حامد خيري الحيدر
أخذ شكل المجتمع العراقي القديم بالوضوح بعد ثورة استيطان المدني التي حدثت في جنوب وادي الرافدين في أواسط الالف الرابع ق.م،
حيث تحولت المستوطنات والتجمعات القروية القديمة التي شيدها الانسان العراقي في ذلك الجزء من وادي الرافدين الى دويلات صغيرة عامرة، أخذت أنظمتها السياسية بالاستقرار والثبات تدريجياً، لكل منها حدودها وإدارتها المستقلة ومعبودها القومي وجيشها الحامي، واقتصادها الخاص المستقر.. ثم انعكست هذه المتغيرات الأساسية بمجملها بالتالي على طبيعة المجتمع العراقي بشكل كبير، فتعقدت وتشابكت علاقات أفراده مع بعضهم، خاصةً بعد أن أصبح مجتمعاً متعدد الطبقات كنتيجة طبيعية لظهور مبدأ التخصص في العمل.
في بداية تكوين المجتمع حددت علاقاته الاجتماعية الاعراف والتقاليد والنظم الموروثة من مرحلته القروية السابقة خلال الالفين الرابع والخامس ق.م، والتي كانت تسّير حركة المجتمع آنذاك، ثم ما لبثت هذا المجتمع كونه على درجة كبيرة من التعقيد والتباين بين شرائحه وطبقاته أن أصبحت تلك الموروثات لا تتلاءم مع التطورات والتغيرات السريعة في بنيته، لذلك ظهرت الحاجة الى وضع نظم وقواعد جديدة من قبل السلطات الحاكمة للسيطرة على المجتمع الجديد وتنظيم علاقات أفراده وتحديد واجباتهم والتزاماتهم إزائه، لذلك ظهرت القوانين تلبية لتلك الحاجة فأصبحت بالنسبة للباحثين نافذة تطل على عموم المجتمع آنذاك.. ويمكن القول أن قسماً كبيراً من معلوماتنا عن طبيعة المجتمع العراقي القديم أنما مستمدة من تلك القوانين... أضافة الى النصوص المسمارية الاخرى كالعقود والوثائق الاقتصادية والنصوص الادبية والدينية، كذلك الشواخص المعمارية واللقى الاثرية المتنوعة، التي واكبت تطور المجتمع منذ بداياته الأولى فرسمت صورة واضحة نوعاً ما عن طبيعته آنذاك.... ومن خلالها يمكن القول أن المجتمع العراقي القديم لا يختلف كثيراً عما هو عليه الان من حيث تناقضات حياته وحدّة مزاجه من جهة، وطيبة قلبه وانسانيته من جهة أخرى، المتأتيان بالأساس من تناقض طبيعته وبيئته، والظروف القاسية التي مر بها على مدى تاريخه الطويل وواكبت مسيرة حياته، ولم يختلف في الزمنين سوى الشخوص وأدوات الحياة.
التكوين الاجتماعي
المجتمع العراقي القديم كأي مجتمع آخر كان يتألف من طبقات وفئات متعددة منها الحاكمة، وهي المتنفذة سياسياً واقتصادياً ودينياً، أو المحكومة والتي على مدى تاريخها الطويل تحاول استرداد حقوقها وأثبات وجودها كعامل أساسي في بناء الحياة....
1_ الطبقة الحاكمة
على رأسها العائلة الحاكمة، المسيطرة على دفة تسيير مجريات الحياة اليومية للمجتمع والمهيمنة على القسم الاكبر من موارده الاقتصادية، وقد أضفت الفلسفة الدينية الرافدينية هالة من القدسية على شخص الحاكم (أمير أو ملك) وعائلته، معتبرة إياه ممثلاً عن الالهة وينوب عنها في حكم البشر، وهي التي اختارته لهذه المهمة. لذلك كانت هذه الطبقة جلّ اهتمامها هو البقاء في الحكم بأي ثمن، مما دعاها باستمرار لشن الحملات العسكرية للقضاء على الثورات وحركات التمرد داخل البلاد وفي الاقاليم البعيدة المحتلة مستندة الى هذا الادعاء، مما كان يؤدي ذلك الى استنزاف الكثير من موارد الدولة الاقتصادية.
2_ الطبقة المُترفة
وتسمى بالأكدية (أومانو)، وهي في الغالب أصل كلمة (أمناء) العربية، كما أنها سميّت ايضاً ب(أويلم)، وتضم في مقدمتها الوزير الأكبر الذي يسمى بالأكدية (سكال ماخ) الذي يعتبر اليد اليمنى للملك أو الأمير، ويلقب أحياناً باسم (صرماخ) و يعني الرأس الأكبر، ومن الطريف أن نذكر هذه التسمية لازالت متداولة بين مفرداتنا العامية ، حيث يكنى (كبر الرأس) أو المسؤول والشخص كبير المنزلة باسم (صماخ).... كما وتضم هذه الطبقة أيضاً كبار التجار، المُلاّك، موظفي القصر، الرتب العالية في الجيش، مثل الحاكم العسكري الذي يسمى (شكنا) وقائد الجيش (الترتانو)، وكذلك تضم حكام المقاطعات وكبار الكهنة... وكان لهذه الطبقة حقوق وامتيازات خاصة من الناحيتين الاجتماعية والقانونية، حيث أن لها دوراً كبيراً في أدارة المرافق الحيوية للبلاد من النواحي السياسية والاقتصادية والدينية، وتساعد العائلة الحاكمة في عملها، لذلك فأن مصالحهم ومصائرهم ارتبطت على الدوام بمصير الحكام.
3_ عامة الناس (الطبقة المحكومة).... وتتكون من فئتين :
الاولى / الاحرار أو المواطنين العاديين... ويسمون في اللغة الاكدية (مشكينم) وهي أصل كلمة (مسكين) العربية، كان هؤلاء يمثلون الجزء الاكبر من المجتمع، وهم العاملون في الحقول والمزارع والحوانيت التجارية الصغيرة والكتبة والشغيلة البسطاء والحرفيون وصغار الكهنة والصيادون وعمال تحميل مرافئ السفن، وبقية الشرائح الفقيرة المعدمة الأخرى، والتي تعتمد في عيشها على جهودها اليومية.. وكانت هذه الطبقة كحالها في كل زمان ومكان صامتة ومغلوب على أمرها همّها الاكبر توفير المعيشة لعائلاتها، ويتوضح ذلك جلياً بالمثل السومري البليغ (الفقراء هم وحدهم الصامتين في سومر)... ولعل أشد هذه الفئة بؤساً هم الفلاحون العاملين كأجراء لدى الملاكين الكبار أو لدى مؤسسة المعبد والسلطة الحاكمة، حيث مستواهم الاقتصادي متدني للغاية ولا يحصلون مقابل عملهم الشاق سوى كميات محدودة من الحبوب والخبز، تمنح لهم بشكل جرايات خلال فترات معين من العام، كما أنهم كانوا يعاملون معاملة العبيد بالحط من انسانيتهم وكرامتهم، وبأسلوب لا يختلف عن نظام الاقطاع الذي ساد في جنوب العراق ابان الحقبة الملكية (1921_1958)، حيث وصل الحال الى أنهم كانوا يباعون مع الاراضي التي يعملون فيها، وقد سمي هؤلاء في السومرية (كًوروش)، كما ادت حالة البؤس والفقر بين عموم الفلاحين الى حدوث تباين ثقافي واضح بينهم وبين سكان الحواضر والمدن..... وبالرغم من فقر طبقة العامة أو محدودية مستواهم الاقتصادي الا أنهم كانوا من الاحرار يتمتعون بقدر من الحقوق والامتيازات التي أقرتها القوانين، لكن تبقى حريتهم مقيدة بظروفهم الاقتصادية الصعبة الغير مستقرة.
الثانية / العبيد ... اختلفت تسمية العبد وتعددت حسب مصدر عبوديته، لكن أوضح تسمية رسمية له في الاكدية هي (وردم) والعبدة (ورداتم) وأحياناً سميت (أمتو) التي انتقلت بنفس معناها الى العربية بشكل (أمة).. كما كان العبد يسمى أيضاً (سوبارُم) أو (سبرُم) و اصل الكلمة يعود الى اسم المورد الاول الذي كان يتم جلب العبيد منه وهو بلاد (سوبارتو) التي تقع في احد المناطق الجبلية شمال شرق نهر دجلة، وكان سكانها يسمون بنفس اسم منطقتهم.. وهذا ما يوضحه أيضاً أول رمز في الكتابة الصورية لمعنى كلمة (عبد) والتي ظهرت أواخر الألف الرابع ق.م، فكان يرسم رمز الجنس ذكر أو انثى (عبد أو عبدة) والى جانبه صورة جبال.... ولم تكن هذه الطبقة تؤلف نسبة كبيرة أو ذات تأثير فعال في بناء المجتمع وتطور كيانه الحضاري، أما مصادرهم الاخرى أضافة الى ما سبق فكانت على الاغلب من أسرى الحروب، أو من الاحرار الذين يصبحون عبيداً لاقترافهم جرائم خاصة أو وقوعهم تحت طائلة الدين وعدم تمكنهم من سداده. وكان ينظر الى هؤلاء على أنهم من الاشياء المملوكة ويعاملون معاملة خاصة أمام القانون ويميزون عن بقية أفراد المجتمع (الاحرار) أما بأسلوب قص شعورهم أو بوضع علامات العبودية المميزة على أجسادهم كالوشم أو الكي. وكانت شخصية العبد غير كاملة الأهلية بالنسبة للمجتمع، ومع ذلك أعطت بعض القوانين شيئاً من الحقوق لهم فلم تسمح بتعذيب العبد أو ضربه ضرباً مبرحاً، كما لم تسمح بقتلهم حتى من قبل أسيادهم، وكان يحق لهذه الطبقة تكوين أسرة شرعية، فاذا تزاوج العبيد فيما بينهم كان الاولاد عبيداً مثل أهلهم أما أذا تزوجوا من طبقة الاحرار فأن الاولاد يكونوا أحراراً. وكانت العبدة تحصل على حريتها أذا أعترف مالكها وسيدها بأولادها كأبناء شرعيين له. وفي الالف الاول ق .م أجازت بعض القوانين الاشورية والبابلية المتأخرة للعبد أن يعمل لحسابه الخاص وأن يمتهن حرفة خاصة به بعد موافقة سيده لقاء نسبة معينة يدفعها له، كي يستطيع أن يفتدي نفسه وحريته بالمال. وتذكر بعض النصوص المسمارية المتأخرة أن بعض العبيد تقلدوا مراكز وظيفية لدى البلاط والحكومة والبعض منهم أمتلك أموالاً منقولة وغير منقولة بل وحتى امتلاكه العبيد.
788 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع