استعدادا للانتخابات البرلمانية وسائل الإعلام المختلفة ، وهو ما يجعلها تفرض نفسها علي التحليلات السياسية ، و من ناحية أخري فهناك نص دستوري ( مادة 146 ) يعطي للأحزاب أهمية خاصة في اختيار أي حكومة قادمة، حيث أشركها مع رئيس الجمهورية من خلال الحزب أو الائتلاف الحزبي الذي يحصل علي الأغلبية في اختيار رئيس الحكومة وغالبية أعضائها . إن سبب هذا التناقض يرجع إلي أن هذه الحركة الظاهرية و الاجتماعات المكثفة و المفاوضات و المباحثات المصاحبة لها لتكوين تحالفات حزبية انتخابية ، فضلا عن الأهمية النظرية التي يعطيها الدستور لدور الأحزاب في الفترة القادمة ، لا تتوافق مع واقع هذه الأحزاب الفعلي من حيث حجمها أو جماهيريتها أو تأثيرها أو وضوح رؤيتها بشأن توجهاتها في السياسات العامة الداخلية و الخارجية . فهناك بعض الأحزاب التي تمتلك تراثا تاريخيا (مثل الوفد) وتلك التي تشكلت حديثا وتعتبر كبيرة اسما أو إعلاميا (مثل الدستور، المصريين الأحرار، الديمقراطي الاجتماعي والمؤتمر الذي يتزعمه السيد عمرو موسي رئيس لجنة الخمسين التي وضعت الدستور و الذي يتولي حاليا مهمة الجمع و التنسيق بين مختلف الأحزاب) والغالبية الباقية من الأحزاب والتي يتجاوز عددها الثمانين حزبا هي غير معروفة للخاصة والعامة ويتساوي وجودها مع عدم وجودها.
بالتالي فان فتح الباب واسعا بعد ثورة 25 يناير بتشكيل الأحزاب بالإخطار لم يحل المشكلة بل علي العكس فقد أدي إلي كثرة عددية بلا مضمون أو فعالية حقيقية، إذ تأسست معظم هذه الأحزاب الجديدة علي بعض الرؤي الفردية المرتبطة بأشخاص بعينهم أكثر من قيامها علي أساس اتجاه أو فكر سياسي أو قاعدة اجتماعية تعبر عنها، فظهرت أحزاب الأشخاص حتي أصبحت ظاهرة لتضاف إلي مثيلتها التي عرفت قديما بالأحزاب الكرتونية أو الورقية و التي لم يكن لها سوي دور تجميلي في إطار تعددية حزبية زائفة يهيمن عليها حزب حاكم يشكل الأغلبية و يرتبط بأجهزة الدولة و يحتكر في الحقيقة العمل الحزبي .
إذن سواء وُضعت قيود علي إنشاء الأحزاب أو رُفعت تلك القيود فنحن إزاء نتيجة واحدة و هي أحزاب مدنية ضعيفة ، و لذلك كان الوجه المقابل لهذا الواقع هو صعود ما عرف بالأحزاب الدينية التي كانت تستخدم الدعاية و الخطاب الديني لتزييف الوعي و القفز علي تلك الأحزاب و الحصول علي مكاسب سياسية علي غير استحقاق، وهو ما أوصلنا إلي حكم جماعة الإخوان و صعود معها تلك النوعية من الأحزاب المرتبطة بنفس إطارها الايديولوجي و سيطرتها علي برلمان 2012 كما هو معروف . و السؤال هو هل تغير المشهد الحزبي الآن بعد ثورة 30 يونيو و رحيل الإخوان ؟
الإجابة تبدو واضحة ، فالمشهد لم يتغير كثيرا ومازالت محاولات عقد التحالفات بين الأحزاب متعثرة ، بل كثيرا ما تتوقف علي خلفية الانقسامات والصراعات الكامنة و الظاهرة . و يُرجع البعض هذا التعثر إلي غياب ثقافة التحالفات الحزبية في الممارسة السياسية المصرية ، وهو أمر صحيح في جانب منه و لكنه ليس السبب الوحيد ، فهناك أسباب أخري لا يمكن تجاهلها أولها أنه كانت هناك رغبة في أن يتم جمع الأحزاب المدنية كلها تحت مظلة واحدة وهو أمر غير واقعي يصعب تحقيقه من الناحية العملية ، لأنه لو كان ذلك ممكنا لكنا إزاء حزب واحد كبير ، أو تنظيم سياسي واحد علي غرار الاتحاد الاشتراكي، إذن هذا منطق يناقض فكرة التعددية الحزبية ويفترض مسبقا أنه لا خلاف في توجهاتها السياسية والفكرية، وهو أمر لو صح لوجب إلغاء الأحزاب ببساطة .
وثاني هذه الأسباب يتعلق بالخلاف حول نصيب كل حزب من المقاعد البرلمانية وفقا لتشكيل القوائم الانتخابية التي يسميها البعض «المحاصصة». وهو أمر غير مستغرب في ذاته ، فكل حزب يسعي للحصول من خلال المفاوضات علي الحصة الأكبر التي يمكنه الحصول عليها في إطار ما يعرف بفن المساومة فليست هذه هي المشكلة، بل إن المشكلة الحقيقية هي أن أغلب تلك الأحزاب لم تُختبر علي الأرض لمعرفة وزنها الحقيقي من خلال خوض كل حزب للانتخابات بمفرده لمعرفة كم المقاعد التي يمكنه الحصول عليها، وبدون تقدير لهذه الأوزان النسبية ، فلا يمكن أن تنجح أي مفاوضات بشأن تخصيص المقاعد (أي حصة كل حزب في القوائم الانتخابية ، وكذلك في الدوائر الفردية حال ترشح الحزبيين كأفراد من خلال التبادل في إخلاء الدوائر بين الأحزاب) وأخيرا يأتي السبب الأهم و يتمثل في غياب أرضية سياسية مشتركة يتوافق عليها الجميع . صحيح أنه تم طرح وثيقة أو إطار للمبادئ العامة تقوم علي أساسها التحالفات بين الأحزاب مثل الالتزام بالدولة الوطنية و النظام الجمهوري والدستور وغيرها، بهدف تجاوز ما يعرف بالتحالفات الانتخابية الوقتية التي لا تقوم إلا علي المنفعة و المصلحة الآنية دونما اعتبار للمبادئ، مثال ما حدث بين الوفد و الإخوان في فترات مختلفة أبرزها كان في انتخابات 1984، إلا أن هذا المطلب بدا بدوره مثاليا يصعب تطبيقه أو لم يكن كافيا لجمع الأحزاب الداخلة في هذه المفاوضات، خاصة مع ظهور قضية محورية تتعلق بالموقف من أعضاء الحزب الوطني المنحل بعدما خلا الدستور الجديد من مادة العزل السياسي، وأقر قانون مباشرة الحقوق السياسية بعدم حرمان أي فرد من حقوقه تلك (سواء بالترشح أو الانتخاب) طالما لم يصدر ضده حكم قضائي يمنعه من التمتع بها . وهنا انقسم المشهد الحزبي مرة أخري بين الجبهة المصرية أو ما كان يسمي بـ »تحالف الأمة المصرية« الذي أراد جمع الأحزاب تحت هذا العنوان العريض (ويضم أساسا أحزاب المؤتمر الذي أسسه عمرو موسي، والحركة الوطنية الذي أسسه الفريق أحمد شفيق، وجبهة مصر بلدي وغيرها من الأحزاب التي رفعت شعار المصالحة مع أعضاء الوطني ممن لم تصدر ضدهم إدانة ، بل وتضم أحزاب هذا التحالف أعضاء سابقين بالحزب الوطني القديم كما هو معروف) وهو ما رفضه حزب الوفد وشكل في المقابل تكتل الوفد المصري الذي يشمل إلي جانب الوفد أحزاب (المصري الديمقراطي الاجتماعي ، حزب المحافظين ، الإصلاح و التنمية ، الكتلة الوطنية و الوعي و غيرها ) وبين التكتلين يظل حزب المصريين الأحرار دون موقف واضح ، و هناك تحالف ثالث يتزعمه المرشح الرئاسي السابق السيد حمدين صباحي ومعه أحزاب (الدستور، الكرامة، التحالف الشعبي الاشتراكي و غيرها) مع ملاحظة أن كثيرا من الأحزاب الموزعة علي هذه التكتلات الثلاثة هي أحزاب غير معلومة سواء جماهيريا أو حتي إعلاميا، وإذا كانت تلك النوعية من الأحزاب لا تتمتع بوجود فعلي و تحتاج دائما إلي الاعتماد علي أحزاب أخري أو اللجوء إلي تكتلات ففيما سبب وجودها أصلا !!..
واللافت في كل ما سبق أن هذه الأحزاب - التي لم نعد نسمع عنها إلا أخبارها وصراعاتها وصفقاتها - لم يُعرف عنها اتخاذ مواقف واضحة فيما يتعلق بالقضايا العامة الجوهرية المطروحة علي مصر الآن، فصوتها لا يعلو إلا وقت الاستحقاقات الانتخابية .. حقا إن الخريطة الحزبية في حاجة إلي وقفة .
544 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع