أحمد العبدالله
القذافي يزور بغداد ويعتذر للعراقيين ويصف حافظ أسد بكلامٍ قاسٍ (٤-٤)
بعد وصول معمر القذافي لحكم ليبيا في الأول من أيلول ١٩٦٩, حاول العراق استمالته, فأرسل وفداً رسمياً إلى طرابلس, برئاسة الفريق صالح مهدي عماش, نائب رئيس الوزراء, ولكن هذا الوفد فشل في مهمته, وعاد خالي الوفاض. ولكن القيادة في العراق, لم يداخلها اليأس, فبعثت بوفد آخر, وهذه المرة برئاسة نائب رئيس مجلس قيادة الثورة؛ صدام حسين, الرجل الذي كان حينها في بداية صعوده, وعرض,(تطبيق خبرتهم الثورية),على الثوار الليبيين الجدد, ولكنه لم يحقق أيَّ نتيجة أيضاً. لأن القذافي وزملاءه, والذين أعمار معظمهم في أواسط العشرينات, ورتبهم العسكرية متدنية, ولا تزيد على رتبة ملازم أول, كان هواهم؛(ناصرياً), وليس بعثياً, رغم إن بعضهم, بما فيهم معمر القذافي نفسه, كانوا في مقتبل حياتهم, من المعجبين بفكر البعث.
وتمكن جمال عبد الناصر, من استقطابهم سريعاً, بما يملكه من هيمنة وتأثير, رغم الهزّة العنيفة التي تعرّض لها بهزيمته المذلّة في سنة ١٩٦٧. فبعث بوفد كبير إلى ليبيا, بعد يومين فقط من الانقلاب, برئاسة (فتحي الديب), أحد رجاله للمهمات الخاصة, والذي تم تعيينه لاحقاً سفيراً لمصر في ليبيا, تولى خلالها ترتيب الأمور. كما أرسل أيضاً, على أثره, الكاتب الشهير (محمد حسنين هيكل), المقرّب جداً منه, وبمثابة مستشاره الصحفي, في مهمة استكشافية.
والغريب جداً إن (هيكل), وعند عودته للقاهرة, كتب تقريراً للرئيس جمال عبد الناصر, توقع فيه؛ إن القذافي ورفاقه, لن يستطيعوا البقاء في الحكم طويلاً, بسبب سذاجتهم ونقص خبرتهم السياسية!!. ولكن توقعه هذا, خاب تماماً, بل إن معمرالقذافي دخل التاريخ بوصفة أحد الحكام (المعمّرين),إذ امتدت فترة حكمه لأكثر من ٤٢ سنة متصلة. ويبدو إنه كان له من اسمه, نصيب !!.
كانت شمس عبد الناصر, حينذاك, على وشك الأفول, عندما خلع على القذافي, لقب؛(أمين القومية العربية)!!,خلال احتفال جماهيري بيوم الجلاء, أقيم في ١١حزيران ١٩٧٠ في مدينة بنغازي, وحضره عدد كبير من الزعماء العرب أو من يمثلهم, وكان الرئيس أحمد حسن البكر, قد رأس وفد العراق.
عبد الناصر؛ الذي كانت فترة حكمه, عبارة عن سلسلة من الهزائم المنكرة, والشعارات الجوفاء, والجعجعة التي بلا طحن, يسلّم(أمانة القومية العربية),لشخص وصفه يوماً, خلفه؛ أنور السادات, بأنه؛(معتوه)!!. والتي كانت فترة حكمه, عبارة عن كوارث متواصلة على شعب ليبيا, الذي جعل منه القذافي, حقلاً للتجارب, وعلى الأمة العربية, والتي كان أشنعها, ما نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ تزويد إيران بالصواريخ التي قصفت بغداد !!.
بقيت العلاقات العراقية - الليبية, بمستوى لا بأس به, حتى عام ١٩٨٠, وإن كان قد أصابها شيء من الفتور في النصف الثاني من السبعينات, ولكن (شعرة معاوية),لم تنقطع بينهما, وكانت هنالك زيارات متبادلة, فقد زار العقيد معمر القذافي العراق عدة مرات, في تلك الفترة, وكانت علاقته جيدة بالرئيس البكر, ولكنها لم تكن كذلك, مع نائبه؛ صدام حسين.
كما ذكرتُ في مقالي السابق, بدأت القيادة الليبية, بمراجعة موقفها من دعمها لإيران, ابتداءاً من عام ١٩٨٦. وفي مطلع عام ١٩٨٧, عُقد في الكويت مؤتمر القمة الإسلامي الخامس, والذي حضره القذافي, حيث أدلى بتصريحات للصحافة الكويتية, والتي كانت مؤيدة للعراق بقوة, فيها تراجع ملحوظ عن مواقفه السابقة المؤيدة لنظام خميني. ويومها كانت تدور في شرق البصرة, أعنف معارك حربنا مع إيران, وأطولها وأقساها؛ معركة الحصاد الأكبر, والتي كسرت ظهر الإيرانيين المعتدين, وحصدت عشرات الآلاف من رؤوسهم العفنة, التي أينعت و حان قطافها.
في تلك الأثناء, زار الدكتور فاضل البراك مدير جهاز المخابرات, ليبيا؛ مرتين, التقى خلالهما بالعقيد القذافي. والدكتور فاضل البراك, اضافة لاختصاصه وخبرته الأمنية الكبيرة, هو أيضاَ, سياسي ذكي ومحنك, وضليع في التاريخ, ويمتلك قدرة على الحوار والإقناع, معزّزة بثقافة موسوعية. ففي مؤلفه القيّم؛(استراتيجية الأمن القومي.. آراء وأفكار), قدّم فيه تحليلاً ممتازاً لما تشكّله إيران من خطر على العراق والأمة العربية, عبر خمسة آلاف سنة من الصراع العنيف والممتد, وألحقه بجداول للاعتداءات الإيرانية على العراق خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن. وقد نجح في إقناع القذاقي بفكِّ تحالفه مع النظام الإيراني المعادي للعروبة والإسلام.
عادت العلاقات إلى طبيعتها واستأنفت السفارات أعمالها, وانقشعت الغيمة السوداء التي خيّمت على علاقتهما في السنين الماضيات, وتلقى الرئيس صدام حسين, اتصالاً من العقيد معمر القذافي, هنأه فيه بالنصر العراقي العظيم في ٨-٨-١٩٨٨, و الذي تحقق بجهاد العراقيين وصبرهم وتضحياتهم, والذي كان خاتمته المسك, تحرير الفاو في عملية؛(رمضان المبارك), ثم تبعتها معارك التحرير الكبرى الخمس, والتي انتهت بتحرير كامل أرضنا من رجس الفرس المجوس, وتجرّع دجالهم(خميني),(كأس السم), كما وصفه هو بعظمة لسانه, شعوراً منه بمرارة الهزيمة التي ذاقها على يد صناديد العراق النشامى.
كان العراق يتطلع لزيارة يقوم بها القذافي لبغداد, اسوة بعدد كبير من الزعماء العرب الذين توافدوا عليها, مهنئين شعب العراق وقيادته بالنصر الناجز, الذي لم تذقه الأمة العربية والإسلامية, منذ قرون عددا. وقد تأخرت تلك الزيارة قليلاً, ولكنها جاءت على أيِّ حال في النهاية, وكانت بمناسبة عقد القمة العربية الاستثنائية في بغداد في ٢٨ أيار ١٩٩٠, تلك القمة التاريخية التي حضرها معظم الملوك والرؤساء والأمراء العرب بشخوصهم, وتخلّف عنها النظام السوري المنبوذ.
كان الرئيس الليبي آخر الواصلين, فقد تأخّر في دمشق وهو في طريقه إلى بغداد, محاولاً اقناع حافظ أسد بحضور القمة, ولكن الأخير أبى ورفض, رغم إن العراق كان قد وجّه له دعوة رسمية, برسالة شخصية من الرئيس صدام حسين, حملها إليه وزير العدل العراقي؛ أكرم عبد القادر, وبأن الرئيس السوري سوف يحظى بكامل الاحترام كأيّ رئيس عربي, إذا حضر القمة, ولكن؛(ذيل الكلب عمره ما يتعدل), كما يقول المثل الشعبي, فكيف لربيب الفرس, أن يزور بغداد.. بغداد؛ التي حطّمت رؤوس المعتدين الخاوية, إلاّ من الشرّ, وقبرت أطماعهم, وإن إلى حين.
كانت الجلسة الافتتاحية للقمة على وشك أن تبدأ في قصر المؤتمرات الذي شُيّد عام ١٩٨٢, عندما وصلت طائرة الرئيس الليبي أجواء بغداد, فخفَّ الرئيس صدام حسين ونائبه عزت الدوري وعدد كبير من أركان الدولة العراقية, لاستقباله بعد غياب طويل عن بغداد, وتقرّر إجراء مراسم الاستقبال في مطار المثنى لقربه من مقر انعقاد المؤتمر, بدلاً من مطار صدام الدولي, البعيد نسبياً, كما جرت العادة.
طلب العقيد معمر القذافي, زيارة مرقد موسى الكاظم في بغداد, والذي يقول؛ إن شجرة نسبه تنتهي إليه. ورافقه في الزيارة؛ الفريق حسين كامل حسن, وهناك فوجئ القذافي بضخامة الاستقبال الجماهيري وحرارته, عكس ما كان يتوقع, رغم إن الزيارة المسائية, قد تمّت على عجل, وبدون اعداد مسبق, حيث كانت الجماهير, تهتف؛ القذافي أهلاً بيك..شعب العراق يحيّيك.
ووفقاً لما رواه؛(حسين كامل), لعدد من ضباط الحرس الجمهوري الخاص, فإن العقيد القذافي, لما رأى جماهير بغداد وهي تتدافع بالمناكب لاستقباله والترحيب به. بغداد التي ضربتها صواريخه قبل خمس سنين, وقتلت عدداً من أهلها, أبدى أسفه على فعلته تلك, وأشار بإصبع الاتهام لحافظ أسد الذي ورّطه في ذلك الموقف المشين, ووصفه بكلماتٍ قاسية !!.
اعتبرت القيادة العراقية موقف القذافي هذا, جيداً, وبمثابة اعتذار منه لشعب العراق. وبذلك طُويت تلك الصفحة السوداء في تاريخ العلاقة بين البلدين الشقيقين.
ومما يجدر التذكير به هنا, في الختام, إن الإيرانيين لم يحفظوا للقذافي (الجميل), الذي أسداه لهم سابقاً. فعند اندلاع ثورة الشعب الليبي في ٢٠١١, تنصّلوا عن دعمه, بل وأظهروا الشماتة بمقتله. فكان جزاؤه, كـ(جزاء سنمار). فهذه هي أخلاق الفرس المجوس ودينهم وديدنهم.. فهل من مُدّكّر؟!!.
الجزء الثالث من المقال :
https://www.algardenia.com/maqalat/52425-2022-01-21-07-50-04.html
1631 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع