حامد خيري الحيدر
في أواخر العصر الحجري المعدني أي في مطلع الألف الرابع ق.م، ومع بداية تأسيس المدن في جنوب وادي الرافدين الذي مهّد لثورة الاستيطان المدني، ظهر بشكل واضح هناك مبدأ التخصص في العمل الذي فرضه الواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد على المجتمع الرافديني، المُشيّد على أنقاض النظام القروي السابق المعروف بعشوائيته ومحدودية تنظيماته وتطلعاته، ليكون هذا المبدأ بمثابة الميزة والعنصر الأساسي في بُنيان الكيان المدني الناشئ، من خلال توزيع مهام ومسؤوليات تطوير صرحه الضخم على أبنائه، عبر تنوع الحرف والوظائف التي امتهنوها والتي خلقت التفاعل اللازم والتعاون المشترك المطلوب بين مختلف شرائح المجتمع، للنهوض بمستوى حياتهم وتطوير واقعها بما يتوافق مع طبيعة متطلباتها وتوفير احتياجاتها، لتكون تلك المشاركة المتبادلة هي عنوان الحياة الجديدة.
ومع ظهور الكتابة في أواسط الالف الرابع ق.م ثم انتشارها خلال الالف الثالث ق.م، أوردت النصوص المسمارية من سومرية وأكدية أسماء العديد من المهن والحرف التي اختص بها أبناء الرافدين واتخذوها وسيلة لمردودهم الاقتصادي مع بداية تأسيس مجتمعاتهم المدنية، بعضها لايزال متداولاً في لغتنا العربية.... ومن تلك الأسماء... (نكًار) نجار، (دمكًار) تاجر، (بخار) فخّار أي صانع الاواني الفخارية، (أشكاب) اسكافي أو صانع الاحذية، (أنكًار) فلاح، (ملاح) الملاح أو السفّان، (أشبار) الحائك أو النساج، (جلاد) صانع الجلود، (سمكً) حداد أو نحّاس.. وغيرها من المهن الأخرى.
وكان يُعتقد حتى الماضي القريب أن هذه المسميات تعود الى لغة قوم مجهولين سبقوا باقي الاقوام الاخرى في الاستيطان في جنوب وادي الرافدين، تم تسميتهم افتراضاً (الفراتيون الأوائل)، اختفى ذكرهم بعد أن اندمجوا تدريجياً ثم أنصهروا مع المهاجرين الجدد الى منطقة سهل الرافدين الجنوبي من سومريين واكديين وأقوام أخرى، مما أدى فيما بعد الى اندثار لغتهم ولم يتبق منها سوى بعض الكلمات التي ظلت متداولة بعد سيادة اللغتين السومرية والأكدية خلال الالف الثالث ق.م.. لكن البحوث والدراسات المسمارية واللغوية الحديثة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك خطأ تلك الفرضية وأن تلك الأسماء هي سومرية بحتة، مما يضع دليلاً مضافاً على عراقة وأصالة شعب سومر، وحقيقة ولادته وانبعاثه من أرض وادي الرافدين التي شيد فيها أولى صروح الحضارة العالمية..... ويمكن حصر تلك المهن والحرف وتنوعها في المجالات التالية.
الزراعة
كانت الزراعة من أولى وأهم المهن التي ظهرت في وادي الرافدين، وكانت تعتبر العامود الفقري لاقتصاد سكانه خلال جميع الحقب التاريخية التي تعاقبت على هذه الارض.. في بدايتها الأولى كانت للاكتفاء الذاتي المحدود، لكن بعد انتقال الاستيطان الى جنوب السهل الرسوبي وتغير اساليب الزراعة من ديمية مطرية الى تلك المعتمدة على الري الصناعي من الانهار والسواقي المائية، وما أحدثه ذلك من وفرة وفائض في المنتوج الزراعي تحولت معه الى الجانب التجاري التسويقي.
وامتهنت الزراعة في العراق القديم بعدة أشكال منها.. أن يمتلك الفلاح قطعة أرض خاصة به او مشاركة مع مجموعة أشخاص قد يكونون أخوة أو أقارب، يقومون بزراعتها مع عوائلهم، ليقسم محصولها في نهاية كل موسم وفق نسب محددة مثبتة بعقد مبرم بينهم.. أو أن يتم استئجار الأرض بشكل منفرد أو بالاشتراك مع مجموعة أشخاص، من مؤسسة المعبد أو سلطة المدينة أو من شخص آخر لمدة موسم واحد أو عدة مواسم... وكل ذلك يجب أن يدون وفق عقد مكتوب موثق ومشهود عليه.. وما ينطبق على الاراضي ينطبق كذلك على حالة البساتين المثمرة.. ألا ان الغالبية العظمى من الممتهنين للزراعة كانوا يعملون كأجّراء لدى أشخاص آخرين، أو لدى مؤسسة المعبد والسلطة الحاكمة وفق أجر معلوم.. ومن المعطيات المتأتية يتبين أن حياة الفلاحين بشكل عام مقارنة بالمهن الاخرى كانت بائسة للغاية، ومستواهم الاقتصادي متدني خاصة أولئك العاملين لدى الملاكين الكبار حيث يعاملون معاملة العبيد بالحط من انسانيتهم وكرامتهم، وبأسلوب لا يختلف كثيراً عن نظام الاقطاع الذي ساد في جنوب العراق أبان حقبته الملكية (1921_1958)، حيث كان مدخولهم لا يتعدى بضعة جرايات لكميات محددة من الحبوب تمنح لهم خلال فترات محددة من العام، وكانوا هؤلاء يسمون في السومرية (كًوروش) كما لقبوا فيها أيضاً ب(كًيأينودو) أي الاشخاص الأذلاء الذين لا يتمكنون من رفع رؤوسهم الى الأعلى، حيث وصل الحال الى أنهم كانوا يباعون من قبل الملاكين مع الاراضي التي يعملون فيها رغم أنهم من الناحية القانونية كانوا ينتمون الى طبقة الأحرار. وقد ادت حالة البؤس والفقر التي ابتليت بها شريحة الفلاحين الى حدوث تباين ثقافي واضح بينهم وبين سكان الحواضر والمدن.... وكان من نتاج ذلك الظلم القهر الذي مورس ضد الطبقة الفلاحية وعموم البائسين أن اندلعت أول ثورة جماهيرية في تاريخ الشعوب، وهي ثورة مدينة (لكًش) السومرية عام 2400 ق.م التي قادها المصلح الثائر (أوروأنمكًينا)، والتي كان من شأنها فيما بعد ليس فقط استرداد الحقوق السليبة للطبقات المسحوقة من مجتمع المدينة، وانما دقت المسمار الأول في نعش النظام الاقطاعي في وادي الرافدين المتمثل بسلطة المعبد وقيام النظام المدني الملكي الاستبدادي على بقاياه.
قام الفلاح العراقي القديم بزراعة العديد من المنتوجات الزراعية، منها ما كان يتم بيعه ضمن حدود رقعته الجغرافية، ومنها ما كان يُصدره الى مدن ومناطق وأقاليم أخرى مجاورة أو بعيدة.. وأهم المزروعات كانت الحبوب بأنواعها كالحنطة والشعير والسمسم والذرة، أضافة الى محاصيل الخضار الحقلية ومحاصيل البستنة الشجرية، مثل الكروم والتين والتفاح والسفرجل والحمضيات بأنواعها، كما أهتم الفلاح العراقي منذ الأزل بأم الأشجار وأكرمها ألا وهي النخلة، التي سميت بالسومرية (نِمبار) كما سمي التمر (سولومب)، حيث مُنحت عناية واهتمام خاص لقدسيتها ورمزيتها لما كانت تدره من فوائد عدة، وقد أوردت النصوص 365 فائدة للنخلة أي بعدد أيام السنة، وهذا ما يتوضح أيضاً بالمثل السومري الجميل (أذا اردت أن تكون محبوباً بين الناس عليك أن تكون كريماً مثل النخلة)... وقد أوردت عدد من النصوص المسمارية نصائح للمزارعين عن كيفية اختيار المحصول المناسب لأراضيهم حسب موسمه من السنة، وكذلك كيفية تخطيط البساتين والمسافات التي يتوجب تركها بين الأشجار حسب نوعها وحجمها وما تتركه من ظلال فيما بينها.
كذلك تمت زراعة المحاصيل الصناعية كالزيتون والكتان والقطن الذي كانت تسمى شجرته (شجرة الصوف).. كما أن العديد الفلاحين كانوا أضافة الى زراعتهم يؤدون ببعض المهن الاخرى التي ترتبط بالأرض لأغراض الاستهلاك الخاص أو للمنفعة المادية، مثل تربية المواشي كالخراف والماعز والخنازير وكذلك الطيور مثل الدجاج والبط والاوز والحمام، أو قيامهم بعض الصناعات الغذائية والمنزلية البسيطة كالألبان والخمور ومواد وأدوات التنظيف... وكان الفلاحين عند المتاجرة بمنتوجاتهم الزراعية يقومون أما بنقلها بأنفسهم بواسطة العربات أو الحمير الى المدينة، لغرض عرضها وبيعها بشكل مباشر للناس عند بوابات المدينة أو أماكن أخرى يتم تحديدها من قبل سلطة المدينة، أو أن يبيعوها الى متعهدين (تجار) يتولون هم مسؤولية تسويقها الى مناطق الاستهلاك الأخرى.
وقد أستخدم الفلاح الرافديني أدوات عديدة ومتنوعة في عملية الزراعة، عثر على نماذج منها خلال التنقيبات الاثرية في مدن وادي الرافدين، كما بينت تلك الادوات كذلك الرسوم والمنحوتات وصور الاختام الاسطوانية.. مثل المناجل والجواريف والفؤوس ومراوح تذرية الحبوب وسلال جمع المحاصيل، وكذلك المحاريث التي تجرها الثيران والتي احتوت بعض منها على أوعية مخروطية الشكل أشبه بالقمع، تتم من خلالها عملية البذار بشكل موازي لعملية الحراثة عند سير المحراث.
الصناعة
نتيجة التطور الذي طرأ على المجتمع العراقي القديم بعد تشييد مدنه الأولى وتزايد احتياجاته في مختلف المجالات، فقد تعددت وتنوعت بالمقابل الصناعات الحرفية، لتوفر وتلبي احتياجات الناس من لوازم حياتية يومية أو ما تحتاجه المهن والحرف الأخرى، وكما سبق فقد أستدل على تلك المهن من مسمياتها الواردة في النصوص المسمارية، وكذلك ما كشفت عنه التنقيبات الثرية من أبنية كانت بمثابة ورش ومشاغل مستندة الى مخلفاتها التي بينت بوضوح ماهيتها وطبيعة العمل الذي يتم داخلها، مثل أحواض غسل وصباغة الأصواف والأقمشة، وأقراص معدات الغزل، وكور النار المستخدمة في ورش الحدادة، بالإضافة الى العديد من الأمثلة الأخرى. كما اثبتت التنقيبات التي رسمت خطط مدن وادي الرافدين بأن مشاغل كل صنعة كانت تأخذ جانب معين ومعلوم من المدينة يتم تجمعها، فيه يراعى فيها قيمة ما تنجه وما تتركه من تلوث وضجيج وحاجة الناس اليها وطبيعتهم، وغالباً ما كان يسمى ذلك القسم من المدينة باسم الحرفة المتواجدة فيه كما أوردت ذلك النصوص المسمارية، مثل (سوق الحدادين)، (حارة النساجين)، (سوق الصاغة)، (زقاق النجارين).
وما يلاحظ من ما أوردته النصوص المسمارية بأن العٌرف المُتبع آنذاك أن يورث الحرفي صنعته الى أبنائه مُعلماً اياهم أسرارها وخفاياها لتكون حكراً عليهم دون سواهم... كما أن أصحاب الحرف كانوا ينتظمون فيما يشبه النقابات المهنية، تختص كل واحدة بحرفة معينة يترأسها اكثر الصناع شهرة وقدماً، الغاية منها هو فض النزاعات والمشاكل التي قد تنجم بين اصحاب تلك الحرفة، وكذلك لتنظيم منتجاتهم وتحديد اسعارها، ويعتبر ذلك الرئيس ممثلاً عن صناع تلك الحرفة امام السلطة الحاكمة.. وكانت أهم الصناعات هي.... الفخار بمختلف أشكاله، الصياغة وصناعة الحلي، النسيج بنوعيه الصوفي والقطني، الخياطة، الدباغة، الخمور، الزيوت، العطور، الأختام الأسطوانية، الحدادة والتعدين، النجارة والأثاث الخشبي، السلال والحصير.. وقد أدى تطور العبادة وانتشار المفاهيم الدينية بين الناس الى ظهور مهنة صناعة التماثيل والرموز الدينية، ثم بعد سيادة الملكية بشكل مطلق على الاوضاع السياسية وسيطرتها على مقدرات الدولة في الألف الثاني ق.م، أزدهر عمل صناع المنحوتات الملكية وما تحتاجه العوائل الحاكمة والطبقات المترفة الساندة لها والدائرة في فلكها.. كما ظهرت كذلك العديد من مهن العمال الاخرى مثل.. عمال البناء، عمال النقل والتحميل، سواس الخيول والحمير، العاملون في المراكب والسفن، العاملون في الموانئ ومراسي السفن.
التجارة
عُرفت التجارة منذ فترة مبكرة من حياة الأنسان العرقي القديم لتكون عنصراً مُكملاً للزراعة والصناعة في اتمام الدورة الاقتصادية.. وما ساعد على أزهار التجارة في أرض الرافدين هو موقعها الاستراتيجي المفتوح على جميع المراكز الحضارية في العالم القديم، وكذلك لافتقارها وخاصة قسمها الجنوبي الى الكثير من المواد الأولية التي يحتاجه بناء الحضارة.. فظهر نتيجة ذلك الموردون الذين تولوا هذه المسؤولية جالبين تلك الاحتياجات من المناطق والاقاليم البعيدة، مصّدرين بذات الوقت ما كان ينتجه أبناء الرافدين من منتوجات زراعية وصناعية الى تلك المناطق مثل الهضبة الايرانية، اسيا الصغرى، ارض الشام، وادي النيل، جزر بحر ايجة اليونانية وحتى الى مناطق بعيدة ونائية باتجاه الجنوب، مثل (دلمون/البحرين)، (مكًان/عُمان)، (ميلوخا / الصومال أو الحبشة) وحتى وادي السند، التي وصلوا اليها عن طريق البحر.
كان هناك نوعين من التجارة يمثلها صنفين من التجار، الأول هو ما يمكن تسميته (التجار الكبار)، الذين يتولون شؤون التجارة الخارجية مع البلدان والمناطق البعيدة.. حيث يستوردون بشكل رئيسي المواد الخام الداخلة في الحِرف والصناعات التي تفتقر اليها بلاد ما بين النهرين من المناطق التي تم ذكرها، مثل معادن الذهب والفضة والاخشاب والعاج والاحجار الكريمة وأحجار التماثيل، وكذلك بعض المواد الغذائية وما يدخل في صناعاتها.. وخلال العهود السومرية المبكرة في الألفين الرابع والثالث ق.م كانت سيطرة المعبد واضحة على النشاط التجاري بشكل يقارب الاحتكار.. وبعد انفصال السلطة الدينية عن السياسية في أواخر الألف الثالث ق.م ثم العهود البابلية القديمة بعد الألف الثاني ق.م، أخذ النشاط التجاري الخاص يستقل بشكل كامل ليتحول التجار الى طبقة أرستقراطية يوازي ترفها الطبقة السياسية الحاكمة، ليكون لها سلطتها وكلمتها في القرار السياسي للدولة كونها أصبحت المتحكم الرئيسي بمواردها الاقتصادية.. وهذا ما يتوضح بشكل جلي بما أحدثه التجار من مشكلة اقتصادية كبيرة في زمن آخر ملوك سلالة أور الثالثة (آبي سن) 2028_2006 ق.م باحتكارهم الحبوب بالتواطؤ مع العيلامين وعدم بيعها للناس بغرض أحداث البلبلة في عموم الامبراطورية.. وفعلاً أوصلوا مدينة (أور) الى حافة المجاعة ليتم أسقاطها بسهولة على يد عيلام عام 2006 ق.م... أما النوع الثاني فهم (التجار الصغار) أو اصحاب الحوانيت والمتاجر الصغيرة التي تبيع بضائعها المتنوعة التي يحتاجها الناس في حياتهم اليومية بشكل مباشر لهم.. وكان البيع يتم بواسطة أوزان الفضة أو الشعير أو المقايضة مع المواد الأخرى.
كان التجار أضافة الى تجاراتهم فقد كان كل منهم بمثابة مؤسسة اقتصادية متكاملة لإتمام معاملات البيع والشراء والقروض، حيث يقومون بإقراض الأموال مقابل فوائد محددة ثبتتها وحددتها القوانين الرافدية وفي مقدمتها قانون الملك الشهير (حمورابي) 1792_1750 ق.م حسب قيمة القرض ومدة سداده. وكذلك تمليك العقارات وتوفير العبيد وتحرير العقود بين المتاجرين الصغار... وقد أدى تطور التجارة وانتشارها الى ازدهار وسائل النقل بمختلف صورها البرية والمائية، كما دعت الحاجة في هذا الجانب الى ابتكار العربات كعامل متمم لاختراع العجلة، وكذلك ظهور الكثير من المفاهيم الاقتصادية الجديدة مثل ابتكار نظم دقيقة للمقاييس والاوزان والمكاييل ونظم تحديد اثمان السلع والبضائع... كما ادى ازدهار التجارة فيما بعد الى تأسيس مستعمرات تجارية في البلدان البعيدة لتكون واسطة ربط بين تجار تلك المناطق وارض الرافدين لتسهيل اجراء الصفقات التجارية بين الطرفين، ومن الامثلة على ذلك مستعمرة (كانش) الاشورية في منطقة (كبدوكيا) في أسيا الصغرى.. لكن بنفس الوقت كان للتجارة ايضاً نتائج سلبية تتمثل بالحروب والنزاعات التي كانت تشتعل لغرض السيطرة مناطق المواد الخام التجارية التي اصبحت الحاجة تتعاظم اليها مع توسع وكبر تلك البلدان، أضافة الى وضع اليد على الطرق التجارية المؤدية الى الاقاليم البعيدة.
مهن الخدمة العامة
بشكل عام تنقسم هذه المهن في أتجاهين.. الخدمة داخل المعبد والقصر الحاكم، أو الخدمة داخل الجيش..
فيما يخص الاتجاه الاول.. فقد شمل الموظفون والعاملون بخدمة العائلة الحاكمة وكان هؤلاء يأخذون أجورهم من موارد القصر ، مثل جباة الأجور والضرائب، مراقبي الأقطاعات الزراعية، متابعي المشاغل الحرفية، الحرس، المغنون، العازفون، السقاة، الطباخون، السعاة، الوصيفات، المنظفون وغيرهم.. ومن الجدير ذكره هو الاهمية البالغة التي أضفيت الى الموسيقيين العازفين على مختلف الادوات الموسيقية ومنذ فترة مبكرة من تاريخ وادي الرافدين، حيث كانت مهنتهم مرغوبة على مدى العام وخاصة في الاعياد والمناسبات العامة والخاصة، وكذلك احتفالات الانتصارات العسكرية.. وكان في مقدمة تلك الادوات القيثارات والطبول والدفوف والموازير المختلفة والابواق والقوانين الوترية والاعواد والزنجارات والصلاصل.. ومن مهن الخدمة العامة من كانت ذات اتجاه خاص ومستقل وتعتمد على ايراداتها في تمويل مؤسساتها مثل معلمي ومدراء المدارس والعاملين ضمن هيئات المؤسسات التعلمية وأيضاً موظفي المكتبات ودور الارشفة والتوثيق والقضاة وموظفي المحاكم.. كما تجدر الاشارة هنا الى مهنة الطب التي اخذت مكانتها الكبيرة في المجتمع الرافديني ولتشتهر معها سمعة ومهارة أطباء وادي الرافدين الى مناطق واسعة من الشرق الادنى القديم، وكان هؤلاء (عدا من كان ضمن العاملين في مؤسستي القصر والمعبد) يعملون في الغالب بشكل مستقل لقاء أجر معلوم، ويتم ذلك أما داخل عيادات صغيرة تقع في شوارع وأزقة المدينة أو أن يكونوا بشكل جوالين يجوبون المدن والمناطق النائية مقدمين خدماتهم الطبية هناك.. أما من كان يعمل داخل مؤسسة المعبد فأنه يتقاضى أجوره من هذه المؤسسة، عدا من كان يؤدي عمله كخدمة من دون مقابل، حيث أن العديد من العوائل الرافدية قد نذرت أولادها أو بناتها للعمل داخل المعابد استرضاءً للآلهة.. ومن المهم ذكره بهذا الجانب أن عمل الذكور داخل المعابد باستثناء الكهنة والكتبة أقتصر فقط على المُخنثين والمَخصيين، ذلك لتجنب مخالطتهم ومعاشرتهم الكاهنات والفتيات اللواتي كرسن حياتهن لخدمة الآلهة التي تمنع القوانين والأعراف زواجهن مدى الحياة.. وهذا ما يستشف من قصة مولد مؤسس السلالة الأكدية الملك (سرجون) 2371_2316 ق.م، الذي ذكر فيها بأنه مجهول النسب (أنا لا أعرف أبي)، وأن والدته الكاهنة في المعبد قد حملت به بالسر، و خشية من افتضاح أمر فعلتها التي تؤدي بها الى الموت، قامت بوضع مولودها الغير شرعي داخل قفة من الجريد والقته في مياه النهر لإنقاذه وانقاذ نفسها نتيجة ما اقترفته، بحادثة مشابهة لمولد النبي (موسى) الواردة في التوراة.
أما الخدمة داخل الجيش.. فكانت على نوعين.. الدائمية أو النظامية (التطوع) وتمنح مقابلها رواتب وأجور محددة من قبل القصر والعائلة الحاكمة كل فترة زمنية معينة، حيث كان الجيش يعتبر من أهم عناصر قوة وهيبة الدولة، كذلك فالجيش يعتبر الحامي والمدافع عن النظام السياسي القائم وشخص الحاكم (ملك أو أمير) وخلفائه.. وكانت أجور افراد الجيش تختلف حسب الصنوف ومقدار خطورة كل منها.. وردت اسماء بعضها في النصوص المسمارية، كما ظهر بعض منها في المنحوتات والمنمنات وخاصة تلك المتأتية من الفترة الاشورية الحديثة.. مثل المشاة والخيالة ورماة السهام والمقالع، ثم في العصور الآشورية ظهرت صنوف أخرى مثل مهدمي الأسوار وملقي القذائف الحجرية (المنجنيق) والضفادع البشرية، والتي استخدمت بدورها العديد من انواع الاسلحة كالسيوف القصيرة والطويلة والرماح والخناجر والمعدنية والفؤوس الثقيلة والاقواس والسهام.. كما كانت تلك الأجور تتفاوت حسب تدرج الرتب العسكرية التي تبدأ برتبة جندي، رئيس العشرة، رئيس الخمسين، رئيس السبعين، وصولاً الى رتبة (الرابشاقة) التي تعادل رتبة قائد الفرقة، ثم (الترتانو) أي القائد العام للجيش الذي يتلقى أوامره بشكل مباشر من شخص الملك أو الأمير ويعتبر من أهم المناصب الرسمية في الدولة..... أما النوع الآخر من خدمة الجيش فكانت خدمة الاحتياط التي تشمل عامة الناس من القادرين على حمل السلاح والذين يمتهنون مهن أخرى.. كان هؤلاء يدعون للخدمة العسكرية في حالة نشوب حروب كبيرة تستمر لفترات زمنية طويلة ليس بمقدور الجيش النظامي لوحده تلبية متطلباتها.. حينذاك كانت تمنح للمدعوين رواتب محددة طيلة فترة خدمتهم، لكنها كانت تقل عن رواتب الخدمة الدائمية بشكل كبير.. وغالباً ما تؤدي دعوة الجنود الاحتياط (كما هو الحال في وقتنا الحاضر) الى حدوث أزمات اقتصادية حادة نتيجة تعطل مرافق الحياة بسبب انشغال الأيدي العاملة في محارق الحروب
3237 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع