رمضان بغداد .. صمت "القصخون" وعلا صوت المحيبس (بات)

رووداو ديجيتال:كان "البغادة"، جمع بغدادي باللهجة المحلية، يجتمعون في شهر رمضان بعد الافطار في المقاهي، والمقهى كانت عبارة عن منتدى اجتماعي في كل محلة سكنية، لسماع الحكايات العجيبة والاسطورية التي يقصها عليهم "القصخون".

القصخون ومقاهي بغداد

وحسب المؤرشف والموثق العراقي ضياء الشيخلي:"القصخون كلمة تركية، ويُعرف في الشام باسم بالحكواتي، يُقصد بها قارئ القصص والحكايات ، وهو شخص يتمتع بموهبة كتابة وحفظ قصص عديدة وخيالية عن بطولات عنتر بن شداد وابو زيد الهلالي، مطعمة بحكايات من الف ليلة وليلة، ومشحونة بالمواقف الغريبة وفي مختلف النواحي، اضافة الى انه (القصخون) يكون صاحب موهبة فنية مشوقة في عرض القصص التي يرويها على الحاضرين الجالسين في المقهى المخصصة له ".

يضيف الشيخلي قائلا لشبكة رووداو، في حديثه اليوم الاربعاء، 13 آذار 2024، عن عادات رمضان ايام زمان :"ظهرت هذه المهنة في زمن الحكم العثماني واستمرت خلال فترة الاحتلال البريطاني ، ولغاية فترة الحكم الملكي في بغداد، قبل ان تنتقل الى مدن أخرى .. وتشير بعض المصادر الى انها انتهت في الثلاثيات أو في بداية آربعينات القرن الماضي تقريبا ، وكانت المقهى في ذلك الزمان بمثابة المتنفس الوحيد للرجال".

انتهى عصر "القصخون" مع ظهور بث اول منهاج عام لـ (اذاعة بغداد اللاسلكية) في الاول من شهر تموز 1936، والتي افتتاحها الملك غازي.. كانت قد سبقتها محاولة من الملك غازي الذي أسس إذاعة (قصر الزهور)، وكان يبث فيها آراءه وتعبيره عن حبه للوطن والقومية العربية. وتعد اذاعة بغداد ثاني إذاعة عربية بعد إذاعة صوت القاهرة التي أُسّست عام 1934..وانتشرت تدريجيا اجهزة الراديو في المقاهي وبعض البيوتات في بغداد ثم في باقي مناطق العراق القريبة من العاصمة ..بعد 20 سنة وفي 2 أيار 1952، بدأ التلفزيون العراقي بالبث كأول تلفزيون رسمي في الوطن العربي والشرق الاوسط.

لم يستطع "القصخون" مقاومة التحدي التكنولوجي الجديد(الراديو)، فصمت تماما وغاب وجوده في المقاهي البغدادية خلال شهر رمضان او بقية ايام السنة، ومقابل ذلك استمر صوت لعبة اجتماعية بغدادية تراثية رمضانية اصيلة في المقاهي الشعبية، وهي المحيبس، التي على العكس من"القصخون" تطورت مع تطور التكنولوجيا.


يوضح الموثق والمؤرشف ضياء الشيخلي بان:"لعبة (المحيبس) ماخوذة من التسمية الشعبية للخاتم (محبس)..وهي لعبة قديمة جدا، وتُلعب في المقاهي الشعبية البغدادية، ويُرجع بعضهم تاريخ تلك اللعبة إلى مجلس أحد الخلفاء العباسيين، إذ يُحكى أنها ظهرت بعد إخفاء أحد جلسائه لخاتم الخلافة، وبدء تخمين مكان وجوده، فانتشر الخبر وراق الأمر للكثيرين، فلعبوها ومن ثم انتشرت إلى خارج القصر ببغداد، ويستبعد المؤرخين ان تكون هذه اللعبة تركية جاءت مع العثمانيين، مؤكدين انها بغدادية اصيلة".

ولعبة (المحيبس) رمضانية حصريا اي لا تُلعب الا في ليالي الشهر الفضيل، وهي تُلعب من قبل فريقين، عدد اعضاء الفريق غير محدد، حيث يُعلن في بدايتها عن بيع الخاتم(المحبس) مقابل عدد من النقاط، ثم يقوم قائد احد الفريقين باخفاء المحبس بيد احد اعضاء الفريق ويتحتم على قائد الفريق الآخر ايجاده والفوز بالنقاط التي تحدد مقدما من قبل الفريقين.. وعندما يخطأ في ايجاده يصيح الشخص الذي احتفظ بالخاتم وبصوت عال(بات). وكانت الاغاني الشعبية البغدادية، مثل المربعات التي يؤديها في الغالب الفنان فاضل رشيد، أشهر مغني مربعات بغدادية، تؤدى قبل بدء اللعبة او خلالها وفي ختامها.



التنافس في المحيبس

يوضح الشيخلي قائلا:" كلمة (البات) المستخدمة في اللعبة تعني مبيت المحبس في أيادي الفريق الذي إستطاع الحفاظ عليه وعدم كشفه، أما الرجل الذي يحاول اكتشاف مكانه والذي يدعى بالعامية العراقية (الطاير) الذي يتمتع بموهبة فريدة وفراسة في قراءة عيون المشاركين واكتشاف اضطرابهم في الحفاظ على المحبس لاكتشاف مكان الخاتم وقابليته على اكتشاف بعض اعراض الخوف والقلق التي تظهر على حامله (المحبس) والخوف نابع من ان اكتشاف المحبس في يد حامله ستسبب في خسارة فريقه"، مشيرا الى ان هذه اللعبة التراثية الشعبية: "تعتبر من أشهر المسابقات والجلسات التي يجتمع عليها الرجال في العراق بين فرق المحلات السكنية، واشهرها فرق من محلات: الفضل والشواكة وباب الشيخ في والاعظمية في جانب الرصافة، مع اخرى من الكاظمية والكريمات والعطيفية في جانب الكرخ، حيث تستمر اللعبة في غالب الأحيان حتى موعد السحور بداخل المقاهي الشعبية أو في الشوارع وتنتهي على مبدأ الاحتفاظ بالخاتم إلى حد الوصول إلى مجموعة من النقاط يتم تحديدها مسبقا بتناول الحلويات العراقية (البقلاوة والزلابية) التي يدفع ثمنها عادة الفريق الخاسر".

ينبه الموثق ضياء الشيخلي الى انه:" في ستينيات القرن الماضي صارت تجرى مسابقات وتصفيات في لعبة المحيبس على غرار تصفيات كرة القدم بين مناطق بغداد الشعبية في شهر رمضان، ويتم تكريم الفريق الفائز وكذلك تكريم أفضل اللاعبين عبر لجنة تحكيم مختصة".

اليوم لا تتنافس محلات سكنية بغدادية فيما بينها بلعبة المحيبس بل صارت هناك فرق في جميع محافظات العراق، وفرق اخرى تمثل المحافظات ذاتها للتنافس فيما بينها تماما مثل دوري كرة القدم، وتنظم هذه المنافسات، حسب قوانين وتعليمات جديدة، في قاعات وملاعب رياضية مقفلة، اللجنة المركزية للعبة المحيبس التراثية في العراق برئاسة جاسم الاسود، وهوأبرز لاعبي المحيبس من منطقة الكاظمية ، وأصبح يحظى بحب العراقيين على مدى ربع قرن، بعد أن تربع على بطولة العراق منذ عام 1978 لما يمتلكه من مهارات حسية عالية وفراسة نادرة في العراق فحسب، خاصة عندما نجح في كشف الخاتم من بين ألفي يد لألف شخص في إحدى مباريات فريقه (الكاظمية) أمام فريق بغدادي مشهور وقوي جدًا، وهو فريق الفضل.


لعبة المحيبس انتقلت من العراق الى بعض الدول الخليجية، الكويت خاصة، ولم تعد اليوم مقتصرة على الرجال، إذ تلعبها النساء في جلساتهن الخاصة، ومن يدري قد تظهر فرق نسائية تنافس فرق الرجال وقد تفوز عليهم في المستقبل القريب.

التكنولوجيا منحت للعبة المحيبس ديمومتها إذ صارت مبارياتها تنقل من خلال الفضائيات، وغالبية العراقيين، سواء في داخل البلد او خارجه يتابعونها بشغف، وهي اللعبة التي لم تستطع العاب الكمبيوتر ازاحتها ومنافستها شعبيا حتى اليوم.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1014 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع