د. علي محمد فخرو
كنا في الماضي نعتقد بأن هناك جهتين تؤججان الاختلافات المفتعلة، ومن ثم الصراعات العبثية، بين مكونات أمة العرب. الأولى كانت تتمثل في رجالات السياسة.
فاذا كانوا في الحكم كان تأجيج الاختلافات والصراعات يهدف الى المحافظة على بقائهم في الحكم كحل وسط يمنع تسلط فئة مجتمعية على فئة أخرى. والنتيجة هي بقاء الامتيازات المادية والمعنوية حكرا على رجالات الحكم، يوزعون الفتات منها على الأقارب والأزلام والموالين ويحيلونها الى ثروات هائلة يتوارثونها جيلا بعد جيل. هكذا وجد مجتمع الراعي والرعية المبني على أسطورة الأب المستبد الحكيم الذي بدونه يتصارع الأبناء والذي تحتاجه الأمة لحل صراعات مكوناتها.
الجهة الثانية تمثلت في رجالات الدين. هؤلاء ساهم الكثيرون منهم في تأجيج الخلافات والصراعات المجتمعية من خلال طريقين: الأول بني على ادعاء بأن قراءة معاني الدين وفهم مقاصده وتفصيلات تطبيقاته في الواقع يجب أن يكون حكرا عليهم، «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»؟ سوال حق أجاب البعض عن بالباطل. وكان الباطل هو ممارسة البعض قراءات خيالية عرفانية باطنية غير عقلانية لهذه الآية أو تلك من آيات القرآن الكريم، أو ممارسة وضع وتحريف لألوف الأحاديث النبوية، وذلك كله من أجل دعم مطالب وطموحات هذه الجماعة أو تلك. وكان الباطل هو الباس الفقه، وهو فهم انساني للرسالة الالهية، لباس القدسية ووضع أقنعة تخلف وتزمت وضيق صدر من قبل بعض الفقهاء، وهكذا مزقت الأمة الى جماعات متناحرة باسم القرآن والسنة والفقه.
أما الطريق الثاني فكان استعمال الدين لتبرير ودعم قباحات السياسة، لاقناع الناس بالطاعة العمياء لولي الأمر خوفا من الفتنة المتوهمة، لدعم سياسات هذه السلطة الحاكمة أو تلك، وذلك كله من أجل المال أو الجاه في بلاطات السلاطين. بعض رجالات الدين، بوعي أو بدون وعي، مارسوا اذن ما فعله بعض رجالات السياسة من تأجيج الخلافات والصراعات بصور انتهازية لا حصر لها ولا عد عبر تاريخ هذه الأمة.
اليوم، تنضم الى تلك الجهتين السابقتين جهة ثالثة تتمثل في رجالات الاعلام. انها جهة تمتاز بانتشار وسائلها الواسعة، بعمق وقوة وخطورة وتنوع تأثيراتها في عقول وقلوب وأرواح الناس، وبالتالي بالأضرار الهائلة التي يمكن أن تلحقها بكيان مجتمعات الأمة.
في الماضي كان وجود رجالات الاعلام يتركز في وسائل الاعلام المحتكرة الى حد كبير من قبل سلطات الحكم. لقد كانت مهمتهم تكاد تقتصر على تلميع صورة الحكم وكيل المديح لسياساته وذم أعدائه. وكنا نشتكي من قلة وسائل الاعلام غير الحكومية.
اليوم انقلبت الصورة، اذ ليست الشكوى فقط من كثرتها وتوفرها في يد كل سوقي ودجال وصاحب مصلحة خاصة، وانما أصبحت الشكوى مضاعفة بسبب عدم اقتصار أغلبها على مدح الحكم وتلميع صورته، ففي ذلك مضار مجتمعية محدودة، وانما لأنها أصبحت أيضا أحد أهم وسائل تمزيق المجتمعات وتفتيتها من خلال تأجيج الخلافات والصراعات بوسائل وكلمات وترميزات وايحاءات شيطانية مليئة بالحقارات والابتذال.
بعد محنة بعض رجالات السياسة والدين نواجه اليوم محنة بعض رجالات الاعلام. انها محنة انخراطهم اليومي، بدون عقل أوضمير، في تأجيج صراع مذهبي سني شيعي عبثي من أجل توازنات اقليمية ومصالح سياسية لهذه الجماعة وتلك. انها محنة قبولهم لأن يكونوا أدوات حملات اقصاء أو اجتثاث أو تشويه ظالم لهذه الجماعة أو لتلك الشخصية وذلك من أجل تبرير ممارسات غير ديموقراطية وغير عادلة ترتكبها هذه السلطة أو تلك. انها في محنة السير، بقصد أو بدون قصد، في ركاب المشاريع الصهيونية الامبريالية لتمزيق هذه الأمة على أسس عرقية ودينية ومذهبية من جهة وللتشكيك في رابطة العروبة الموحدة وفي امكانية الوحدة العربية حتى تبقى أمتنا أمة مجزأة ضعيفة غير قابلة للنهوض الحضاري من جهة أخرى. وفي فترة الربيع العربي الأخيرة في تشوية وحرف الثورات والحراكات والصاق التهم بشبابها وذلك من أجل منع أي تغيير مجتمعي جاد.
وفي سبيل انجاح أهداف التمزيق واذكاء الصراعات الفرعية وتشوية الثورات والحراكات تلك تستعمل أساليب اعلامية ملتوية. فهناك أسلوب طمس الكلمات، اذ تصبح الثورات شغبا والمطالب العادلة شروطا غير واقعية وتعجيزية والمظاهرات السلمية عنفا والدفاع عن النفس ارهابا والوحدة العربية مراهقة سياسية والعدالة الاجتماعية مؤامرة على الاقتصاد وطردا للاستثمارات.
وهناك البرامج الحوارية التي تدفع بالمشاهد أو السامع لأن يختار بين أن يكون «مع أو» ضد «واقناعه باستحالة التوافق بين وجهات النظر. وهناك اسلوب انتقاء الأحداث وتضخيمها واستعمالها بانتهازية للتدليل على أن هذه الأمة مصابة بأمراض الاختلافات والصراعات الدائمة وبالتالي لا تستطيع ممارسة الديموقراطية. وهناك بنــــاء مشاعر الهروب من المشاكل والاستسلام من مثل عبثية الصراع الــــــــعربي الصهيوني وعدم القدرة على الخروج من النفوذ الأجنبي وهزلية كل تفكير وفعل توحيدي لهذه الأمة. وهناك أيضا ادخال المواطن في عوالم التسلية البليدة والثقافة المسطحة من أجل نسيان كل ثوابت الأمة وكل مطالب الناس العادلة.
من خلال استعمال فاحش مقيت للسياسة والدين والاعلام يريد البعض ابقاء هذه الأمة في جحيم الضعف والتخلف.
776 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع