أ د عماد عبدالسلام رؤوف
ثمة رجال أغفل ذكرهم التاريخ، وسكت عنهم الرواة، فلم يعرف الناس عنهم شيئاً، وبات خبرهم نسياً منسياً، وإذا بوثيقة تظهر، أو نص ينشر، يكشف فجأة عن أولئك الرجال المجهولين، ويوضح مدى تأثيرهم في حوادث عصرهم، وما قاموا به من مهم الأعمال.
والسيد علوان السامرائي أنموذج واضح على أولئك الرجال الذين نسيهم التاريخ، وكان يمكن أن يكون حديثه مطوياً، لولا أن وقفنا على بعض جوانب حياته المفعمة بالحوادث في وثيقة مهمة بعث بها نائب القائم بأعمال المفوضية الملكية العراقية من جدة إلى وزارة الخارجية العراقية بتاريخ الثامن من آب سنة 1932. وعلى الرغم من قلة المعلومات التي أوردتها هذه الوثيقة، وسكوتها عن كثير من التفاصيل، فإننا نستطيع أن نتلمس، من خلال المعلومات المتاحة، أهمية الرجل، وجسامة الحوادث التي شارك فيها، والعلاقات التي وصلت بينه وبين الشخصيات البارزة في عصره. وعلى أية حال، فإن الوثيقة شجعتنا على المضي في تتبع أخبار الرجل، وتسقط المعلومات عنه، وتصحيح ما ورد في الوثيقة نفسها أحياناً، حتى تكاملت عندنا صورة ذلك العراقي النابه، فإذا به أحد رواد الصناعة العسكرية في الشرق العربي، إبان الثلث الأول من القرن الماضي.
وتصرح الوثيقة بأن اسم السيد علوان الكامل، هو علوان بن السيد بن السيد محمود بن الشيخ أمين السامرائي، والذي نعرفه أن جده الشيخ أمين كان أحد صلحاء عصره في سامراء، وهو ابن يوسف الحلبي الذي قدم إلى بغداد رفقة والي حلب علي رضا باشا اللاز سنة 1831م، وبوصف هذا هو ابن نعمان بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن محمد بن عثمان بن عبد الله الشريف، وكانت أسرته تعد إحدى أعرق أسر السادة الأشراف في حلب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للهجرة (الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد).
وبحسب معلوماتنا المستمدة مما تحتفظ به أسرته من وثائق في بغداد، فإنه تزوج من ابنة عمه الحاجة خديجة بنت الحاج صالح الشيخ أمين، وأنه أنجب منها من الذكور لطفي وعبد الجبار، والأخير هو والد الدكتور فائق السامرائي، ومن الإناث: فخرية ولطفية.
أقام السيد علوان في البصرة مدة قبل ذهابه إلى الحجاز، وكان عماه السيد أحمد، والسيد علي، ولدا الشيخ أمين، قد قاوما البريطانيين في أثناء احتلالهم العراق، فتم نفيهما إلى مدينة (كانه) في الهند، مما أدى إلى أن يصادر البريطانيون بعض أموال السيد أحمد في البصرة، كما صادروا أموال السيد علي في مدينة العمارة في جنوبي العراق.
وتفيد الوثيقة أن السيد علوان كان مقيماً في الحجاز خلال حكم الدولة العثمانية، وأنه حارب في صفوف قواتها في حربها على القوات السعودية الزاحفة على الحجاز، أما معلوماتنا فتشير إلى أنه حارب في صفوف قوات الشريف حسين بن علي ضد تقدم القوات المذكورة. وتنوه الوثيقة بأنه اتصف بالقوة وشدة المراس، وأنه عرف بفتكه بأعدائه والتنكيل بهم، ولا تشير الوثيقة إلى تفاصيل أخرى عنه في تلك المرحلة من حياة السيد علوان، والظاهر أنه استقر بعد ذلك في الحجاز، ولم يغادره حتى بعد دخول القوات السعودية إليه، إثر انهيار حكومة الهاشميين وانسحابها منه نهائياً. وأغلب الظن أنه فرض وجوده واحترامه على النظام الجديد، بسبب طبيعة ما كان يؤديه من عمل تحتاجه البلاد، وبتطله النظام الجديد نفسه، فقد تخصص السيد علوان بإصلاح الأسلحة النارية، التالفة منها والمعطوبة.
ثم أنه أنشأ معملاً في مكة لهذا الغرض، وقد بلغ هذا المعمل حداً كبيراً من سعة الإنتاج، حتى وصل عدد قطع السلاح التي أصلحها لحساب الحكومة وحدها نحو 14000 قطعة. ومن الواضح أن إصلاح هذا العدد الكبير من الأسلحة، كان يقتضي التصنيع الناجح لأعداد ضخمة من أجزاء الأسلحة التالفة، بما يعنيه ذلك من أعمال صهر وصب في القوالب الخاصة بها، وهذا ما كان يضعه في طليعة الصناعيين العرب في تلك الحقبة، وربما كان العراقي الوحيد الذي أنشأ مصنعاً للسلاح في خارج وطنه، فضلا عن داخله، في ذلك العهد.
وتغاضى الملك عبد العزيز آل سعود عن ماضي السيد علوان السامرائي المعادي للسعوديين، بل أنه قربه منه، وقد شهد الشيخ يوسف ياسين، أحد موظفي الخارجية السعودية في الثلاثينات، للقنصل العام العراقي بأنه كثيراً ما كان يرى الملك عبد العزيز يمازح السيد علوان، ويذكره بما كان يقوم به في أثناء مشاركته في الحرب على السعوديين، بل أنه كان يكن له احتراماً خاصاً. وقد عد من وجهاء العراقيين في الحجاز، لاسيما بعد أن تزوج الشيخ علي العماري، مدير شرطة جدة، من ابنته فخرية,
ويبدو أن أمراً ما أدى إلى تنقلب الأمور على السيد علوان، ففي أحد أيام شهر تموز من سنة 1932م، أوقفته شرطة جدة بحجة أنها عثرت على بعض البنادق في مخزنه، وهي تهمة غريبة فعلاً، لأن مهنة الرجل هي تصنبع السلاح وإصلاحه، وهو يتولى ذلك للحكومة علناً، وأن الأخيرة كانت مدينة له بقيمة إصلاحه آلاف القطع من السلاح. ويرى نائب القائم بأعمال المفوضية، وهو معد التقرير، أن سبب توقيفه هو مراجعته للمفوضية العراقية في جدة بين حين وآخر، وهذا الأمر "محرم بعرف الحكومة المحلية". والظاهر أنه كان متهماً بالتعاون مع سلطات المفوضية من حيث تزويدها بالمعلومات السياسية والعسكرية، وهي المعلومات التي كانت السلطات المحلية تجتهد من أجل كتمانها.
واجه السيد علوان، نتيجة عمله هذا، إحدى ثلاث عقوبات، إما الإعدام، أو النفي، أو الجلد بالسوط، ولذا فقد بادرت المفوضية العراقية في جدة إلى التدخل في الأمر، ومفاتحة الشيخ يوسف ياسين بشأنه، والسعي لإصدار جواز سفر عراقي له إظهاراً لعراقيته، للحيلولة دون مواجهته إحدى تلك العقوبات الفادحة.
ومن المؤسف أن تقارير المفوضية العراقية التالية خلت من الإشارة إلى حياة هذا العراقي، فلا نعلم مصيره بعد ذلك التاريخ، وعلى أية حال، فإننا نعلم، بناء على معلومات أحفاده، أنه توفي في الحجاز، وأنه دفن فيه، أما أولاده فقد عادوا إلى العراق، وله اليوم أحفاد يعيشون في بغداد وسامراء.
1048 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع