الدكتور/ محمد عيّاش الكبيسي
ربما لا يختلف اثنان في خطورة التحدي الطائفي الذي يعصف بمنطقتنا اليوم، ورغم المجادلات والمساجلات الطويلة حول هذا الموضوع والاتهامات المتبادلة لم يتبلور مفهوم محدد للطائفية يمكن الاعتماد عليه في محاكمة الأفكار والسلوكيات، ومع نزول هذا المصطلح إلى الشارع أصبحنا نواجه سلاحا فوضويا يستخدمه الكل ضد الكل.
في مصادرنا العربية والإسلامية لا نجد اصطلاحا منضبطا لهذا المفهوم، وكل النصوص التي بحوزتنا لا تتعدى إطلاق لفظ الطائفة على مجموعة من الناس يتميزون عن الآخرين بشيء ما، سواء كان هذا الشيء مقبولا أم مرفوضا، فمثال المقبول قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) التوبة-122، ومثال المرفوض قوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) آل عمران-154، وقد تجمع الحالتان في آية واحدة مثل قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) الحجرات-9، وقوله: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) الأعراف-87.
المعيار الأول: الإنشقاق عن الأمة:
ربما يكون الأقرب إلى مفهومنا اليوم ما ذكره القرآن الكريم عن بعض المجموعات التي تتميز بموقف انشقاقي أو تآمري، مثل قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ) النساء-81، ومن هذا المعنى يمكن أن نصوغ المعيار الأول في تحديد السلوك الطائفي وهو: الانشقاق، فالانشقاق عن الأمة وهويتها وثقافتها مهما كانت دوافعه يمثل علامة فارقة في السلوك الطائفي.
إننا في هذا المعيار لا نتحدث عن الخلافات الفكرية أو السياسية، فهذه ضرورة من ضرورات الحياة، والأمة التي ليس فيها حراك فكري أو سياسي أمة ميتة، ولقد رأينا أن أوج التعدد المذهبي والثقافي في أمتنا كان في العصر العباسي، وهو العصر الذهبي حضارة ومنعة وإنتاجا، بخلاف مرحلة «الرجل المريض» التي مرت بها الأمة أواخر الدولة العثمانية، والتي انتكس فيها الفكر وانكسر فيها القلم.
إن هناك فرقا جوهريا لا يغيب عن اللبيب بين الاجتهاد الفكري أو السياسي داخل منظومة الأمة، والذي سيفضي إلى التنوع والتعدد بالضرورة وبين حالة الانشقاق عن الأمة والعمل خارج منظومتها.
إن كل أمة لا بد أن تكون لها هوية تميزها عن بقية الأمم، وإلا لأصبحت البشرية أمة واحدة، وليس من الصعب تحديد معالم الهوية، وبالتالي ليس من الصعب أيضا تمييز حالات التنوع والتعدد داخل هذه الهوية عن حالات التمرد والانشقاق، وبهذا الصدد يقول المرجع الشيعي البارز حسين المؤيد، والذي أعلن تركه للتشيّع مؤخراً في إحدى تغريداته التويترية: (إن الانشقاق عن ثقافة الأمة هو انحراف عن سبيل المؤمنين إلى سبيل الضلال، يؤدي إلى التورط في عقائد وأفكار مخالفة للكتاب والسنة ومنافية للمنطق).
نعم إن أخطر ما نواجهه في هذه الفوضى الطائفية هو اختلاط الأوراق وتداخل المفاهيم، حتى أصبح لدى بعض المثقفين فضل عن غيرهم أن العمل على ترسيخ الهوية الإسلامية والدفاع عنها هو نوع من السلوك الطائفي، وهذا التفكير بحد ذاته هو الأخطر على الأمة ووجودها من كل التحديات الأخرى، فإن الارتباك السياسي أو التراجع الاقتصادي أو حتى الغزو العسكري يمكن لكل أمة أن تتعرض له ثم تتعافى منه بإرادة صادقة وإدارة ناجحة، أما التنازل عن الهوية فمعناه تفكيك للأرض التي نعيش عليها، وتمزيق للخيمة التي نستظل بها، وتشكيك في الآصرة التي تجمعنا، وهذا يعني إلغاء وجودنا بالكامل كأمة وحضارة وتاريخ.
إننا حينما نتكلم عن التحدي الطائفي لا نتكلم عن خلافات مذهبية أو اجتهادية، ولا نتكلم عن مجادلات فكرية ولا منافسات سياسية، فهذا كله مشروع ومقبول، وليس هذا من الطائفية في شيء، إنما الطائفية هي الهوية البديلة التي تصنع فيها كل الأركان والمعالم المطلوبة في صناعة الهوية من الفكرة المحورية إلى التاريخ والتراث والرموز والآداب والفنون، وهذا ما صرّح به علي شريعتي، وهو يدعو إلى تغيير كل معالم الهوية الإسلامية حتى الكعبة، والتي يعتبر الاهتمام بها والطواف بها خطأ، حيث إن الكعبة الحقيقية عنده إنما هي قبر الحسين!! انظر كتابه (التشيع مسؤولية)، وهذا يعني أن الخلاف في قصة علي ومعاوية مثلا لم يكن إلا جزءا من منظومة متكاملة ومترابطة لصناعة الهوية البديلة، وليس خلافا علميا في تقويم مرحلة تاريخية معينة.
ربما كان للتيارات العلمانية والليبرالية دور كبير في هذا الخلط، حيث إنهم رأوا في هذه الأجواء الفوضوية فرصة لفرض تصورات جديدة عن طبيعة الصراع، فمكان أن تكون الصورة هي صورة الأمة المدافعة عن هويتها وتاريخها بوجه التحديات الطائفية، عملت هذه التيارات على تشكيل صورة ذهنية أخرى، وهي صورة (الخلافات الطائفية) وفي هذا مجافاة للحقيقة أولا، ومساواة بين الأمة بكل ثقلها وتاريخها وبين النزعات الطائفية المتمردة على هذه الأمة ثانيا. إن هذه التيارات تعرف قبل غيرها أن أمة عمرها أربعة عشر قرنا وامتدادها الجغرافي يمتد من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلسي، وقد تربعت على عرش الحضارة والإنتاج المعرفي العالمي في أغلب تاريخها لا يمكن وبكل المقاييس أن توصف هذه الأمة بأنها طائفة، وأن تقارن بمجموعة انعزلت عن كل هذا التاريخ وعاشت في سراديب الباطنية وعقد المظلومية والمحرومية.
إن هذا التضليل الفكري قد مورس على هذا الجيل بعد أن تمكنت الأحزاب العلمانية من القبض على مقاليد السلطة، وأخضعت لهيمنتها المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية، وإلا فإننا لو تخيلنا أننا نعيش في أية مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي في عهد الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو الأيوبيين أو العثمانيين، فإننا لا يمكن أن نرى منتميا واحدا لهذه الأمة يتحرج من الاعتزاز بعقيدته وهويته معلنا لها ومنافحا عنها، وما فعله صلاح الدين الأيوبي مع الدولتين الصليبية والفاطمية خير شاهد على هذا، وهذا ما جعله رمزا تاريخيا لهذه الأمة، ولكن صلاح الدين بالمعيار الجديد والمصطنع للطائفية يمكن أن يكون طائفيا من الطراز الأول!
يهدف العلمانيون من نشر هذه الثقافة في بلادنا إلى التخلص من المنافس الإسلامي، فإدراج جميع الإسلاميين والمتدينين -المنتمين لهوية الأمة والخارجين عليها- تحت لافتة الطائفية يتيح للعلمانيين فرصة أوسع لمحاصرة منافسيهم، لكنهم في الحقيقة يقومون بما يشبه من يحاول لفّ الحبل على عنقه، فإن الدعوات الباطنية المشبوبة بروح الانتقام من الأمة ستكون المستفيد الأكبر من هذه السياسات التي تهدف إلى إضعاف روح الانتماء للأمة بعقيدتها وهويتها الأصيلة، وربما كانت التجربة العراقية التجربة الأقسى في هذا المجال، وللأمانة العلمية والتاريخية، فإن صدام حسين أدرك في أول مصادمة له مع حزب الدعوة في الداخل وثورة الخميني في الخارج أن «العقيدة البعثية» غير قادرة على الصمود في المواجهة، فراح يستمد المدد الروحي والمعنوي من رموز الهوية الأصيلة «خالد والحسين وسعد والقعقاع» ثم أتبعها بما عرف بـ «الحملة الإيمانية»، والتي نقض فيها ما كان كتبه بنفسه في كتابه «نظرة في الدين والتراث» لكن هذه الاستدراكات كلها لم تصل إلى مستوى المشروع الناضج والقادر على التعامل مع مثل هذا الملف الشائك والمعقد. إن التيارات العلمانية والليبرالية والتنويرية الناشطة في مجتمعاتنا اليوم لترتكب حماقة بحق أمتها وبحق نفسها أيضا حينما تسهم في إضعاف الهوية الإسلامية الأصيلة، وآن لها أن تراجع حساباتها بدقة خاصة بعد التجربتين المريرتين في العراق وسوريا مع مراعاة الفوارق الموضوعية بين التجربتين.
تعد ظاهرة التنوع الديني والمذهبي من أقدم الظواهر التي تميز السلوك البشري، وأشدها تجذرا ورسوخا في حياته وعلاقاته المختلفة، بحيث أسهمت هذه الظاهرة بصياغة التاريخ نفسه وصياغة الجغرافيا أيضا، وإذا كانت هناك بعض الدعوات اليوم للتحذير من هذا التنوع أو هذا الخلاف باعتباره طائفية فإن هذه الدعوات ستنتهي قبل أن تتقدم خطوة واحدة.
ولأن الخلاف الديني ليس خلافا عرقيا ولا قطريا أو قبليا بل هو خلاف معرفي يدور بالأصل حول نقطة ارتكاز واحدة وهي معرفة الحقيقة الكبرى التي انبثق منها هذا الوجود وما يتبع هذه المعرفة من تصورات وسلوكيات، فإن هذا الخلاف لا يحمل صفة الاستقرار والثبوت، بل إن المجتمعات البشرية ستتحرك وستتغير في انتماءاتها الدينية أو المذهبية ولأسباب وعوامل كثيرة ومختلفة، وكثيرا ما يقترن هذا التغير بقدر كبير من العنف واستخدام القوة، ليس بسبب التنوع الديني نفسه بل بطريقة التعامل مع الآخر وفقدان العقد الاجتماعي الذي يضمن القدر المقبول من التعايش الآمن والعادل.
لقد جاء الإسلام بمنهج متوازن في التعامل مع هذه الظاهرة، فقد أعطاها بُعدها المعرفي الكامل، وتعامل معها على هذا الأساس، فشجع كل أساليب التواصل المعرفي، ثم أحاط هذه الأساليب بسياج من الأخلاق التواصلية التي تمنح الأطراف المختلفة قدرا من الطمأنينة وربما الحصانة لتيسير الوصول إلى الرؤية الصحيحة، ولذلك يقول القرآن الكريم: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل125 ويقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} العنكبوت 46، وحرّم بشكل قاطع استخدام العنف كوسيلة لتغيير القناعات الدينية فقال: {لا إكراه في الدين} البقرة 256.
ولأن الخلاف الديني سيبقى قائما مهما كانت درجة الوعي أو الجدل أو النشاط الذهني والعلمي فإن الإسلام وضع الأسس الأولى لضمان التعايش الآمن، وكانت وثيقة المدينة الدستور الأول الذي وضعه الإسلام لتحقيق هذه الغاية فأعطى للمسلمين حقوقهم وأعطى لليهود حقوقهم في ظل دولة الإسلام الواحدة، لكنه سمى الأشياء بأسمائها، فسمى المسلمين مسلمين وقال: «إنهم أمة» وسمى اليهود يهودا وقال: «إنهم أمة»، وبهذا يكون الإسلام وازن بين قيمة «المعرفة» والتي لا تقبل التمييع أو التضليل والتي هي أساس الدين والمعتقد وبين قيمة «العدل» والتي هي أساس النظام والدولة.
حينما يتكلم الإسلام عن العلم والمعرفة فإنه يتكلم بالحق الذي لا لبس فيه فيقول مثلا: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} المائدة 73 و {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم} المائدة 72 لكنه حينما يتكلم عن النظام والقانون فإنه يقول: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} النساء 123 ويقول -عليه الصلاة والسلام-: (من ظلم معاهدا وانتقصه وكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه) السنن الصغرى ج3 ص 141.
إن العمل للإسلام والدعوة إليه وبيان عقائده وأحكامه من أوجب الواجبات، وهي مهمة الأنبياء والعلماء بل الأمة كلها إلى يوم الدين، {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} يوسف 108، وأما مهمة تحقيق العدل بين الفئات المختلفة فهي مهمة الدولة.
إنه من المؤسف أن يضطرب هذا الميزان اليوم، فتقوم الدولة بالتمييز الطائفي، كما يحصل اليوم في العراق، حيث إن الدولة بكل أجهزتها منحازة للطائفة الشيعية، وحالات الإقصاء والتهميش لأهل السنة أكبر من أن تحصى، ومع هذا نسمع من بعض علماء السنة ومثقفيهم من يدعو إلى ترك «الخطاب الطائفي»!! وهو ما يعني من الناحية العملية سكوت أهل السنة عن كل تلك التجاوزات التي تستهدف عقيدتهم وهويتهم، وهذا يعني أن الميزان قد انقلب تماما، فالعلماء المكلفون ببيان الحق صاروا يتواصون بكتمانه خوفا من أن يتهموا بالطائفية، والدولة المكلفة بإقامة العدل صارت تمارس التمييز والظلم على أساس الهوية والمعتقد!
المعيار الثاني: التمييز المفضي إلى الظلم:
إن المعيار الذي يمكن اعتماده في تحديد السلوك الطائفي هنا هو التمييز المفضي إلى الظلم وانتهاك الحقوق الإنسانية والمدنية، أما التمييز الثقافي فهو ضرورة من ضرورات هذه الحياة، والقفز على هذه الضرورة هو قفز على الدين والعقل والواقع؛ إذ كيف يمكن الجمع بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك؟ وكيف يمكن الجمع بين من يعتقد أن الصحابة هم الجيل الأصلح للاقتداء والأقرب لحالة الكمال وبين من يعتقد أن الصحابة مرتدون عن الإسلام؟
لقد واجه الأنبياء في دعواتهم الإصلاحية نمطا من التفكير الوحدوي والذي يدعو إلى الحفاظ على وحدة المجتمع حتى لو كانت على الجهل والضلال، فقد قالت قريش عن محمد -صلى الله عليه وسلم-: «هذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وفرّق جماعتنا وشتت أمرنا» سبل الهدى ج2 ص417، وقالوا: «يفرّق بين المرء وابنه والمرء وأخيه والمرء وزوجه والمرء وعشيرته» الشفا للقاضي عياض ج1 ص265، إلا أن القرآن الكريم كان يرد عليهم: {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} العنكبوت 25.
ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحذّر أمته من الاختلاف، وهو في الوقت ذاته يعلمهم طريق الخلاص فيقول: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ) ابن ماجة ج1 ص16 وأحمد بن حنبل ج4 ص126.
إن الحفاظ على الوحدة الوطنية لا يكون بالتنازل عن العقيدة والدين، بل ولا بالتنازل عن واجب الإصلاح والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بالتنازل عن حرية التعبير وحرية الاجتهاد والبحث العلمي، وقد رأينا الغرب وهو من أسس لثقافة الدولة الحديثة أو دولة المواطنة كيف يقدّس حرية التعبير كما يقدس وحدة الوطن، بل يعتبرهما متلازمتين، فلا وجود للوحدة الوطنية مع ضياع الحرية.
لقد كان علماؤنا يرتجفون فرقا وخوفا من الله حينما يقرؤون مثل قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من البيّنات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} البقرة 159-160، بينما نجد اليوم بعضا ممن ينتسبون للعلم لا يكتفون بالسكوت وكتمان الحق بل ويمارسون نوعا من التدليس والتضليل، فتراه في بيته ومجالسه الخاصة يكفّر من يشتم الصحابة وأمهات المؤمنين، وفي وسائل الإعلام يثني عليهم ويقول: لا فرق بيننا وبينهم!! والغريب أنه يعتقد أن هذا من السياسة!! ولا أدري أية سياسة تلك التي تجيز الكذب والتضليل والتلاعب في دين الله إلى هذا الحد؟
إن قول العالم للحق في أي مسألة كلية أو جزئية عقدية أو فقهية لا يمكن أن يسمى طائفية، وإن أدى هذا إلى الخلاف، فالتمايز الفكري مطلوب بحد ذاته وهو نتاج طبيعي لحرية الاجتهاد والتعبير، ولا بديل عنه إلا التدليس والتضليل، أما المرفوض فهو ما تقوم به الحكومة من هضم لحقوقنا وامتهان لكرامتنا وهذه هي الطائفية التي ينبغي أن نحاربها سواء وقعت علينا أم على غيرنا.
إن السياسة الصحيحة هي أن نحدد بدقة من نحن وماذا نريد ومن الآخر وماذا يريد، ثم بعد ذلك نتفق على عقد اجتماعي أو دستور يضمن الحقوق الوطنية لكل الأطراف، أما أن ندعو إلى التنازل عن هويتنا وعقيدتنا لصالح الوطن فإننا بذلك سنخسر الدين ونخسر الوطن أيضا.بعد النجاح الذي حققه الأوروبيون في اجتياز عصر الصراعات الدينية والمذهبية وتمكنهم من بناء دولة المواطنة حاول النظام الرسمي العربي أن يستنسخ التجربة، وخطا خطوات واسعة في هذا المجال، إلا أن المحاولة لم تلبث أن تلكأت واضطربت لأنها في الغالب كانت ممارسات مجزأة أو مفككة وفيها قدر كبير من السطحية والانتقائية، فهناك في الغرب مثلا تقترن العلمانية بالديمقراطية، وعندنا اقترنت بأشد أنواع الديكتاتورية، وهناك دولة المواطنة يبنيها المواطنون وفق عقد اجتماعي واضح ومحدد، وهنا الدولة تفرض على المواطنين بالصيغة التي يختارها الحزب الأوحد والقائد بالضرورة، كما أن التجربة الغربية كانت تجربة مبنية على أسس علمية رصينة فكان النظام بأكمله انعكاسا لثقافة مجتمع وإرادة أمة فكرت وخططت ونفذّت، وعندنا لم تكن المحاولة سوى تعبير عن انبهار وإعجاب بالنتائج التي حققها الآخرون، هذا إضافة إلى أن التجربة الغربية لم تصطدم بطبيعة التدين المسيحي والقائم على مقولة: «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» بينما كانت المحاولات العربية بمجملها متصادمة مع الكثير من ثوابت الإسلام ونصوصه القاطعة.
حاول النظام العربي وهو يعيش زهو التقليد المريح للتجربة الغربية أن يستعلي على مشاكله الداخلية المعقدة، ومنها التحدي الطائفي والذي تعاملت معه الأنظمة العربية كلها باللامبالاة حتى في جانبه العلمي والتحليلي, والذي لا يتطلب سوى دراسة موضوعية عن الظاهرة واحتمالاتها ومآلاتها، إلا أن الرياح لم تجر كما اشتهت هذه الأنظمة، حيث فجرت ثورة الخميني بركانا هائلا من الأزمات الثقافية والسياسية والأمنية في المنطقة، ثم جاء التحالف الأميركي الشيعي في العراق ليحاصر النظام العربي كله في الزاوية الحرجة، وليكتشف العرب أن «بوابتهم الشرقية» لم تعد كما كانت، وأن نصف الشعب العربي في العراق محكوم اليوم بولاء ديني وسياسي لدولة أجنبية، وكذلك الحال في لبنان واليمن وبعض دول الخليج وإن كانت بنسب متفاوتة.
قبل أيام وعلى برنامج الاتجاه المعاكس كان أحد السياسيين الشيعة في العراق يفاخر بأنه صفوي وأن الخامنئي يمثل مرجعية عليا للشيعة, ولذلك فهم ملزمون بتقبيل يده اليمنى واليسرى! وكان قبل هذا حسن نصر الله والذي أعلن في أكثر من مناسبة أنه مرتبط بالولي الفقيه ارتباط بيعة وعهد والتزام، وأنه ينفذ في لبنان توجيهات «السيد القائد».
إن الخطورة ليست في تصريح هذا المسؤول أو ذاك، وإنما في سكوت الشيعة العرب في العراق ولبنان وتقبلهم لها, وكأنها حقائق ومسلمات لا تستدعي حتى الاعتراض أو النقاش.
لقد استيقظ النظام العربي على هذه الفاجعة فجاءت تصريحات الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك, والتي قال فيها بالنص من على شاشة العربية: «الشيعة أغلبهم ولاؤهم لإيران مش لدولهم» وهناك تصريحات لا تخرج عن هذا الإطار لمسؤولين سعوديين وأردنيين ويمنيين، وكلها تؤكد خطورة المأزق الذي تمر به المنطقة، والتحدي الذي يواجهه مفهوم الدولة الحديثة أو دولة «المواطنة».
المعيار الثالث: الولاء للأجنبي:
إن المعيار الثالث للسلوك الطائفي والذي نستنتجه من هذه القراءة هو الولاء للأجنبي بدافع ثقافي وديني، وهو ما يشكل خطرا على نظام الدولة أكثر بكثير من الارتباطات القائمة على أساس تغليب المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن, بما فيها شبكات التجسس التي تنشط في أجواء الحرب الساخنة أو الباردة.
إن الدافع الطائفي للارتماء بحضن الأجنبي قد يتجاوز حدود الولاءات الطائفية، بمعنى تغليب الولاء الطائفي على الولاء الوطني، إلى حالة الولاء للعدو أيا كان هذا العدو، وهذا ما حصل في تاريخ بغداد القديم والحديث، حيث كان سقوط بغداد الأول على يد هولاكو بمساعدة الوزير الأول للدولة ابن العلقمي وبمشورة المرجع الأكبر في ذلك الوقت نصير الدين الطوسي، والذي سخّر علمه في خدمة هولاكو كما سخّر ابن العلقمي منصبه، وما حصل لبغداد في سقوطها الأول حصل لها في سقوطها الأخير على يد بوش الابن, وبمساعدة من يمكن تسميتهم بالعلاقمة الجدد.
بين سقوط بغداد على يد هولاكو وسقوطها اليوم تمتد ثقافة معقدة ومتشعبة لا يمكن أن تفرز إلا هذه الحالات النشاز في التعامل مع مفهوم الوطن والأمة.
إن نصير الدين الطوسي والذي أجمعت كل الروايات التاريخية على أنه كان يعمل في خدمة هولاكو إلا أنه لا يزال محل جدل ثقافي خطير، فبينما يقول عنه علماء السنّة: «النصير الطوسي جاء في طليعة موكب السفّاح هولاكو، وأشرف معه على إباحة الذبح العام في رقاب المسلمين والمسلمات» [الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب ص 47]، يقول فيه محمد باقر الخوانساري: «ومن جملة أمره المشهور.. استيزاره للسلطان هولاكو... ومجيئه في موكب السلطان إلى دار السلام بغداد لإرشاد العباد وإصلاح البلاد وقطع دابر سلسلة البغي والفساد... بإبادة دائرة ملك بني العباس وإيقاع القتل العام في أتباع أولئك الطغاة إلى أن سال من دمائهم الأقذار كأمثال الأنهار» [روضات الجنات ج1ص300]، ويقول الخميني: «يشعر الناس بالخسارة أيضا بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام» [الحكومة الإسلامية 128].
وفي ابن العلقمي يقول الشيعة: «الوزير السعيد العالم مؤيد الدين أبوطالب محمد بن أحمد بن العلقمي... استوزره المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين... ثم استوزره السلطان هولاكو خان مزيل الدولة العباسية... كان رضي الله عنه إمامي المذهب صحيح الاعتقاد رفيع الهمة محبا للعلماء والزهاد» [أعيان الشيعة ج9ص86].
إذاً نحن لسنا أمام حادثة أو خيانة فردية يمكن فرزها واحتواؤها, وإنما نحن أمام ثقافة دينية عامة تبرر التحالف مع «السلطان هولاكو» ضد بني العباس وهم أبناء عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء عم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى لو أدى هذا التحالف إلى كارثة بمستوى الكارثة التي حصلت لبغداد والأمة أجمع في تلك الحقبة السوداء.
وإذا كان السلوك السياسي لا يمكن فصله عن السلوك الثقافي والديني فإنه لمن المؤكد أننا سنواجه نمطا متشابها من المواقف السياسية, متماهيا ومتناغما مع تلك الثقافة، ولذلك فإن المهتمين بالشأن العام من سياسيين وإعلاميين والذين اصطدموا بالتحالف الأميركي الشيعي في العراق إنما تنقصهم الخبرة التاريخية والتجسير المنهجي بين الدائرة الثقافية والدائرة السياسية.
إنه لمن الخطأ الفادح أن نغمض عيوننا عن كل هذه الحقائق، ثم نمارس قدرا من التضليل والتجهيل ومحو الذاكرة التاريخية للأمة بدوافع وتصورات مشوشة وغير مدروسة، حتى وصل الأمر إلى خلط الأوراق بين من يدعو للطائفية وبين من يدعو لمقاومة الطائفية، بين من يدعو لاجتثاث الأمة ومسخ هويتها وبين من يعمل لتحصين الأمة وترسيخ هويتها، فمجرد الحديث في هذه المفاهيم سلبا أو إيجابا مع الأمة أو ضد الأمة يجعلك طائفيا!
إنه لمن المؤسف أن نجد القادة السياسيين لا يملكون المعلومة الدقيقة التي تؤهلهم لقراءة الواقع قراءة صحيحة ودقيقة وتمكنهم من التنبؤ بتصرفات الآخرين وطبيعة تحالفاتهم وعلاقاتهم، ولا أدري كيف سيكون القرار مصيبا أو أقرب للصواب إذا كان صاحب القرار يجهل الأرض التي يقف عليها والبيئة التي يعيش فيها.
إني لأجد من اللازم أن تتضمن مقررات الدراسة في كليات العلوم السياسية مقررات خاصة عن تاريخ الأديان والفرق المختلفة وخارطة الصراعات الطائفية بطريقة علمية وموضوعية دقيقة، ويخطئ من يظن أن التعليم الحديث في الغرب قد نزّه نفسه عن هذا النوع من الدراسات، بل العكس هو الصحيح فدوائر الاستشراق تمتلك الخبرة الكافية، وهناك اهتمام استثنائي بهذا الموضوع في الجامعات الغربية، ومن يقرأ مذكرات بريمر عن تجربته في العراق يتأكد من أنه جاء محملا برؤى ومعلومات عن الخارطة الطائفية في العراق أكثر بكثير من العلماء العراقيين أنفسهم! وما انحيازه التام للشيعة إلا عن معرفة دقيقة بتلك الثقافة وذلك التاريخ.
1538 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع