بقلم/ حامد خيري الحيدر
مع خروج المُتعبدين من باب صومعة المعبد، تتبعت عيناه خطوات اقدامهم.. بعضها متسارعة ما صدّق اصحابها انهاء موعظة الكاهن ليتركوا مسرعين المكان وما لفه من اكتئاب وضيق، بعد أن قضوا ساعتين من هراء فارغ يصدّع الرؤوس ولا ينطلي سوى على الحمقى والموهمين...
ومعها تهادت خطوات أخر سار أصحابها مترنحين مُنتشين بمتعة خدرهم، لاتزال مخيلتهم سكرى بتلك الموعظة وما تضمنته من وعود قطعتها لهم الآلهة، نقلتها اليهم أفواه من برع بلغة الرياء والدجل، للهائمين بحبها، المودعين مصائرهم لتقلبات أمزجتها، من حياة رغيدة ستهّبها لهم، وخير عميم وسعادة وهناء سيطالهم فيما لو اطاعوا أوامرها وساروا وفق إرادتها، وملأوا اجوافها بما غلى وندر من القرابين.... لتتقاطع خطوات من كانوا محشورين داخل ذلك القمقم مع أخريات تتبعتها عيناه كذلك، كان ملؤها الحيوية، ولا يضاهيها سوى نشاط كلاب الصيد حين تعدو لاهثة وراء طريدتها وقد مدت السنتها طويلاً.. رجال من مختلف الاشكال.. قصار، طوال، ممتلئين كأكياس التبن، نحيلين كأعواد القصب.. وبشتى الأعمار.. شباب، كهول، بل وحتى شيوخ بلحى بيضاء.. امتلأت صدورهم نشوة بما هم قاصدين اليه، ليدخلوا بسرعة باباً لبناء آخر الى الجانب الاخر من مجلسه، طليّ بلون أحمر، زيّن جانبيه برسوم محّورة تمثل رموزاً للجنس وممارساته، مشيراً لوظيفته وهويته ماخوراً لتجارة البغاء، أصطف عنده عدد من الفتيات بملابس فاضحة، والى جوارهن عدد مماثل من المُخنثين يمازحهن وينافسهن في رزقهن المنتظر، وضعوا على وجوههم واجسادهم وشعورهم علامات خاصة تشير لهويتهم.... كانت الحركة عند هذا الباب كحال باب المعبد لا تكاد تتوقف أو تنقطع بين دخول وخروج، نساء ورجال، كلٌ يبغي أطفاء حرارة رغباته، جموع داخلة لاتزال بحيويتها وأخرى خارجة تترنح استنزفت كل ما لديها من طاقة ومال، أحمرت وجوهها من تأثير تعب افراغ الغرائز واحتساء النبيذ.
هكذا هو منذ أن عرفته المدينة قبل دهر غير محسوبة أيامه، بجسمه النحيل وملابسه الباهتة الرثّة التي لم يعرف لها شكل أو لون، وشعره الاشيب الأشعث، لم يتغير أو يغيّر مكانه هذا، حين أتخذ من جذع نخيلة محروق مليء بالشقوق غدا مستعمرة آمنة لحشرة الأرضة مستقراً لجلسته، واضعاً معبد التوبة حيث خَدر أوهام الآلهة الى يمينه وماخور الملذات حيث تُقبر الشهوات الى يساره.. لم تأتي أي من أعضاء جسده بحركة توحي بالحياة، فقط عيناه الغامضتان اللتان لم يغمض جفنيهما قط كانتا من تتحركان بلا توقف، تتنقلان بهاذين الاتجاهين دون آخر.. ما تفوه يوماً بكلمة أو أتى بحركة تشعر من ينظر اليه أنه على قيد الحياة، كما لم يأبه بحشرة الأرضة وهي تسري على لحيته البيضاء الطويلة التي تصل خصره، ولم يره أحد يتناول طعاماً أو يتجرع شربة ماء أو حتى يختلي بأحد الزوايا كي يقضي حاجته، ولم يعر اهتماماً لقيّض الصيف وشمسه اللاهبة أو قرّ الشتاء وزمهريره وأمطاره.. ولولا حركة عينيه لكان أقرب أن يكون تمثالاً منه الى بني الأنسان.. لا أحد يعرف من اين جاء أو أين يقضي ليلته حتى صياح الديك وبيان أولى خيوط الغبش، حين يظهر فجأة جالساً في مكانه الأثير هذا كأنه بُعث من عوالم الخيال.... حاول بعض الفضوليين مشاكسته عن طريق اضحاكه واستثارة غرائزه وحتى ضربه لكن دون جدوى... أذا الصخر يتحرك كان هو كذلك... كما أراد آخرون الجلوس بجانبه طوال الليل ليتتبعوه حيث يذهب ليقضي ليلته، لكن حتى هذه المحاولة فشلت فشل الطوفان في القضاء على بني البشر.. أذ كان من العناد أقوى ومن الثبات أشد، حيث ظل جالساً طوال الليل متحدياً غايتهم، مصيباً باليأس كل من حاول معرفة شيئاً عنه، ليغدوا لغزاً وسراً استعصى على الجميع فك طلاسمه، فلا هو بخيال يوحى ولا هو بحقيقة تُلمس.. حتى أصبح مع جريان نهر الزمن أحد شواهد المدينة وعلاماتها المألوفة، وليتخذ الناس من مكان جلسته مثابة للتلاقي ودلالة لتحديد الاتجاهات وتثبيت العناوين.. ومع تتابع الحكايات والأساطير صوّرته العقليات البلهاء بأنه رقيب ارسلته الآلهة لرصد حركتهم وواقع حياتهم ونمط معيشتهم، وفيما أذا كان يسيرون وفق رغبتها، فأخذوا يطلقون عليه أسم (عين الآلهة).
البغايا جعّلن منه مصدر خير وبركة وتميمة رزق، حيث ازدهرت بسبب جلسته هذه تجارتهن وتضاعف زبائنهن.. فأصبحن يتبركن به ويمسحن اياديهن ووجوههن بلحيته كل صباح، يلتمسّن منه ديمومة الحال وزيادة الرفاه... حتى أسمّين ماخورهن باسمه (ماخور عين الآلهة)، بعد أن غدا رمزاً للخصب وراعياً ومحفزاً للرجال والنساء على حدٍ سواء لتعاطي الجنس، لينسوا مع أطفاء نار رغباتهم قسوة مظلوميتهم وما رمت الدنيا عليهم من هموم ومتاعب.... والكهنة بذات الوقت أتخذوا منه مُلهماً للأيمان والورع ومخافة الآلهة ليسموا معبدهم باسمه كذلك (معبد عين الآلهة)، فأصبح الكهنة لا يبدؤون طقوسهم عند الفجر ألا بعد ان يدوروا حوله سبعة مرات، يبخرون مجلسه ويرشّون على رأسه العطر المقدس.. كيف لا وهو الذي مع وجوده ازداد عدد المتعبدين وزادت قرابينهم وعطاياهم، لتنتفخ بفضله كروشهم وجيوبهم.. ليغدوا بالنسبة لهم كالآلهة الذي لا يستقيم حال البلاد والعباد إلا برضاها وحلول بركتها.. ليصبح بحق قباناً وميزاناً لحركة مصائر اهل المدينة ومزاراً يتبرك به كل من يمر بمجلسه ذهاباً واياباً، ومقصداً لكل ذي طالب حاجة وصاحب محنة وسؤال.... فالتاجر الذي يبغي زيادة ارباحه أو تعويض خسائره أو بيع بضاعة فاسدة في حانوته يذهب اليه واضاعاً الى جانبه جرة مليئة ببول شاة عوراء طالباً منه تسهيل الأمر، فهو من لديه مفاتيح الحلال والحرام.. ومن أغشته الدنيا فامتدت يده الى أرزاق الآخرين كان يكوي جسده بالنار أمامه كي يتقبل توبته.. ومن كان منافقاً يتوق للتقرب من القصر وحاشيته كان يدعك كتفه بكتفه، عسى أن ينال بركته ويُمهّد له طريق الوصول لمأربه.. ومن كانت عاقراً حرمتها نقمة الحياة من معنى الأمومة تقصده، كي تذبح عند مجلسه ديكاً برياً كبيراً بريش أسود ورقبة مسلوخة، مسيلة دمه عند قدميه الحافيتين علّ عقدتها تُفك وتلحق بركب النسوة الحُبالى.. ومن سَلب تتابع السنين شبابها دون ان تدخل بيت الزوجية، كانت تضع على كتفه حمامة بيضاء مقصوصة الذيل كي يعينها لتحظى بزوج يشاركها نكد الحياة.. ومن ارتكبت خطيئة وعاشرت رجلاً غير زوجها، تعلق برقبته طوقاً يانعاً مزهراً ثم تبوح بسرها في أذنه كي تُغتفر خطيئتها، فكل بني البشر خطاؤون، ولم يمتلك العصمة سوى الآلهة وحدها... ليكون بحق بئر الأسرار الذي حوى كل ما أعترت قلوب أهل المدينة وما خزنت من آثام وآلام وغايات ونوايا.
ما أن بدأت الحياة تدب في المدينة مع اولى خيوط الفجر لأحد أيام الخريف الغائمة، حتى علت همهمات عالية بين الناس.. حدث فاجأ الجميع ولم يكن أحد يحتسب وقوعه أو حدوثه... أختفى (عين الآلهة).. تجمع الكهنة والكاهنات والبغايا والقوادون، ومن كان قاصداً المعبد والماخور أو ساعٍ لمآرب أخرى عند جذع النخيلة المحروق، لا يقوون على الكلام بعد ان عقدت المفاجأة السنتهم.. كان المكان خالٍ من ذاك الذي ملئ الدنيا وشغل فكر الناس أيام وأيام.. وحدها حشرة الأرضة كانت تدب بهدوء على الجذع كما كانت واعتادت أن تحيا بين شقوقه بأمان، بعد ان اتخذت منه موطناً مريحاً ومن جليسه جاراً وحارساً ورفيق حياة... أخيراً انتهت الاسطورة.. جالب الخير ومانح البركة وكاتم أسرار الظالمين والمظلومين لم يعد موجوداً.. حالة من الذهول والحيرة أصابت سكان المدينة أفقدتهم الصواب ليشغلهم هاجس مستقبلهم عن أي شيء.. فهل سيكون القحط وسوء الطالع هو صورة حياتهم القادمة بعد أن غاب من كان له الفضل في رخاء دنياهم ويسر حياتهم؟ وهل سيخّتل مع ذلك الغياب توازنهم وتحديد مساراتهم، بعد ان اختفت علامة دلالتهم فيفقدوا معها التمييز بين اليسار واليمين؟ (حلّت اللعنة علينا وحق الآلهة.. لابد أن كارثة في الطريق الينا).. صاحت أحدى البغايا وهي تندب، بعد أن أنساها الحدث حتى من ارتداء ثيابها مكتفية بغطاء رأسها.. ليجيبها كاهن لف لحيته الطويلة حول رقبته، ضارباً رأسه بكلتا يديه (لم يعد هناك من قرابين.. ستجوع الآلهة وسنجوع معها.. ويل لنا من هذه المصيبة).. ليواسيه أحد القوادين، محاولاً تخفيف الصدمة عليه (مصابنا سواء معكم.. ماذا سنفعل بعد أن غاب مُلهم الخصب، الآلهة وحدها تعلم بأي حال ستكون فحولة الرجال وأنوثة الفتيات.. كانت الآلهة في عونكم وعوننا).. علا اللغط بين جمع المتجمهرين، كل يدلو بدلوه محاولاً اعطاء تفسيراً مقنعاً لهذا الغياب الذي لم يكن على البال... هل كان (عين الآلهة) رقيباً أرسلته الآلهة حقاً أدى مهمة ثم رحل؟ أم أنه لم يكن سوى مجرد رجل أبله خُدع الجميع به وتوهموا بحقيقته طيلة السينين الماضية ليأتي أجله ويلاقي مصير الموت أسوة ببني البشر؟ حمت النقاشات وزادت حدّتها وتبادلت الأفكار وتداخلت وتعارضت.. لكن رغم اختلاف الآراء وتناقضاتها ألا أنها طرحت خوف وقلق الجميع من كهنة وسدنة وقوادين وبغايا على مصير معبدهم وماخورهم، وما سيصيبهما من افلاس بعد غياب سبب رخائهم وازدهار نعمتهم، حتى وأن صدق ما قيل وما تم تداوله بشأن بأنه لم يكن سوى اكذوبة انطلت عليهم دهراً.... فالنتيجة واحدة مؤكدة.. كساد مؤكد وخراب واضحة معالمه سوف يصيب الجانبين على حدٍ سواء، بسبب توقف الرواد الذين كانوا يتسربون للمعبد والماخور من أجل دلالة (عين الآلهة) ورمزية جلسته..... في خضّم ذلك الجو المشحون المتلبد بالقلق، وقف الى الخلف من الجميع كاهن حديث العهد في خدمة المعبد، تجويف عقله تبقى فيه مكان صغير لم يصل اليه شيء من غسيل فتاوي الكهنة ودجلهم، كان في نقاش هادئ مع بغي صغيرة لا تزال في أولى خطوات مهنتها اعتبرتها المتمرسات من البغايا مجرد عذراء في طور التمرن... ما أن اتمّا نقاشهما حتى أعلنا نتيجته للمَلأ.... رؤية وردت لهما سوية وبذات الوقت من الليلة الماضية، حيث الكاهن اليافع يبّخر المعبد والبغي المراهقة بين أحضان رزق دسم.... شاهد الكاهن في رؤياه أن الآلهة اجتمعت وقررت مكافأة كل من عمل وتعب وبذل جهداً في خدمة المعبد، من كهنة وكاهنات وخدم، فأوعزت ل(عين الآلهة) أن يضعهم في سلة كبيرة وينقلهم الى الماخور كي يعملوا قوادين وبغايا وخدماً لطالبي اللذات، تقديراً لكل ما بذلوه في خدمتها، من تقوى تعبدهم في حني الظهور وفردها، وشدة ورعهم وصبرهم وخضوعهم لأرادتها.. وكثرة ماجنوه من المتعبدين المخدوعين من قرابين أتخمت بطون الآلهة... لتجعلهم كما تمنت عيونهم دوماً حيث رزق البغاء تحت سقف الماخور... ونفس الرؤيا ما شاهدته البغي.. أذ قدرّت الآلهة عند اجتماعها كفاح البغايا ونضال القوادين ومعاناة خدم الماخور على مَرّ الزمن، وصمودهم بدرب شقائهم الصعب في أطفاء جمر شهوات رجال ونساء المدينة دون حيادهم عن رسالتهم، رغم حسراتهم وآهاتهم عند رؤية كروش الكهنة المنتفخة وجيوبهم المليئة بالفضة، وسلاسل الذهب التي تطوق رقاب الكاهنات.. فقررت مكافأتهم فأمرت (عين الآلهة) أن يضعهم في شبكة صيد واسعة وينقلهم الى المعبد لينالوا شرف خدمتها هناك تحت صومعته... زفرات قوية خرجت من صدور المتجمعين، من هذا الجانب وذاك ترافقها أسارير وابتسامات ارتسمت على وجوههم، رغم أمتعاض زائف هنا وانزعاج كاذب هناك صدر من البعض في كِلا الفريقين... أخيراً بان خيطا الحقيقة أسودها من أبيضها وصدرت فتوى الآلهة التي أزالت الحيرة عن الجميع، وليعرف أخيراً سبب اختفاء (عين الآلهة) أذ أمرته الآلهة أن ينفذ أرادتها التي لا تقبل الجدل أو النقاش، لتنصف الجميع عن ماضي أيامهم وتعطي كل ذي حقه حقه، معيدة بذلك التوازن بين الجانبين في توزيع الأرزاق والمهام ولعب أدوار الحياة.... لينتهي كما بدأ الأشّكال ويموت التساؤل حينما تسود عدالة الآلهة وحكمتها التي لا يعرف الانسان مدى عمقها وغورها.... تبادل الفريقان التهاني بعد أن اتفقوا على تبادل الدوار والمهام لأجل غير محدد، وحتى تقرر الآلهة أمراً آخر كان مقضيا.
مع صبيحة اليوم التالي تبدلت الوجوه في كِلا الجانبين.. بغايا الأمس بمعية قواديهم ارتدوا ثياب الكهنة وشمّروا عن سواعدهم منذ الفجر لأداء واجبات خدمة المعبد.. ذكاء البغايا ودهائهن كان واضحاً وجلياً في ذلك لجلب المزيد من المتعبدين.. أخذنّ يبخرن المعبد ببخور ذو عبق خاص كان يتبخر به رواد الماخور بعد نفاذ شهواتهم.. ويعطرّن صوامع الصلوات بعطرٍ ذو أريج أخاّذ مثير للغرائز، كان يستعمل قبل يوم في تعطير غرف البغاء... ثم بسرعة أخذت كاهنات اليوم وبغيا الامس يعزفن على القيثارات الحان الايمان والورع، ترافقها تراتيل خاشعة تصدح بصوت رخيم جميل تقطر محبة بالآلهة وتقوى طاعتها.... في الجانب الآخر أبدل كبار الكهنة ثيابهم بأخرى مزركشة، بعد أن أصبحوا قوادين يقفون عند باب الماخور كالشحاذين، يمدون أكفهم المصبوغة بحناء المعبد ليقبضوا شيقلات الفضة من زبائن الجنس وطالبي اللذة ثم يمسحونها بلحاهم بعد كل شيقل فضة يدخل جيبهم.. وفي الداخل توزعت كاهنات الأمس بين غرف البغاء متجردات من ثيابهن، بعد أن وضعن سعفتين على جانبي باب كل منها، وعلّقن على جدرانها أغصان الزيتون وفي أركناها وضعّن حزم السنابل، وصبّغن وجوههن بالوان الأغراء الصارخة وتعطرّن بعطر المعبد الذي باركته الآلهة، ليُشعر الناس بطيب عالمها وقدسية دربها، فيعيشون مع بركة الآلهة حياة البغاء بكل تفاصيلها بما حوته من متعة واسترخاء.... اما صغار الكهنة فكان لهم مكاناً أيضاً، فاليافعين وذوي الوجوه الحسنة منهم غدوا مخنثين اصطفوا الى جوار رفيقاتهم من كاهنات الامس.. ومن كان دون ذلك فقد أنيطت بهم مهمة تنظيف غرف الجنس وتحضير مستلزماته وايصال الزبائن لمن يختاروه من البغايا والمُخنثين... ومن جديد اخذت القرابين وشيقلات الفضة والذهب تهّل كما كانت لتملئ خزائن المعبد والماخور على حدٍ سواء، وجيوب من يعمل فيهما، بل تضاعفت وزادت.. فرواد المعبد ومن كان يقصد التعبد فيه ظلت ارواحهم مشدودة بكاهنات الامس وما كنّ يعضّن به من حِكم الالهة، لتسوقهم اقدامهم نحو الماخور ورفيقات الأمس حيث يتعاطون بغاءً بنكهة التعبد... وزبائن الماخور وفق نفس الحال شدهم الشوق لمن كنّ يطفأن لذاتهم لتنساق أقدامهم ورائهن نحو المعبد حيث مراح عملهن الجديد، ليكون تعبدهم بطعم البغاء.
ترسخ واقع الحال الجديد والكل راضٍ بما قدرت له الآلهة، فهي التي تقرر المصائر وترسم مسيرة حياة البشر وليس هناك من راد لإرادتها.... فهي ترفع من تريد وتذل من تريد وتوزع الاعمال ومهام الحياة كيفما ترتأي وتشاء وتريد، فهي تجعل من العذراء بغياً ومن اللعوب كاهنة، وهي كذلك من تصطفي الملك من بين الناس كي يخدم مصالحها، حتى وأن كان قواداً أو لصاً أو قاتلاً ولا يجوز لأحد الرفض والمعارضة، وهي من تجعل البائس مطأطأ الرأس على الدوام لا يملك النظر للأعلى وألا كُسرت رقبته، وهي من تفرض على الكتبة والشعراء ومن امتلكوا ناصية العلم وأدركوا معالم الحقيقة أن يتضورا جوعاً ويسكنوا الخرائب يعانون الأمرّين في دنياهم، وما على البشر في كل ذلك سوى الطاعة والامتثال راضين قنوعين.. فالقناعة أغلى الكنوز وأثمنها.. وفي كل الأحوال طالما جيوب المنتفعين ممتلئة، وجرايات القرابين تسير دون توقف الى بطون الآلهة المفجوعة، والمتعبدين السُكارى بهيام الآلهة قد زهدوا بالحياة الدنيا ومباهجها ولم يعودوا ينظرون لأبعد من أنوفهم، والخطوات المسعورة اللاهثة بالسعي وراء الجنس لازالت على حالها دون توقف، فكل شيء على ما يرام.
شتاء بعد شتاء أعقبها أشتية، نُسيَ (عين الآلهة) وأصبح جزءً من الماضي، فكما اعتادت المدينة وجوده فقد تعايشت مع غيابه، بعد أن اقتنع كل من فيها أنه لم يكن سوى مبعوثاً من قبل الآلهة، راقب الحال ردحاً من الزمن ثم حمل فتواها وحكمها الذي سرى على الجميع..... لكن المفاجأة تكررت مع أحدى صباحات الربيع، حين ظهر مرة أخرى بصمته المُطبق وهيئته الغريبة وجموده الذي ينافس جمود التماثيل، وبجلسته المعتادة على جذع النخيلة المحروق المليء بحشرة الأرضة... فقط عيناه كانتا من تتحركان كما تعودتا من دون توقف ذات اليمين وذات اليسار... (لابد أنها فتوى جديدة من قبل الآلهة جاء ليبلغها).. قالها الجميع على الفور بعد أن فهموا سر الغياب ولعبة الظهور.... أذن لابد أن يعود حال المعبد والماخور الى ما كان عليه، فالرسالة واضحة وأمر الالهة واجب التنفيذ.. وهكذا كان... ليغيب (عين الآلهة) بعد تنفيذ الارادة الإلهية.... ثم ليظهر مرة أخرى بعد حين من الزمن، ثم ليغيب ويظهر مرات ومرات أخر... ومع تكرار الغياب والظهور نظّمت المدينة طبيعة معيشتها ونسق حياتها، فكانت الوجوه تتغير والأدوار تتبدل، لكن المعبد ظل على حاله معبداً والماخور حافظ على هويته كما كان قد عُرف، وما بينهما ليس سوى جذع نخيلة محروق اتخذت حشرة الأرضة منه موطناً أثيراً لها..... ورغم أن السر قد جُليّ وبانت حقيقته وفق ما فسّرته المصالح والأهواء وطمع الجيوب، ألا أن أهل المدينة ظلت دواخلهم تتساءل دون جرأة على البوح بما يعتمر صدورهم.. هل كان (عين الآلهة) حقاً رقيب الآلهة ومبعوثها؟ أم أنه لم يكن سوى أنسان فاقد العقل مسلوب الارادة مشدوها بحركة البشر، يعيش وفق غرائزه التي تكرمت الطبيعة بها عليه؟ لتُساق العقول البليدة سوق البهائم وفق ازدواجية غيابه وظهوره، وحركة عينيه الغامضتين وهما تنتقلان دون توقف نحو اليمين ونحو اليسار، حيث تقوى البغاء ودعارة التعبد.
4752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع