حامد خيري الحيدر
ظهرت الأفكار الدينية أي الأعتقاد بوجود قوة أو قوى خارقة غير منظورة في عوالم ماوراء الطبيعة تسيطر على مقدرات الكون، منذ فترة مبكرة من ظهور الأنسان على وجه الأرض1، ثم رافقت تطوره الجسماني والعقلي طيلة مسيرته التاريخية اللاحقة.
فبعد أن أخذت بوادر تفكير الأنسان العقلي بالنضوج ثم التأمل لمحيطه وبيئته القاسية فلم يجد نفسه إلا وحيداً ضعيفاً أمام جبروت الطبيعة الهائل. فقد كانت حالة الضعف الجسماني الذي يمتاز بها الأنسان مقارنة مع الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه بيئته والتي وجد نفسه عاجزاً عن مقارعتها والتغلب عليها، دعته أن يبحث في أوقات شدته عن قوى غيبية ذات أمكانات غير محدودة تعينه وتزيد من قدراته لمواجهة تلك البيئة القاسية، ليتمكن من استمرارية وتطوير جنسه البشري الجديد (وهذا الشئ ظل يلازم تفكير الأنسان حتى يومنا هذا)، وهنا كانت البدايات الأولى لهذه الافكار. وبالرغم من التباين النسبي وطول الفترة التي أستغرقها تطور ونضوج المعتقدات الدينية بين مناطق العالم المختلفة ألا أنها كانت متشابهة في أطارها العام من ناحية المفهوم والغاية.... وسيكون محور هذا البحث المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين كونها أقدم بقعة حضارية في العالم القديم، أيضاً أن ما سيتم التطرق اليه يشابه في أطاره العام بشكلٍ أو بآخر المراكز الحضارية الأخرى في الشرق الأدنى القديم ووادي النيل ثم وادي السند، وكذلك الحضارات اللاحقة في بلادي اليونان والرومان..
من خلال تتبع تطور الأفكار والمعتقدات الدينية يمكن القول أنها مرت بمرحلتين أساسيتين هما..
1_ السحر
هو عبارة عن مجموعة من الطقوس والممارسات أعتقد الأنسان أنه من خلالها وبواسطتها يتمكن السيطرة على القوى الطبيعية المحيطة به، والأخرى المنافسة له في بيئته واخضاعها لأرادته. ولعل من أقدم وأوضح الأمثلة على ذلك الطقوس الجنائزية التي مارسها أنسان (النيادرتال) خلال عمليات دفن موتاه. فقد كشفت التنقيبات الأثرية في كهف (شانيدار) في شمال العراق حيث عاش ذلك الأنسان هناك قبل حوالي 45 الف سنة أنه كان يُسجي موتاه في قبورهم بطريقة تشبه وضع الجنين في رحم الأم معتقداً بذلك أمكانية عودتهم للحياة مرة أخرى، لتكون هذه الممارسة الطقوسية هي أولى محاولة البشر لقهر الموت. ومن الأمثلة الأخرى ما كان يفعله الأنسان الحديث (الهوموسيبينس)2 الذي ظهر قبل حوالي 25 الف سنة، كان يرسم صور الحيوانات التي يروم صيدها على جدران الكهوف والمغاور التي سكنها لجعلها قريبة منه وتحت نظره، كي يسهل عليه (حسب تصوره البدائي) السيطرة عليها وبالتالي تمكنه من صيدها. كما قام هذا الأنسان أيضاً بطلي جثث موتاه بالصبغة الحمراء (المغرّة) لإعطائها علامة من علامات الحياة لنفس غاية سلفه (النيادرتال).
2_ الديانة
بدأت المراحل الأولى لمفهوم الديانة في الفترة التي رافقت أستقرار الأنسان في قرى سكنية بعد اكتشافه الزراعة وانتقاله من طور (جمع القوت) الى طور (أنتاج القوت) في مطلع الألف التاسع ق.م، وما صاحب ذلك من تطور فكري أقنعه بعقم فكرته الأولى (السحر) وفشله الذريع في أخضاع القوى الطبيعية لمقدراته، فبدأ فكرته الثانية والمتمثلة بالتخضع والتقرب لتلك القوى لتمنحه متعطفة ً قواها وطاقتها، حيث كان الأنسان في تلك الفترة بأمس الحاجة لها في حياته الزراعية الجديدة.
تصور الأنسان في بداية تبنيه فكرة الديانة القوى الطبيعية بهيئة آلهة تسيطر على بيئته وبالتالي على أقداره ومجريات حياته ومعيشته... ونظراً لتعدد تلك القوى المحيطة بالإنسان مثل... الهواء، الماء، الشمس، القمر، الأرض... الخ فقد تعددت بالمقابل الآلهة التي تمتلك تلك القوى، فأصبح لكل منها إلهها الخاص بها... حتى المرأة في بداية تبلور الفكر الديني أحيطت بها هالة من القدسية بأعتبارها العنصر الولود (منبع الحياة). وقد تم العثور في العديد من مواقع العصر الحجري الحديث في وادي الرافدين وأرض الشام وهضبة الأناضول وغرب أيران على دمى أنثوية بولغ في أبراز أثدائها وأعضائها التناسلية، عرفت باسم (الآلهة الأم). بالمقابل ظهرت أيضاً ممارسة تقديس العنصر الذكري بأعتباره الطرف الثاني من عملية الخصب. حيث عثر كذلك من نفس الفترة والمناطق التي سبق ذكرها على دمى لحيوانات مقرّنة مثل الثيران والوعول (رموز الخصب) داخل بعض البيوت والمزارات البدائية، كما عثر أيضاً داخل عدد من قبور النساء على نماذج تجريدية للعضو الذكري معمولة من الحجر أو الطين خاصة مناطق شمال بغداد. ويمكن أعتبار هاتين الممارستين البدايات الأولى لفلسفة الخصب وآلهتها لدى الأنسان. كذلك من الممارسات الدينية التي يجدر ذكرها والتي ظهرت خلال هذه الفترة والمناطق أيضاً، تلك الرقصات الطقوسية التي تتمثل بهز شعور النسوة بطريقة مماثلة لرقصات فتيات الغجر، كانت الغاية منها طلب استسقاء الأمطار عند انحسارها، حيث أن الزراعة البدائية كانت بطبيعتها زراعة ديمية، وانقطاع الأمطار يعني حلول القحط والمجاعة لسكان المنطقة. وهذا ما توضحهه الرسوم والنقوش على الأواني الفخارية من هذه الفترة والتي صورت تلك الرقصات والى جانبها أشكال محورة لعقارب (رمز الجفاف).
المعبد
يعتبر ظهور المعبد بمثابة أنتقالة وطفرة كبيرة في تطور الفكر الديني، حيث اصبح بمثابة مؤسسة تدير وتنظم وتوحد المعتقدات والأفكار الدينية بشقيها الفكري أو الاعتقادي، وذلك بتوجيه عقول الناس نحو فكر محدد الأطار واضح المعالم، وطقوسي أجرائي، متمثلاً بالشعائر والمراسيم المترجمة لذلك الفكر والمعتقد، بعد أن كانت مجرد أفكار غير محدودة تمارس بشكل عفوي وعشوائي وشخصي من قبل الناس كل حسب درجة تفكيره ومستواه الاقتصادي، مما ساعد على أنتشار تلك المعتقدات ونضوجها تدريجياً تبعاً لتطور الحياة وأفكار سكانها. ويمكننا أن نحدد فترة العصر الحجري المعدني حوالي 5000 ق.م بأنها كانت الفترة التي ظهرت فيها البدايات الأولى للمعابد. حيث كشفت التنقيبات الأثرية لهذا العصر وتحديداً في الدور المعروف بأسم (حلف)3 وفي موقع قرية (الأربجية) قرب الموصل عن أبنية دائرية كبيرة مشيدة في وسط القرية قطرها حوالي سبعة أمتار لها مدخل طويل بأسلوب يشبه بيوت (الأسكيمو) سُميت باسم (ثولوس). عثر داخلها على العديد من دمى المعبودات المختلفة الأشكال والتي كانت موضوعة بشكل مرتب ومنظم على دكاك من الطين والى جانبها بقايا عظام حيوانات وآثار رماد أمامها، مما يشير الى هذه الأبنية كانت مخصصة للتعبد ولتقديم القرابين والنذور لمعبودات معينة. أن الملفت للنظر في شكل هذه المعابد البدائية كانت تشبه الى حد بعيد القبور اليونانية في منطقة (مايسيني) والعائدة لنفس الفترة الزمنية. لقد أدى أنشاء المعبد الى ظهور الشخص القائم والمُنظم والمدير لهذه المؤسسة فظهرت وظيفة (السادن) أو (الكاهن) التي من المرجح أنه كان يتولاها كبير أو زعيم القرية الذي تولى سلطتين أدارية ودينية، وكانت هذه هي البدايات الأولى لارتباط الدين بالسلطة السياسية. وما يرجح هذه الفكرة أن الملوك والأمراء في الفترات اللاحقة ظلوا يحتفظون بمكانتهم الدينية أضافة لسلطتهم الحاكمة لكن بدرجات متفاوتة وأحياناً بشكل رمزي فقط...لقد شهدت الفترات اللاحقة نتيجة تبلور الفكر الديني تطور وانتشار ملحوظ في بناء وتشييد المعابد وتغير في تصاميم بنائها حتى أخذت شكلها العام الذي أستمر طيلة الفترات التاريخية اللاحقة. والذي تميز بأحتوائه على خلوة الأله ودكة القرابين والفناء الوسطي وموقع المدخل الرئيسي المواجه لخلوة الإله، وأيضاً أتجاه زوايا البناء الى الجهات الرئيسية الأربعة. وذلك منذ فترة دور (العُبيد) 4500 ق.م 4 مروراً بفترة عصر الوركاء 3500 ق.م والذي ظهرت فيه البدايات الأولى لتشييد الزقورات، متمثلةً بتشييد المعابد على دكاك عالية، من المرجح أن الغاية منها هو لدرء أخطار الفيضانات المنتشرة آنذاك في جنوب وادي الرافدين، ثم أضفيّ على شكلها وتصميمها نوع من الصبغة الدينية الفلسفية. لقد كان المعبد أضافة الى كونه مؤسسة دينية بالدرجة الأساس إلا أنه كان يحمل بذات الوقت طابع ثقافي وسياسي واقتصادي، كما كان له دور رئيسي في أدارة شؤون المدينة وتنظيم أقتصادياتها. وقد كانت فترة عصر الوركاء التي شهدت ثورة الاستيطان المدني عند منتصف الألف الرابع ق.م الطفرة الكبيرة في تطور المفاهيم الفكرية للإنسان توجت بابتكار أقدم وسيلة للتدوين التي تمت داخل غرف المعابد، لتكون انعطافه كبيرة في تاريخ الانسانية، كان الغرض منها تدوين وارداتها الاقتصادية. لقد ظهرت نتائج هذا الأبتكار واضحة في عصر فجر السلالات في مطلع الألف الثالث ق.م عندما أصبح التدوين يعبر عن افكار الناس الدينية والأدبية والعلمية، فكتبت الكثير من النصوص التي ألقت الضوء على تلك الأفكار. عندها تم تكوين فكرة مفصلة عن المعتقدات الدينية من خلال تلك النصوص التي أستمرت الى آخر عهود وادي الرافدين، خاصة بعد أن أصبح المعبد السند القوي والداعم للسلطة السياسية الحاكمة التي أصبحت تعتمد على المعتقدات الدينية في تثبيت سلطة الملك أو الأمير ونظامه الحاكم.
تأثير المعتقدات الدينية القديمة
أصبحت الأفكار الدينية بعد الألف الثالث ق.م أي بعد تكوين المجتمعات المدنية من أهم العوامل المؤثرة في سير حياة الشعوب القديمة وأسلوب تطور حضاراتها، وغدت تحدد الأطار العام لسلوك الأنسان والخلفية المؤثرة في حياته الأجتماعية والأقتصادية وتوجه عاداته وتقاليده وأعرافه وقوانينه التي شرّعها فيما بعد. وكان تغلغل هذا الأفكار في حياة الناس قد تجسدت بشكل واضح في الآثار الفنية والأدبية والعمرانية التي خلفوها، فكانت التصاميم لبيوت العامة والقصور فيها صبغة دينية من خلال مشابهتها لتصاميم المعابد والمزارات. كذلك كانت الملهمة أيضاً للنحاتين والفنانين لإبراز أبداعهم الفني عند تجميل واجهاتها الأبنية بمنحوتات ورسوم تمثل الآلهة وأساطيرها والطقوس الدينية المتعلقة بها. وفي الجانب الأدبي نجد المعتقدات الدينية كانت العمود الفقري في بناء النصوص الأدبية، سواءً في الفكرة والمضمون أم في العبرة النهائية لتلك النصوص. وما ينطبق في العمارة والأدب نجده أيضاً في باقي العلوم والفنون الأخرى، حيث تذكر النصوص الكتابية أنها كلها أتت بوحي من الآلهة ومشيئتها. لكن كان أهم تأثير للفكر الديني هو عند تداخله بالفكر السياسي وذلك حين تم توظّيفه لدعم المصالح السياسية التي أخذت بالتعاظمم لدى الطبقات المُترفة والمُسيطرة على مجريات حياة تلك المجتمعات، خاصة بعد النمو الأقتصادي الكبير للمدن وتقسيم المجتمع الى طبقات اجتماعية متفاوتة المستوى. ذلك بعد صورت المعتقدات الدينية أن الآلهة قد خلقت البشر ليقوموا بدلاً عنها بأعمار وزراعة الأرض وخدمة مصالحها فيها، فاختارت أحدهم (الملك أو الأمير) ليكون ممثلاً ونائباً عنها في أدارة شؤونها على الأرض، لذلك فقد أصبح له حق الهي بأعتباره معين من قبل الآلهة، وبالتالي فأن جميع الأوامر والتشريعات التي يصدرها تكون واجبة التنفيذ لأنها تمت بوحي من الآلهة. بينما نجد المعتقدات الدينية في وادي النيل قد صورت الفرعون على أنه أحد الآلهة وجبت عبادته وتقديسه من قبل عموم المجتمع.
المميزات و الصفات العامة للآلهة
أخذت المعتقدات الدينية بالنضوج والوضوح منذ مطلع الألف الثالث ق.م، كما أخذت مميزاتها بالثبات بالرغم من بعض الاختلافات والتباينات الجزئية البسيطة، لكنها ظلت محافظة في جوهرها طيلة الفترات اللاحقة. وقد بينت هذه المعتقدات أهم الصفات والميزات للآلهة المعبودة التي وردت في تلك الافكار الدينية والتي يمكن أجمالها..
التجسيد..... هو تجسيد القوى الطبيعية والأشياء المؤثرة في حياة الأنسان ومعيشته في هيئة آلهة، لكل من هذه القوى ألاهها الخاص والمؤثر والمسيطر عليها. كما كان لكل من هذه الآلهة صفات خاصة ومسؤوليات معينة في الكون، وكان لها رمز وشكل معين في المنحوتات والكتابات.
التعددية..... نتيجة تعدد تلك الظواهر تعددت بالمقابل الآلهة الممثلة لها، والتي أخذت بالازدياد بمرور الوقت حتى أصبح للانسان عدد هائل منها، حيث أصبح لأبسط الوسائل المستخدمة من قبل الأنسان في حياته الاهها الخاص بها مثل الفأس والمحراث وغيرها. وأتخذ كل إله من هذه الآلهة مدينة معينة لتكون مقراً له ومركزاً رئيسياً لعبادته وليكون الإله الحامي لها ولشعبها والراعي لمصالحها والمدافع القوي عنها.
التشبيه..... يُقصد به أن الآلهة شبيهة بالبشر في هيئتها العامة وحياتها وحواسها وعلاقتها الاجتماعية، لكنها تتميز عنه أضافة الى طاقتها الخارقة بصفة الخلود. وقد ظهرت الآلهة في المنحوتات وصور الأختام الأسطوانية بهيئة بشر يضعون على رؤوسهم التيجان المقرّنة. وهنا تتشابه الى حدٍ بعيد المعتقدات الدينية في وادي الرافدين وبلادي اليونان والرومان، حيث ظهرت الآلهة في منحوتاتهم وهي تعتمر أكاليل أو تيجان الزيتون. بينما تختلف في هذا الجانب عن وادي النيل حيث تظهر الآلهة بهيئة حيوانية أو هيئة بشرية حيوانية مُركبة، ولا يتقارب معها في هذا الأمر إلا شيء بسيط من معتقدات وادي السند. ويُعتقد أن السبب في ذلك هو التأثير الكبير للفكر (الطوطمي)5 على تلك المعتقدات والموروثة من فترة العصر الحجري الحديث. ومن الدلائل القوية على ذلك هو أسلوب الكتابة في وادي النيل والمُتمثلة بالخط (الهيروغليفي)، كان في معظمه عبارة عن صور ورموز حيوانية. بينما كان الفكر في وادي الرافدين أكثر رقياً وتطوراً مُعطياً أهمية أكثر ودور أكبر للإنسان ومجتمعه.
التفضيل..... بالرغم من وجود هذا العدد الكبير من الآلهة إلا أنهم لم يكونوا بنفس القوة أو الأهمية في حياة الناس الذين كانوا يفضلون إلهاً على آخر حسب أهمية وقوة ذلك الاله ومدى تأثيره على حياتهم، وكان هذا التفضيل يتباين من منطقة لأخرى ومن مدينة لثانية، حيث كان مركز المدينة السياسي هو الذي يحدد أهمية وقوة إلهها. فقد كان الاعتقاد هو أن الصراع بين المدن هو تمثيل لصراع بين آلهتها الحامية نفسها. وكان يذكر دوماً في النصوص التاريخية عند أنتصار مدينة على أخرى في الحرب أن ألهها غلب إله تلك المدينة وأخضعه لسلطته.
مجلس الآلهة..... صورت المعتقدات الدينية القديمة على أن الآلهة كانت تعيش في السماء في مجتمع تحكمه قوانين ونظم وضوابط، وبهيئة مجلس كبير يقف على رأسه زعيم الآلهة يساعده عدد كبير منها. وكان هذا المجلس هو الذي يحدد واجبات وسلوك ومصائر البشر. بالمقابل كان هناك آلهة مقرها العالم السفلي للسيطرة على الموتى من البشر والمعاقبين من الآلهة الأخرى يساعدهم في ذلك عدد كبير من الحراس (العفاريت). وهذا العالم له تسميات أخرى مثل (عالم الظلام) أو (عالم اللاعودة).
التوحيد
أن المقصود بالتوحيد هو جمع القوى الالهية المتمثلة بالقوى الطبيعية والحياتية بعد أن كانت موزعة على عدد كبير من الآلهة كل منها مختص بقوة معينة، في شخص اله واحد ذو قوة وبطش وسيطرة ليس لها حدود على كافة أرجاء الكون.
أن التمعن في صفات ومميزات الآلهة يجعلنا نجد أن فكرة التوحيد كانت نتيجة منطقية لتطور الفكر الديني خاصة بعد أن وظف الدين لدعم الأفكار والطموحات السياسية. حيث كما سبق أن لكل مدينة إله حامي مقدس من قبل سكانها، وأن صراع المدن فيما بينها والذي كان بالأساس حول مصادر المياه أو توسيع رقعة الأراضي الزراعية يتم تصويره على أنه في الحقيقة صراع بين آلهتها الحامية في السماء، يظهر جلياً بين الناس وعلى رأسهم ممثلي تلك الآلهة على الأرض أي الملوك والأمراء. وفي حال غلبة مدينة على أخرى فأن إله المدينة المنتصرة قد أقصى إله الثانية عن مكانته، وكسب قوته وطاقته الالهية وحل محله في ترتيب أهميته الألوهية... وهكذا فأن أية مدينة كانت تفرد سيطرتها على بقية المدن الأخرى يعني أن إلهها قد أنتصر على خصومه من الآلهة الأخرى وتزعم مجلسهم. ويبدوا هذا واضحاً في أسطورة الخليقة البابلية، التي كتبت خلال القرن الثامن أو السابع عشر ق.م أي بعد أن فرضت مدينة (بابل) سيطرتها على وادي الرافدين وضمت كل مدنه تحت نفوذها، فكتبت هذه الأسطورة لتعظم مدينة (بابل) من خلال تمجيد ألهها القومي (مردوخ) الذي اختير زعيماً لمجلس الآلهة بعد أن وهبته كل صفاتها وقوتها.... وقد صورت المنحوتات الاله (مردوخ) بشكل مخلوق مُركب غريب الشكل، له رأس تنين وقرون ثور ولسان ثعبان وحراشف سمكة وذنب عقرب والأقدام الأمامية لأسد والخلفية لنسر... التي هي رموز لآلهة أخرى أضيفت الى هيئه مردوخ دلالة على اكتساب قوى بقية الآلهة وتفرده بزعامة مجلسها. ولتأكيد هذه الفرضية فقد أعيد كتابة نفس الأسطورة السابقة بنفس تفاصيلها تقريباً بعد فترة من الزمن، ذلك عند انقلاب ميزان القوى السياسية في وادي الرافدين وظهور مدينة (آشور) كقوة عظمى في منطقة الشرق الأدنى القديم، فارضةً سيطرتها على معظم أرجاء تلك المنطقة، لكنها كتبت باسم الاله (آشور) هذه المرة، الذي تولى زعامة الآلهة وفرض أرادته عليها.
وبالرغم من فكرة السيطرة والزعامة الالهية إلا أن المعتقدات الدينية في وادي الرافدين لم تصل الى درجة التوحيد الكامل كما هو معروف لدينا، بل كانت فقط البداية والأساس، حيث أستمر الناس يأمنون ببقية الآلهة الأخرى ويحترمونها، كما ظلت لها قدسيتها ومكانتها الاعتبارية، وبقى الناس يقدمون القرابين لمعابدها ومزاراتها التي بقيت قائمة ومقدرة لم تمس بسوء، وأن تذبذبت أهميتها وتقلصت مكانتها ونفذوها من فترة لأخرى ومن منطقة لسواها حسب تقلب الأوضاع السياسية.... بناء على ما تقدم يمكننا القول أن فكرة الزعامة الالهية هي أساس فكرة التوحيد وكانت لغرض سياسي بحت الغاية منه اعطاء الأهمية السياسية والاقتصادية لمدينة أو منطقة معينة على حساب المدن والمناطق الأخرى من خلال رفع شأن الاهها القومي وتضخيم قوته. كما صورت سيطرة تلك المدينة على الأخريات بشكل طابع مقدس كونه حدث بوحي من الآلهة وارادة مجلسها في السماء.
أن الثورة الحقيقية في فكرة التوحيد ظهرت في وادي النيل، وتحديداً في زمن الفرعون (أمنوفس الرابع) الملقب ب(أخناتون)، ويعني هذا الاسم (المُخلص للإله آتون)، الذي حكم خلال القرن الرابع عشر ق.م... كان هذا الفرعون متأثراً بشكل كبير بثقافة وادي الرافدين من خلال علاقته المتينة ب(الكشيين)6 الذين حكموا هذه البلاد في هذه الفترة التي شهدت تقارباً كبيراً بين هاتين الحضارتين. أن ما أقدم عليه هذا الفرعون هو نفس أسلوب مدينة (بابل)، لكنه تجاوزها لدرجة الالغاء التام لبقية الآلهة المصرية، ليجعل من الاله (آتون) أو (قرص الشمس) وهو الاله الحامي لمدينة (طيبة) التي أتخذها عاصمة له إلهاً أوحد منفرد له جميع القوى والطاقات الخارقة التي تتحكم بمصير الكون، كما وقام بهدم جميع معابد الآلهة الأخرى والتنكيل بكهنتها وتحريم عبادتها. بالتالي فقد الغى الدور السياسي لتلك المدن وجعله مقتصراً بعاصمته (طيبة) لغرض تثبيت موقعها السياسي في وادي النيل والعالم القديم... لقد كان من الطبيعي أن لا يكتب النجاح لفكرة التوحيد التي طرحها (أمنوفس الرابع) والتي كانت بمثابة ثورة في الفكر الديني القديم، أو الاستمرار بها لفترة طويلة بسبب المعارضة الشديدة التي جابهتها من قبل حكام وأمراء المدن الأخرى وكهنة معابدها بعد أن ضربت مصالحهم الاقتصادية من خلال تهميش دور مدنهم سياسياً، حيث تمكنوا فيما بعد من القضاء عليها وقتل صاحبها. لكن بالرغم من القضاء على هذه الثورة الدينية إلا أنها تركت تأثيراً كبيراً وواسعاً لدى الطبقات المسحوقة والمضطهدة من الشعب، وبضمنهم (الساميين) الذين كانوا قد استوطنوا وادي النيل منذ القرن الثامن عشر ق.م أيام حكم أجدادهم (الهكسوس)7، وكان هؤلاء قد لاقوا الكثير من الظلم والاضطهاد بعد القضاء على حكم أسلافهم، وغدوا يعيشون بحالة من الفقر والعَوز عند سفوح الجبال والصحاري وأطراف المدن. ليتبنوا فيما بعد فكرة ومفهوم تلك الثورة الدينية بما يعبر ومظلوميتهم ومعاناتهم، فقاموا بأعادة صياغة فكرتها بأسلوب فلسفي جديد أكثر تقبلاً من قبل عموم الناس، مع أضافة الكثير من الآداب والأعراف الاجتماعية والتقاليد الدينية والأساطير من المناطق الأخرى وخاصة وادي الرافدين، وبشكل ورؤية مختلفة تتلاءم وفكرهم الديني الجديد.
وهكذا كانت البداية في الديانات اللاحقة بنوعيها (السماوي) و(الأرضي) ملاذاً للمُعدمين البسطاء والمقهورين والمظلومين، الذين اعتنقوا أفكارها آملين منها أن تمنحهم شيئاً من المساواة الاجتماعية المفقودة في مجتمعاتهم، وأن يستعيدوا من خلالها انسانيتهم وكرامتهم المسلوبة.... وكما قال (كارل ماركس)..... (الدين زفرة المخلوقات المعذبة).
الهوامش
1_ يُعتقد أن الأنسان قد ظهر قبل حوالي أربعة ملايين سنة ، و هي الفترة التي حدثت فيها طفرته الوراثية التي حددت هيئته العامة الجديدة التي ميزته عن سائر المملكة الحيوانية.
2_ سلسلة التطور البشري ... (1)الأنسان البدائي/هومونيد، عاش قبل 4 مليون سنة حتى 1,750 مليون سنة (2)الأنسان القادر أو المتمكن/هوموهابيلس، عاش قبل 1,750 مليون سنة حتى 150 ألف سنة (3) الأنسان القرد المنتصب القامة/هوموأيركتوس، عاش قبل 150 ألف سنة وحتى 120 ألف سنة (4) أنسان النيادرتال، عاش قبل 120 ألف سنة حتى 25 ألف سنة (5)الأنسان الحديث أو العاقل/هوموسيبينس، عاش منذ 25 ألف سنة وحتى الآن.
3_ دور (حلف) ... نسبة الى تل (حلف) الأثري الذي يقع على نهر الخابور عند الحدود السورية التركية.
4_ دور (العُبيد) ... نسبة الى تل (العُبيد) الأثري الذي يقع الى الشمال من مدينة (أور) الأثرية.
5_ الطوطمية ... رابطة روحية قوية بين أنسان أو جماعة مع كائن حي قد يكون حيوان أو طائر أو نبات، ليكون رمزاً ومُلهماً لهم.
6_ الكشّيون ... من الأقوام التي استوطنت جبال زاكروس، سموا بهذا الاسم نسبة الى ألاههم القومي (كشو). تمكنوا من السيطرة على وادي الرافدين بعد سقوط مدينة (بابل) على يد (الحثيين) عام 1595ق.م ولمدة قاربت الأربعة قرون. أبرز مدنهم العاصمة (دوركوريكالزو) المعروفة باسم (عقرقوف) التي تقع الى الغرب من بغداد.
7_ الهكسوس ... ويعني الاسم (أصحاب الخيل). وهم من الأقوام السامية التي استوطنت بلاد الشام. تكمنوا في عام 1788 ق.م من احتلال وادي النيل وأسقاط السلالة الثانية عشر في عهد المملكة الوسطى. ليؤسسوا خمسة سلالات حاكمة، من السلالة الثالثة عشر وحتى السابعة عشر. أستمرت سيطرتهم لمدة اكثر من قرنين، حتى تمكن الفرعون المصري (أحمُس) أو (أحموسة) عام 1573 ق.م من القضاء على حكمهم ويؤسس السلالة الثامنة عشر التي كانت بداية المملكة الحديثة في وادي النيل.
978 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع