" الحانات، القيان، الملاهي، البارات والنوادي الليلية، اماكن للترفيه بين الامس واليوم"
تؤكد التنقيببات والدراسات الإثارية أن الخمور بأنواعها وجدت قديما في حضارات بلاد الرافدين، حيث تم كتابة اول وصفة في التأريخ لصنع البيرة في العهد السومري، و اشتهر السومريين بصناعة النبيذ من خلال تخمير العنب، كما اشتهروا بتعتيقه، ورد ذكر النبيذ في ملحمة جلكامش الشهير في الفصل الذي يلتقي فيه الملك بصاحبة الحانة سيدوري، في أسطورتنا القديمة، السيدة سيدوري، آلهة النبيذ، آوت كلكامش، ملك أوروك، وساعدته في الاسترخاء، بكأس من النبيذ، وأن يكف عن أحلامه الخطرة، فمضى كلكامش في رحلته أكثر يقيناً، بعد نبيذ سيدوري، من البحث عن عشبة الخلود، ومنها انشأت الحانات واماكن شرب الخمر.
وفي عصر الجاهلية وسط مجتمع فيه الحياة على وتيرة واحدة، والفراغ فيه أكثر من العمل، ومرافق اللهو والتسلية قليلة أو معدومة، والفقر فيه أكثر من الغنى، وتشغيل الفكر محدود ضيق، كان لابد وأن يقبل الناس على قتل فراغهم بالبحث عن شيء ينسيهم فراغهم وفقرهم وشدة حاجتهم، ويلهيهم عن قساوة الطبيعة عليهم، ويبعث فيهم الأمل والطرب والنشوة، فلجأوا إلى الخمر، وكما يقول المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب"، بأنها كانت تعزز الشعور لديهم، متشهدًا ببيت حسان بن ثابت، الذي وصف حال شاربها بأنهما تجعلهم "سادة ملَكوا الدنيا"، وأن كلَّ واحد منهم هو "رب الخورنق والسدير"، وكانت الخمارات في اغلب التجمعات.
انتشر الترف والغنى في العصر الأموي، وتهافت الناس على متع الحياة، وكان للخمر في مجالس الحجاز والشام والعراق مكان مرموق، وصارت مجالسه الخمرية يضرب بها المثل، وخمرياته في الشعر، تعدّ أيقونة العصر الأموي، حتى أن البعض يعده أول من فتح باب الشعر الخمري، ومن أبياته الشهيرة، قوله:
أدِر الكأس يمينًا ولا تُدرها ليسار... اسقِ هذا ثمّ هذا صاحب العود النضار
من كميت عتّقوها... منذ دهرٍ في جرار.
وفي العصر العباسي الذي شهد أجمل الأزمان وأسوأ الأزمان، ظهرت فيه النهضة العلمية، والعلماء، والفقهاء، وأصحاب المنطق، وأئمة الطب، وكبار الموسيقيين، وكان فيه شعراء نابهون كأبى تمام، والبحتري، وابي نؤاس، وابن المعتز، وابن الرومي، وأبي العتاهية، والعتابي، والعباس ابن الاحنف،
وفيه اشتهرشرب الخمر والحانات، أما المتحرجون من شرب النبيذ والسكر علانية فكان يشربونه في بيوتهم وكانوا في أغلبهم من نخبة المجتمع والطبقة المثقفة، منهم المحدثون والنحويون، وذكر ياقوت الحموي أن بعض القضاة كانوا ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده ليلتين في الأسبوع، ومنهم القاضي التنوخي و ابن معروف وابن قريعة، ونقرأ في معجم الأدباء عن هؤلاء ما يلي: وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذَّ السماع و أخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، و وضع في يد كل منهم طاس من الذهب بألف مثقال، مملوءا شرابا "قطربليا " نسبة الى مدينة قطربل على نهر دجلة و موقعها قريب من موقع الكاظمية في بغداد اليوم واسمها البابلي القديم هو "قطر بعل" و"عكبريا "نسبة الى مدينة عكبراء قرب سامراء، فيغمس لحيته، فينقعها حتى تتشرب أكثره ثم يرش بعضهم على بعض ويرقصون بأجمعهم، وعليهم المصبغات و مخانق البرم "عقود وشدات من زهور البرم ذي الرائحة الزكية النفاذة كانوا يتزينون بها"، أما علي بن عبد العزيز أحد كبار موظفي دار الخلافة، فقد كان يتباهى بأنه يستطيع أن يشرب ستة أرطال من نبيذ الخندريس دون أن يسكر ويسقط منهارا.
نشأت الحانات او الخمارات مع تأسيس ونشوء بغداد وخاصة في محلة باب الكرخ ثم انتشرت في البساتين المحيطة بالمدينة، فقد كانت حانات الخمر، ليس فقط لبيع الخمور وشربها، بل كانت كذلك تقدم المتعة والفحشاء لمرتاديها، وقد ترك لنا المجان من الشعراء وصفا دقيقا لما كان يدور فى تلك الحانات، ومن هؤلاء الشعراء أبو الهندى وأبو نواس ومسلم بن الوليد وأبو الشيعي.
تطورت الموسيقى وتطور اسلوب الغناء، حيث تعددت الوان الغناء الذي كان على ضروب مختلفة كالغناء المنفرد، والغناء المصحوب بالجوقة، والغناء المصحوب بالرقص، كما تعرضت للآلات الموسيقية، التي استخدمها اهل ذلك العصر بأشكالها واصولها المختلفة، ولذلك اتجه اهتمام العباسيين الى تعليم الجواري والإماء وهن من أجناس وثقافات متعدّدة وحضارات مختلقة، فأثرن آثاراً واسعة في أبنائهن ومحيطهن، وجرى توجييهن الى ترديد الشعر وحفظه والى الغناء الأمر الذي ادى الى انتشاره، وكان الناس في المجتمع العباسي يعشقون الغناء العذب، فقد اقترنت موسيقى الطرب عندهم برقة عواطفهم وخلجات نفوسهم، حتى غدت نعيمهم المفضل، تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون سحر الألحان بالدموع، فشهد انطلاقة الخمر المقرونة بالغناء والرقص، ووصل الغناء والطرب قمته، و أشتهر "القيان"، فالقيان صنف مخصوص من الجواري بمواصفات معينة من الجنس والصفة والعمل فالقينة بهذا التحديد هي الجارية المولّدة المختصة بالغناء، فكان للقيان في العصر العباسي الشأن العظيم والمنزلة العليا، وقد ساعد ذلك ظروف عديدة ابرزها، ميل الخلفاء الى الترف واقبالهم على سماع الغناء والشرب واللهو، شاركهم علية القوم، والشعراء، والأدباء، واغلبهم يسمرون، ويغنون، وتيسر لهم فيها كل أسباب المتعة حلالها وحرامها، ،
فمجالس القيان كانت منتشرة فى بغداد والبصرة والكوفة يتكسب منها القائمون عليها، فهم يختارون الفتيات الجميلات النابهات، ويدربوهن، ويعلموهن الغناء، والضرب على العيدان والمعازف، وقرض الشعر، ونصب الشباك لمرتادى بيوتهن، القينة لا تكاد تخلص في عشقها، أو تناصح في ودها، لأنها مجبولة على نصب الحبالات والشراك للمتربطين ليقعوا في أنشوطتها. ذلك لأن حبهن كلهن كذوب، وعشقهن متبدل غير ثابت، فهو لطمع وغرض، ولذا كن يقصدن أهل النشب واليسار، ويصدفن عن ذوي الإقتار، وكان من عادة القينة إذا رأت في مجلس فتى له غنى وكثرة مال وحسن حال، أن تميل إليه لتخدعه؛ فتمنحه بادئ بدء نظرها، وغمزته بطرفها، وأشارت إليه بكفها، وداعبته بالتبسم، وغازلته بأشعار الغناء، فغنت على كاساته، ومالت إلى مرضاته، ثم تظهر الشوق إلى طول مكثه، والميل إلى سرعة عوده؛ حتى توقع المسكين في حبالها، وتعلق قلبه بحبها، وتطعمه في قربها ثم تحزن لزواجه، وتبكي لفراقه، وتكاتبه تشكو إليه هواها، وتقسم له إنه ضميرها في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحداً على هواه، ولا تنوي انحرافاً عنه؛ ثم تعزز ذلك بالرسل، وتخبره عن سهرها، وتنبئه عن فكرها، وتشكو إليها القلق، وتخبره بالأرق، وتبعث إليه بخاتمها وفضلة من شعرها، وقلامة من ظفرها، وقطعة من مسواكها، ولبان قد جعلته عوضا من قبلتها، وكتاب قد نمقته بظرفها، ونقطت عليه قطرات من دمعها، وضمنته الشوق والشكوى، وسألته المواتاة على حبها.
يحوى كتاب الأغانى سيرة الكثير من القيان، وأسماءهن، وأخبارهن، بل إن أبا الفرج صاحب كتاب الأغانى المشهور كان قد ألف كتاباً كاملاً عن القيان، كما للجاحظ رسالة تسمى رسالة القيان كشف فيها عن الفساد الذى كان يرتكب فى مجالسهن، وحلل ما يجرى وسوء عواقبه على المجتمع تحليلاً اجتماعياً دقيقاً، ويقول الجاحظ إن القينة كانت" تعرِفُ كلّ ما يُحبِّبُ الرجلَ بها وكلّ ما يثير شهوتهن.
كان من اسماء القيان المعروفات: عارية وشارية وبذل وبصبص ودقاق ودنانير وذات الخال وسلامة الزرقاء وعاتكة بنت شهدة وعبيدة الطنبورية وعلية بنت المهدي وفريدة وقلم الصالحية ومتيم الشامية ومحبوبة وغيرهن من قيان بغداد.
يطارح الشعراء القيان الشعر، وإجازة أبياته، لعل أدق وصف لبيوت القيان ذلك الذى تركه لنا الشاعر على بن الجهم الذى كان يرتاد واحداً من تلك البيوت فى بغداد يسمى "بيت المفضل"، نسبة إلى صاحبه، اذ قال:
نزلنا بباب الكرخ أطيب منزل... على محسنات من قيان المفضل
فلابن سريح والغريض ومعبد... بدائع أسماعنا لم تبدل
وقينات بغداد في العصور العباسية المختلفة، لم يكن حصراً على قصور الخلافة والأمراء، بل تعدى الأمر ذلك الى حارات بغداد وضواحيها ومنها محلة الشماسية في الاعظمية والتي انتشر فيها اماكن للشرب واللهو، إذ تحول المُقينون في كرخ بغداد والبصرة والكوفة بدورهم إلى حانات كبيرة للشرب، وكان الشعراء يؤمونها للشراب على غناء القيان وضرب الطبول والدفوف اغلبها في العشق والصبوة والشوق، وكانت البساتين في ضواحي بغداد تمتلئ بالحانات، وكذلك بيوت الخمارينَ اليهود كانت كرنفالاتٍ حافلةً بالطرب والمتعة، وكذلك ايضاً كانت الأديرة والمشهورة منها: دير حنة، دير زكى، دير الشياطين، دير الأعلى، دير مران، ودير البيعتين، تقدم لروادها الخمر المعتقة، وقد استحالت قاعات شرابها إلى مجتمعات لطلب الخمر وسماع الاغاني والتي كانت متناثرة في ضواحي بغداد، كما ان الكثير من دور الشعراء أنفسهم في بغداد تحولت إلى مقاصف للهو والعبث على نحو دار بشار وأبي نواس، فالشعراء يذكرون سكرها ونشوتها ورهبانها من مثل قول أبي نواس:
يا دير حنّة من ذات الأُكيراح من يصحُ عنك فإني لست بالصاحي
رأيتُ فيك ظباء لا قرون لها يلعـبن منـا بألــبــاب وأرواح.
كان الفنانون من المطربين: ابراهيم الموصلي، زرياب، عثعث، سليمان الطبال، ابن القصار، وابراهيم بن المهدي، ومن الموصفات بجودة الغناء: شارية، نجلة، تركية، فريدة، الخرعوبة، عريب، زادمهر، صلفة، بنت حسّون، خلوب، درّة، ومن الملحنين: إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، وزرياب (علي بن نافع)، وكان ابراهيم الموصلي ابرز المغنين يومذاك، يمتلك صوتا عذبا في الغناء، تتهاوى الجماهير عليه و تبكي لجمال غنائه ورقته، فأما حانات الخمر فقد كانت ليس فقط لبيع الخمور وشربها، بل كانت كذلك تقدم الأنس بكل انواعه لمرتاديها، انحدرت الدولة وتزعزع كيانها بعد الغزو الهولاكي لبغداد، فانحدر معها فن القيان والغناء وتدهور.
في العصر العثماني افتقدت بغداد للحانات والطرب والقيان، وعند اواخر العهد العثماني عام 1908، وفي زمن عثمان باشا ومحمود باشا، انطلقت الحريات العامة، ابدل مفهوم بيوت القيان التي كانت عامرة ايام العهد العباسي والتي كانت تعتمد على الجواري، فظهرت الملاهي والمراقص والجوقات الموسيقية، وتحول العديد من المقاهي الى ملاه ليلية، وهي شكل من اشكال الترفيه والتسلية، يضم، الغناء، الرقص والفن والاستعراض، هي بيوت الليل، واستبدلت الجواري بالمتعاقدات عربيات واجانب يجيدون الغناء والرقص، فأخذ محبي الغناء يهوى سماع مختلف أصوات العربيات والأجنبيات ومشاهدتهن، وانتشرت في بغداد، الموصل، البصرة، فكانت منهن الشاميات والحلبيات وأشتهرت منهن "طيره"، لكن أظرفهن "فريدة ستيتية"، وقد كانت الراقصة بديعة عطش من احلى الراقصات اللواتي قدمن الى بغداد، وهي التي قال فيها الشاعر محمد مهدي الجواهري قصيدته الغزلية الشهيرة التي مطلعها:
... لاتحذري لقوامك القصفا.'هزي بنصفك وأتركي نصفا
حتى أن شاعر العراق معروف الرصافي بعد ان عاد من أسطنبول عام 1909 وجد انتشار اللهو والملاهي في بغداد فانتقد الحال في قصيدته الشهيرة بغداد بعد الدستور ومطلعها:
أرى بغداد تسبح في الملاهي... وتعبث بالأوامر والنواهي
كانت الملاهي مقصدا لأفراد الطبقة الوسطى من سياسيين وعسكريين ومثقفين وتجار وادباء واصحاب المهن وحتى العابثين للاستمتاع بوقت لطيف في الليل، أهم ما تقدّمه هذه الملاهي للزبون هو عنايتها به وإشعارها إياه بطرق مختلفة بأنه أهم شخص في المكان، وقد أشتهر في تلك الفترة عام 1907 مقهى "سبع" في الميدان، واشتهرت فيها الراقصة "رحلو جرادة"،
كما شيدت بلدية بغداد عام 1913 مسرحا للرقص والغناء ترفيها لسكان بغداد، فكان موقعه غربي بغداد، فقد اشتهرت في هذا الملهى "بديعة لاطي وأختها خانم لاطي"، ثم أنشئ "حسن صفو" في سوق الشورجة ملهى أخر بأسم "قهوة الشط" واشتهرت المغنية "وزة نومة" وأختها "ليلو نومة" والراقصة "هيلة"، أما في مقهى "طويق" في الرصافة فقد اشتهرت الراقصة "ألن التركية" والراقصة "ماريكة دمتري" والدة المطربة عفيفة اسكندر، وشاعت في بغداد بعد الاحتلال البريطاني عام1917 ظهور مختلف الملاهي بشكل متزايد، كصالات لتقديم مزيج من التسلية يجمع بين الرقص والأغاني الخفيفة وبعض من العروض الاستعراضية، بشكل م، منها الملاهي الشرقية المختصة بالرقص الشرقي والغناء، والملاهي الغربية المختصة بالرقص الغربي، او كليهما، فالشخوص الفنية اليهودية دور في اشاعة الموسيقى والغناء، فأغلب عازفي "الجالغي البغدادي" المرافقين لقراء المقام العراقي وهو الغناءالبغدادي العريق واللون الشائع آنذاك كان معظمهم من اليهود، حيث تبدأ السهرة من الساعة الثامنة مساءً ، ومن هذه الملاهي:
"الهلال بادارة الفنانة سليمة مراد، والجواهري بادارة الفنانة خزنة ابراهيم، ونزهت البدور بادارة الفنانة سلطانة يوسف، والاوبرا بادارة الفنانة زكية جورج، والفارابي بادارة الفنانة صبري حسين"، وملهى المنير بادارة الفنانة منيرة الهوزوز، وللاجانب ملاهي، "ماجستيك، والكيت كات"، وكانت متوزعة حول محلة الميدان ورأس القرية، وقرب جسر مود، في ملهى الجواهري، تجد فنانات من كل جنس ولون، منهن العراقية والمصرية والسورية واللبنانية والسودانية، وما ان تدق الساعة العاشرة حتى يفتتح البرنامج "الفني" بمونولوجات من الفنانة صبيحة سالم وتعقبها مونولوجست تشابهها من حيث السن والشكل و.. وتقف المطربة سليمة مراد، في غناء جميل، و ترقص الفنانة ليلى زائد، وبعدها تغني المطربة السورية مفيدة حموي، وهي مطربة سورية معروفة، ،
وفي ملهى روكسي الصيفي في شارع الرشيد، الذي يعتبر من افخم ملاهي بغداد وتعمل فيه مجموعة من راقصات يونانيات ورومانيات وغجريات، اما البرنامج الشرقي فيقوم على الاغاني التي تقدمها السيدة تغريد الصغيرة بمعاونة السيد فلمون وهبه والموسيقي الفلسطيني جميل قشطة، فيقدمون برنامجاً شرقياً لا تجده في أي ملهى غير الروكسي، ويشرف على ادارة هذا الملهى السيد عبد الجبار السبع وزوجته السيدة بهية أمير، وفي منتصف شارع ابو نؤاس يتربع ملهى هافانا وسط حديقة جميلة تؤمها طبقة راقية من الرواد لقضاء سهرة جميلة ممتعة بين الاشجار والازهار وصوت فتاة دمشق،
كما غنت الفنانة القديرة عفيفة اسكندر في أرقى ملاهي العاصمة حينها مثل ملهى "الجواهري" و"الهلال" و"عبد الله" و"براديز"، كما اشتهرت كل من "صديقة الملاية وجليلة أم سامي وبدرية أنور".
ظلت هذه الملاهي تعمل حتى عام 1940 فقد أمرت أمانة عاصمة بغداد بنقل هذه الملاهي الى مناطق اخرى من بغداد، اوفدت الحكومة العراقية بامر من الفريق بكر صدقي امين العاصمة ارشد العمري الى اوربا لاستيراد عازفين وراقصات للعمل في ملاهي بغداد لتثقيف الناس واعطاء العاصمة بعضاً من الاجواء المتحضرة، ارتكزت الملاهي بشكل كبير في شارع الرشيد الباب وشارع ابي نؤاس والعرصات وقناة الجيش وبمحيط شارع السعدون، كما كانت تتخذ من منطقة الكرادة ارتكازًا جديدًا لها مستهدفة طبقة اجتماعية معينة، كانت المشاجرات داخلها وبين روادها أمر معتاد، لذلك فإن معظمها تستعين بحراس شخصيين لحماية المكان والعاملين فيه.
ان ليل بغداد له وقع جميل في نفوس التمتع به، ويتسع لحشد من السهرانين الباحثين عن لذتهم كل على طريقته، اوالغارقين تحت ضغوط الحياة، والذين لا يجدون مكاناً لضحكاتهم في مشهد لا يمكن أن يعيشه خارج جدران الملهى يشبع كل أحاسيس العظمة واستعراض الذات، فازداد عدد الملاهي التي تستوعبهم، والتي لا تقفل أبوابها قبل الفجر منها " ملهى عبد الله، ملهى سليكت،ملهى أبي نؤاس، ملهى شهرزاد، ملهى أريزونا، ملهى ليالي الصفا، الطاحونة الحمراء والامباسي" في مشهد لا يمكن أن يعيشه خارج جدران الملهى.
في نهاية الاربعينات ايام العهد الملكي صوت مجلس النواب، من اجل اغلاق الملاهي وبارات الخمر والنوادي الليلية، فلم تمتثل الحكومة التي كان الباشا نوري السعيد يترأسها،
وجادلهم السعيد في عدة جلسات للعدول عن مثل تصويت كهذا، فلم يوافقوه، فقام بدعوة النواب الى داره لتناول طعام العشاء مع تقديم المشروبا لمن يرغب، وامر من يقوم على خدمتهم بغلق جميع التواليتات والمرافق الصحية والحمامات، وحين اراد النواب الذهاب الى الحمامات وجدوها مقفلة، هذا بعد سمر طال امده، واحتج نوري السعيد بشتى الحجج عن غلق حمامات قصره، فماكان من النواب الا استخدام حديقة القصر لقضاء حاجاتهم، فدبت الفوضى والروائح الكريهة والمناظر غير السارة، وحين عاد النواب من الاعيان والشيوخ، الحوا على نوري السعيد لمعرفة سبب هذا التصرف، فقال: انتم تريدون اغلاق النوادي الليلية والمراقص والملاهي، وحين تغلق سيفعل الناس مافعلتم، ستمتلئ الشوارع والازقة والمناطق السكنية بمن يريد ان يمارس ماتملي غريزته وسيصبح (الميدان) في كل المناطق وستكون المشارب الطرق والجزرات الوسطية، فلماذا لاتدعون الامر مقننا وله اماكن يرتادها روادها، حينها اقتنع النواب والغوا تصويتهم على القرار.
من الملاهي المشهورة" الطاحونة الحمراء" المكان الذي أحيى فيه نجم الاغنية الغربية في السبعينات ديمس روسسز عدة حفلات، وغنى فيها لاول مرة اغنيته المشهورة far away ، ما يزال منفتحا على فنون الاستعراض الغنائية والراقصة، فثمة فرق من فرنسا واليونان والارجنتين والنمسا كانت تقدم أشكالا استعراضية راقية تجمع الموسيقى بالرقص الحديث، بعض من اللوجات امكان محجوزة لعوائل بغدادية راقية كانت تحضر لمشاعدة تلك العروض وفنونها.
في الستينات والسبعينات وما تلاها من القرن العشرين، كانت بغداد زاخرة بالحانات والنوادي الخاصة بفئات الموظفين وذوي المهن منهم الاطباء والمهندسين والصيادلة والجيولوجين والزراعيين، و الشعراء والكتّاب والصحفيين، البعض يحمل إليها أيضاً أقلامهم ودفاترهم لتدوين فكرة او شعرا عند الانتشاء، والعمال حيث كانت حانة نقاباتهم من أجمل الحانات، لامتداد مساحتها وكثرة الظلال الشجرية والمساحات المزروعة بالأعشاب وشتائل الورد، ونوادي خاصة بالمسيحيين، لكنها تستقبل الناس من جميع الفئات، الحانات منتشرة في شوارع السعدون والخيام والنضال وأبي نواس، وهي حانات ذات الطراز الحديث تتميز بديكورها الجديد وإضاءتها الخافتة، وهي لا تقدم غير البيرة العراقية والاجنبية، وكان جميع روادها يقدمون بلهفة على البيرة العراقية ذات المواصفات الممتازة، بالنوعية المتوافقة مع شروط عالمية راقية، كبيرة "فريدة" و"لاكر الذهبي" و"شهرزاد" و"أمستل"، والكل منتشي وسعيد بكأسها وسماع موسيقاها، الحصيلة أكثر من خمسين حانة، بعض هذه الحانات مخصص لقضاء ليلة هادئة، يمكنك الاستمتاع فيها بموسيقى لطيفة، وحديثٍ خفيف مع شريكك، أو الجلوس إلى منضدة الساقي إن كنت تهوى الوحدة، بعضها صغير على نحو يكفي ليكون كل من في الحانة ساهراً معك، وهناك حانات صغيرة منتشرة في الباب الشرقي، وهي بسيطة وشعبية تضم فئات الكسبة والعاطلين والعاطلين والمتقاعدين، بعض الحانات كانت في أزقة صغيرة من الكرادة والباب الشرقي، وطريق بغداد الجديدة، في مناطق الأمين والبلديات وكمب الأرمن والأشوريين وباب المعظم والوزيرية، واهم البارات هي فيتامين والكاردينيا والركن الهاديء وسرجون و21...
شهد خمسينات القرن تطوراً كبيرًا ببناء فندق الخيام في نهاية شارع الرشيد من طرف الباب الشرقي وفندق السفير بداية شارع ابو النواس وكان يسمي الامباسدور وفندق بغداد بداية شارع السعدون،
وفي نهاية السبعينات كانت القفزة الكبرى في انشاء فنادق كبرى في بغداد وهي فنادق بابل في الكرادة والرشيد والمنصور في الكرخ وعشتار شيراتون وفلسطين ميريديان في العلوية وتم انشاء فنادق اخرى منها برج بغداد ودار السلام والبجعة وابي النواس وسواها من الفنادق الأخرى، واغلبها تحوي على حانات و نوادي ليلية تحوي برامج غنائية يقدمها مطربون ومطربات منهم رياض احمد وسعدون جابر وحميد منصور وفاضل عواد وياس خضر وغيرهم الكثير، وكانت ليلينا في فندق بغداد لها جمهوركبير وفيه غنى المطرب العالمي سامي كلارك وفرقة بوني ام..
في عام 1994، اصدرت الدولة قراراً متضمنا منع بيع وتناول المشروبات الكحولية في النوادي؛ والفنادق؛ والمطاعم؛ والمرافق السياحية. ونصت تعليمات قرار رقم (82 لسنة 1994) على منع بيع المشروبات الكحولية بأنواعها كافة في كل من (أ – النوادي الاجتماعية. ب – نوادي الجمعيات. والنقابات والاتحادات. ج – الفنادق والمطاعم والمرافق السياحية الأخرى) ويتولى المحافظون مهمة تنفيذ غلق المحلات التالية: (أ – الملاهي. ب – صالات الرقص. ج – النوادي الليلية، جاء هذا القرار مع "الحملة الايمانية"، "انتقدت صحيفته بابل البرنامج بحجة أن هذه الحملة من شأنها أن تقوض المجتمع الديني التعددي للعراق، وتشجيع التقسيم الطائفي، مما سيقوض العراق". هذا القرار كان اما ارتجالياً او تجريبياً، فقد تناسى القرار ان مجتمعنا ليس ملائكياً فهناك ميول ورغبات تختلف عن ما نرغبه نحن والارغام والمنع ليس طريقا لمواجهة هذه الحالة، والتي يجب احترامها في ظل التنوع الديني والثقافي للمجتمع العراقي، كما انه تعدي على الحريات الإنسانية والفردية وهكذا، وكل هؤلاء سوف يتوجهون الى ممارسات ما كانوا يمارسونه لكن بشكل خفي في البيوت وفي السيارات، مما فتح الباب على تنامي ظاهرة تعاطي المخدرات والتي هي اخطر من الخمور ، وشجع التوجه نحو الكبسلة التي انتشرت في عموم العراق، وبدلا من ذلك القرار فكان من الاجدى تنظيم عمل أماكن الترفيه ومراقبتها أفضل بكثير من منع الخمور بحجج دينية، وأخلاقية واهية وارساء عدة ضوابط معمول بها في كثير من الدول منها عدم التناول العلني خارج مكان محل الاجازه او النادي ولايجوز التناول العلني في المناطق العامة.
بعد احتلال العراق في نيسان 2003، عمت الفوضى مختلف مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية، وأغلقت المصانع العراقية ومنها مصانع المشروبات الروحية، مصانع البيرة الثلاث "شهرزاد وسنبلة وفريدة"، ومعمل "عرق العصرية" ومصنع "جن أبو جسر"، وأغلقت الميليشيات المسلحة معظم النوادي والبارات ومحلات بيع المشروبات الروحية في العاصمة، بعد أن فجرت بعضها وقتلت العاملين في بعضها الآخر، فاتحة بروز ظاهرة المخدرات التي بقي العراق بمنأى عنها طيلة تاريخه الحديث وانتشرت بسرعة،
وفي عام 2008 جرى ترخيص الملاهي والبارات والمراقص وتخصيص زواج المتعة، وانتشرت الملاهي الليلية والبارات بكثرة في أربع مناطق رئيسة ببغداد، هي المنصور في جانب الكرخ من بغداد، والكرادة والعرصات وأبو نواس بجانب الرصافة من العاصمة العراقية، تقدم معظمها راقصات مثيرات وموسيقى متنوعة ومشروبات كحولية بوفرة، في قاطع الكرادة وحدها 72 ملهى ونادي القسم الاكبر منها في وسط المناطق السكنية، وأصبحت تضاهي إن لم تتفوق على دول رائدة في هذا المجال بعينها، اكثرها ملكا لكبار الساسة من الاسلاميين ورجال الدين وبعض من النواب والضباط، اغلبها لا تخضع للرقابة الصحية والقانونية مما جعلها تشهد الكثير من التجاوزات القانونية والصحية والاجتماعية، ولهذا فالدولة تخلت عن مسؤوليتها في المتابعة والرقابة والمحاسبة وتتهرب من ملاحقة أصحابها بحجة أنهم متنفذون ومتسلطون.
يتوافد اولاد المسؤولين بصورة علنية مع حماياتهم لملاهي الكرادة، وعشرات المراهقين والقاصرين على تلك الملاهي ويشكلون زخما عليها بتواجدهم في منتصف الليالي، يتعاطون حبوب الهلوسة والمخدرات، فيمارسون الرذيلة، والرقص واللهو وكت النقود على الراقصات، وهن في مقتبل العمر ربما ضحية سماسرة الاحزاب الذين يديرون تلك الملاهي.
تقوم الأحزاب الشيعية بحماية "الملاهي" و "البارات" و "القمار" مقابل مبالغ من المال.
تحايل أصحاب الحانات والبارات والملاهي في بغداد على القانون، وسموا حاناتهم وملاهيهم بالمراكز الثقافية والاجتماعية والترفيهية، حيث أضحت الأندية الثقافية والترفيهية للصحفيين والفنانين والإعلاميين والنقابات والأتحادات واجهات للحانات والملاهي.
هذه الصور وتجلياتها تظهر بوضوح في بغداد التي ظلت إلى وقت قريب عاصمة العلم والثقافة والفن والأدب والأصالة، عاصمة الأدباء والعلماء، اهكذا بغداد يعبث بك الفساد في كل مرافقك، بحيث انقلبت بين ليلة وضحايا إلى مكاناً للهو والدعارة والفسوق، وتكثر فيها العناوين البراقة التي تخفي في داخلها أسوء ما يمكن أن يتصوره الإنسان من امتهان الكرامة، وهتك الأعراض، وتنامي العصابات المليشياوية والمخدرات وشبكات الدعارة المنظمة وغيرها، والمخالفات والتجاوزات اليومية على المناطق والطرق والمؤسسات والمباني، والتجاوز على أملاك الدولة وأملاك الآخرين من المواطنين، واخذ الإتاوات من الأسواق والمولات، والذين فتحوا محلات الخمور واللهو والعربدة، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
4790 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع