مصر - مهد الحضارات وملتقى الارواح- الحلقة الثانية
ما ان انتهيت من زيارة قلعة صلاح الدين حتى اتجهت بمعية المرشد السياحي الى القاهرة الفاطمية وقد كان يدور في راسي أسماء كثيرة سمعتها لكني لم اعرف تفاصيلها عن مدينة القاهرة مثل القاهرة الفاطمية والايوبية والمملوكية، فما هي عاصمة مصر وما تاريخها؟
مدينة القاهرة التي بناها الفاطميين تعتبر رابع وأخر عاصمة إسلامية لمصر, فأول عاصمة إسلامية لمصر قام بتأسيسها القائد العربي عمر بن العاص سنة 60-641م بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب, واطلق عليها اسم الفسطاط وموقعها الان المنطقة التي تضم كل الكنائس والمسجد الذي بناه باسمه وماتزال الكنائس والمسجد قائمة لغاية اليوم وقد تعرضت للتخريب الجزئي خلال الحملة الصليبية على مصر, في سنة 750م قام العباسيين ببناء عاصة جديدة لمصر اطلقوا عليها اسم العسكر وتقع شمال مدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص ولتكون مقرا عسكريا واداريا عباسيا مؤثرا في شمال افريقيا وكانت تضم مساكن لقادة الجيش العباسي والجنود وعوائلهم ومخازن تمويل الجيش العباسي وقد اندمجت هذه المدينة و مدينة الفسطاط مع مرور الزمن , وعند قيام الخليفة العباسي المعتمد على الله بتولية القائد احمد بن طولون ولاية مصر امره ببناء مدينة جديدة فبنى عاصمة جديدة لمصر سماها القطائع وجاء الاسم بسبب قيامه بتوزيع الأراضي على قادته واعوانه على شكل قطع أراضي فسميت القطائع فقاموا ببناء الدور والمتاجر عليها وقد اطلق اسم كل فرقة من فرق جيشه على القطع الكبيرة من تلك القطائع, فأصبحت مركزا اقتصاديا وحضاريا مهما ماتزال الكثير من معالمه موجودة لغاية اليوم واهمها مسجد احمد بن طولون الذي يعتبر من اهم المعالم الإسلامية في القاهرة, واحمد بن طولون مولود في بغداد سنة 835 م من اب تركي وكان والده من الأتراك الذين جلبهم العباسيين للخدمة في الجيش, فالعباسيين أذن قد بنوا عاصمتين لمصر في فترتين مختلفتين لأسباب إدارية وعسكرية هما مدينتي العسكر والقطائع.
في سنة 969 م قام القائد جوهر الصقلي وبأمر الخليفة المعز لدين الله الفاطمي في بناء مدينة القاهرة لتكون عاصمة للفاطميين, وجوهر الصقلي او جوهر الرومي كما كان معروفا في تلك الفترة أصله من الرقيق وقد ولد سنة 911 م في جزيرة صقلية الإيطالية عندما كانت تحت الحكم العربي وبفضل ذكائه فقد تدرج بسرعة في المناصب العسكرية حتى اصبح قائدا للجيش الفاطمي، ويعتقد البعض ان جوهر من الصقالبة وهذا خطأ فادح لان الصقالبة ليسوا الصقليين والصقالبة هم العبيد المأخوذين من اليونان والبوسنة والهرسك والبلقان منذ بداية فترة الحكم العربي في الاندلس.
الفاطميين هم احدى مذاهب الشيعة وهم الإسماعيلية نسبة الى إسماعيل بن الامام جعفر الصادق ويعتبر الإسماعيلية ان الامامة حق الهي مرتبط بالأمام علي بن ابي طالب والسيدة فاطمة الزهراء ولهم تفسيرات باطنية في القران الكريم والاحاديث النبوية وان ال البيت معصومين من الخطأ ولا ذنوب عليهم وان نجاة أرواح أبناء الطائفة الاسماعيلية في يوم القيامة بمعرفة الامام , وقد ظهر في شهر رمضان المبارك الماضي مسلسل الحشاشين الذي يبين جزء من المجتمع الإسماعيلي خلال تلك الفترة وما يزال الكثير من اسرار تلك المرحلة التاريخية مطوية لغاية اليوم, ومن فرق الإسماعيلية البهرة التي تنقسم الى قسمين البهرة الداوودية ومقرهم الهند والباكستان وايران والبهرة السليمانية ومقرهم اليمن ولكل منهما امامه, وقد بنى جوهر الصقلي مدينة القاهرة الفاطمية مكونة من شارعين رئيسيين الاول من الشمال الى الجنوب والثاني من الشرق الى الغرب وطول شارع المعز كيلومتر وربع الكيلو ومساحة القاهرة الفاطمية هي 340 فدان أي ما يعادل 1,420,000 متر مربع وهي شبه مستطيلة الشكل ومحاطة بأسوار وفيها خمسة أبواب بقي من ابوابها ثلاث أبواب فقط الأول اسمه باب الفتوح وهو الخاص بالجيش عندما يخرج للحرب والفتوحات يخرج من ذلك الباب واما الباب الثاني فاسمه باب النصر او باب الوزير ويقع في منطقة باب الشعرية وهذا الباب مخصص لعودة الجيش منتصرا فيدخل من بوابة النصر والباب الثالثة التي ما تزال باقية هي باب زويلة وهي الباب التي كانت مكان الاعدامات الرسمية أيام الفاطميين حيث يعلق عليه رؤوس المعدومين او الأعداء من المغول وغيرهم والشارع الرئيسي في القاهرة الفاطمية هو شارع المعز, والقاهرة الفاطمية يحيط بها سور عظيم ما يزال معظمه قائما تعتبر مدينة ملكية بناها الفاطميين لأنفسهم وغير مسموح لعامة الشعب من المصريين بدخولها لأنها خاصة بالأسرة الحاكمة والامراء والحاشية وقد بنوا فيها مقبرة باسم مقبرة الزعفران لنقل رفاة الفاطميين المتوفين في خارج مصر اليها وقد اختفت المقبرة الان , قد بنى المعز لدين الله في القاهرة قصرا ً سماه القصر الشرقي ويقع في قلب المدينة في منطقة بين القصرين الحالية ثم قام ابنه العزيز ببناء قصر سماه القصر الغربي ويقع بين شارع المعز ومنطقة الجمالية لكن اثار القصرين قد اندثرت مع الزمن , وشارع المعز الموجود في القاهرة الحالية يعتبر من اقدم شوارع مصر لان حجارته مازالت نفسها موجودة منذ زمن الفاطميين ويمشي عليها الناس ولم يحصل عليه أي تعديل.
في بداية بناء القاهرة الفاطمية قاموا بمد حبال عليها أجراس ولحظة المباشرة بالبناء قام الحاكم الفاطمي بتحريك الحبال فأصدرت الاجراس صوتا وذلك إيذانا في بدأ البناء وتم البناء على الحسابات الفلكية التي اجراها (المعز لدين الله الفاطمي) وهو الحاكم الرابع للفاطميين وقد كان فلكيا بارعا وتشبها ً ببناء مدينة بغداد التي تم بنائها تحت برج الأسد فقد انتظر ظهور أول نجم مختلف في السماء لتكون الإشارة له لبدء بناء القاهرة وعند ظهور ذلك النجم الذي كان نجما ً احمرا ً اسمه القاهر وهو المريخ قد اعتبر ذلك شؤما على المدينة وعليه فتداول بالأمر مع أصحابه فاخبروه ان للمريخ عند العرب مكان كبيرة لأنه برج الحرب والهيمنة والقوة القاهرة فاقتنع برايهم و بدء البناء وقد اطلقوا عليها في البداية اسم المنصورية تيمنا بمدينة المنصورية التي كانت عاصمة الفاطميين في تونس وعند دخول المعز لدين الله الى المدينة بعد انشائها اطلق عليها اسم القاهرة وبقي هذا الاسم للمدينة لغاية اليوم, ومدينة القاهرة منذ بنائها الى ان دخلها العثمانيين كان ممنوع الدخول اليها من قبل عامة الناس الا في مواعيد محددة تبدأ من شروق الشمس لغاية غروب الشمس وكانت أبواب المدينة تغلق مع غروب الشمس, وأول مرة ظهرت الواسطة والمحسوبية في مصر كانت من مدينة القاهرة الفاطمية حيث كان الحرس يمنعون أي بائع من دخول المدينة خلال الأوقات الممنوع الدخول اليها الا في حالة واحدة اذا كان البائع يبيع الكوسة لان الكوسة معرضة للتلف السريع فيسمح له الحارس بالدخول بعد ان يعطيه قليلا من النقود كرشوة, ومنذ تلك اللحظة ولغاية اليوم يتم استخدام كلمة كوسة في مصر للدلالة على الواسطة والمحسوبية والرشوة, وقد أستمرت القاهرة الفاطمية عاصمة مصر خلال فترتي الحكم الايوبي وحكم المماليك وبقيت مغلقة امام الناس الى ان جاء العثمانيين ففتحوا اسوارها وسمحوا للناس بدخولها.
عدد الحكام الفاطميين كان اربعة عشر حاكما وكان سادسهم الحاكم بأمر الله الذي تم تأليهه من قبل العامة وللموضوع قصة طريفة, واسمه الكامل هو أبو علي المنصور بن العزيز بالله وكان ابيض الون ازرق العينين قوي البنية حكم مصر وعمره 11 عامة وكان عليه وصي ومرت حياته بمجموعة من المؤامرات وعندما بلغ الخامسة عشر من العمر قتل الوصي الذي عليه واخذ الحكم مباشرة, وقد كان الحاكم بأمر الله يجلس في غرفته أياما طويلة يشعل البخور والشموع طول الوقت, وقد كان قد بنى له مرصدا ً فلكيا ًعلى قمة في جبل المقطم حيث كان يخرج ليلا على بغلته لكي يرصد النجوم من المرصد الفلكي وكان لا يسمح لاي شخص بالصعود معه الى المرصد في قمة الجبل وفي احدى الليالي صعد ورائه اثنين من الجنود فقتلوه وفي الصباح اعادوا البغلة مع قميصه واخبروا الناس بانه صعد الى السماء فاعتقد الناس بانه اله وقد ساعدت سيرته الحياتية على تصديق الناس تلك الأسطورة عندما كان يشعل البخور في غرفته طول الوقت واذا خرج من الغرفة تشم الناس فيه رائحة البخور عندها بدا الاعتقاد بانه اله, والحاكم بأمر الله لم يتزوج طول حياته وهو شخصية مثيرة للجدل مازالت تحيطه الاساطير الشعبية لغاية اليوم , وكانت ولايته خمسة وعشرين عاما ظهرت خلال فترة حكمه وبتشجيع منه حركة باطنية من داخل الطائفة الإسماعيلية بقيادة حمزة بن علي بن احمد تبشر بألوهية الحاكم بأمر الله وارسلوا دعاتهم ال كل انحاء مصر وبلاد الشام وعند وفاته الغامضة وانتشار اشاعه صعوده الى السماء ظهر من تلك الحركة الباطنية مذهب الدروز كانشقاق داخل المذهب الإسماعيلي الشيعي وقد اصبح الدروز فيما بعد دينا مستقلا له تعاليمه الباطنية وانتشرت في سوريا ولبنان وفلسطين والاردن.
لقد كان اول ظهور للاحتفال في عاشوراء ولبس السواد وطبخ الاكل في الشوارع واحراق البخور في فترة الفاطميين الاسماعيليين في القاهرة وذلك تأثرا ً بالطقوس الهندوسية (بوجا) التي تجمع بين الصلوات والطعام والبخور وتعذيب الروح والجسد والتي تعتبر أساس الحياة الثقافية والدينية الهندوسية سواء في المعابد او في البيوت، ثم اخذ الفرس الصفويين الذين كانوا على المذهب الشيعي الاثني عشري تلك الطقوس وأضافوا اليها عروضا مسرحية لمعركة الطف يطلق عليها اليوم (التشابيه) لإعادة التذكير بطريقة تراجيدية وأضافوا اليها لطم الصدور لإضفاء مزيدا ً من الحزن.
دخلت مع المرشد السياحي الى القاهرة الفاطمية من باب الفتوح وخرجت من باب زويلة وعند اول دخولي من باب الفتوح شعرت إني في الزمن القديم غير الزمن الذي نحن فيه الان, حيث السور المرتفع والبناء العظيم والناس يسيرون في الشارع بأزياء شعبية وعربات تجرها الحمير وصراخ كبير يملئ الشارع وعلى يسار بوابة الفتوح من الخارج كانت تطل علينا مأذنة غريبة الشكل يمكن رؤية جزئها الأعلى فقط , والبوابة العظيمة عبارة عن قلعتين حصينتين فيهما الكثير من الفتحات كمزاغل للقتال وبين القلعتين قوس عظيم الى الداخل يمكن لشاحنة كبيرة الدخول من تحته قد بنيت بأشكال هندسية بديعة فوقها فتحات طولية الشكل كمزاغل للقتال والدفاع عن المدينة وفوقها جدار اخر بارتفاع مترين تعلوه مزاغل قتال أخرى , وما ان دخلنا باب الفتوح وتحتها بالضبط كان هناك ضريح شيخ صوفي اسمه (العارف بالله سيدي ذوق) وله قصص عديدة في المورث الشعبي المصري منها ان الذي بنى القاهرة هو الذوق.
جامع المعز من الداخل
ما ان دخلنا القاهرة الفاطمية من شارع المعز لدين الله كان على يسارنا جامع الحاكم بأمر الله ذو البناء البديع والمئذنة التي كانت تطل علينا من وراء السور وما ان تخطينا الجامع حتى دخلنا في منطقة أسواق شعبية يباع فيها كل ما يحتاجه السائح ثم وصلنا الى جامع الاقمر الذي يقع على جهة اليسار كذلك وهو جامع بديع البناء فيه فن عمارة رائع وقد بناه العزيز بالله الفاطمي ابن العز لدين الله.
وبعد الجامع كانت هناك مجموعة مقاهي شعبية جميلة ومحلات مختلفة ثم فوجئنا بوسط الطريق ببناء فخم لسبيل ماء فيه الكثير من الألوان والفن المعماري العثماني تعلوه زخارف حجرية بديعة الشكل فوقها غرفة خشبية كبيرة من الخشب الفاخر فوقها تاج خشبي مازالت بنفس الجودة منذ العهد العثماني.
ثم وصلنا مدرسة وخانقاه السلطان برقوق وهو بناء عظيم يحتوي على مدرسة لطلبة العلوم الشرعية على المذاهب الأربعة إضافة الى خانقاه لإسكان طلبة العلم وزوار القاهرة، والسلطان برقوق هو السلطان المملوكي سيف الدين برقوق الذي حكم مصر في أواخر القرن الرابع عشر وهو اول سلطان من السلاطين الجراكسة الذين حكموا مصر، والبناء بديع الطراز على الطراز الايوبي حيث مدخله قد بني بالمرمر الأسود والأبيض على الطراز الشامي وفي اعلى الباب قد تم بناء المقرنصات العباسية المعقدة التشكيل
وبعد ذلك وصلنا الى مسجد ومدرسة السلطان الناصر محمد بن قلاوون وهو من أعظم المماليك الذين حكموا مصر وأسهموا في تطوير العمارة المملوكية في مصر وله إصلاحات دينية واخلاقية عظيمة في مصر.
ثم وصلنا مسجد وقبة الصالح نجم الدين أيوب ثم مررنا بمستشفى رمد قلاوون وهي مستشفى قام السلطان المملوكي محمد بن قلاوون ببنائها مازالت مستعملة لغاية اليوم في نفس المبنى وقد بنى السلطان قلاوون كذلك مستشفى للأمراض العقلية مازال بنائها قائما لكنها أصبحت معلما سياحيا فقط.
وعند الانتهاء من زيارة شارع المعز خرجنا من باب زويلة وهو المكان الرسمي لقطع الرؤوس في زمن الفاطميين وكان يتم تعليق رؤوس المغول والاعداء على الباب من الخارج حيث هناك أماكن محددة في البناء مازالت قائمة لتعليق الرؤوس، وطراز عمارة باب زويلة مختلف عن باب الفتوح الذي دخلنا منه فالقلعتين والباب هي نفسها لكن تم بناء مئذنتان عظيمتان على كل قلعة من القلعتين وبذلك تغير شكل البوابة كليا عن بقية البوابات.
ان القاهرة الفاطمية التي بناها المعز لدين الله قد حكمت مصر خلال الفترة الايوبية والمماليك وقد تم إضافة الكثير من المساجد والمدارس والقصور خلال تلك الفترات, لذلك تلاحظ تنوع طراز العمارة فيها الى ان جاء العثمانيين ففتحوا اسوارها للناس وأضافوا اليها الكثير من العمارة العثمانية حيث نلاحظ العديد من سبل الماء في شارع المعز بالكتابات العثمانية والزجاج الملون وتلك السبل مازالت بنفس الطراز موجودة في مدينة اسطنبول, بعد الانتهاء من تلك الجولة كانت لنا استراحة للغداء حيث تناولنا نوع من البيتزا في الفرن على الطريقة المصرية ثم توجهنا الى مسجد سيدنا الحسين حيث اكتظ المسجد بالمصلين لصلاه العصر فلم أتمكن من الدخول الى الضريح لأنه يغلق في يوم الجمعة وقد عدت الى زيارة المسجد في اليوم التالي.
الى اللقاء في الحلقة التالية
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
https://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/menouats/63662-2024-06-04-11-38-49.html
1820 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع