" جلال الحنفي العالم الديني والاديب احد اعيان بغداد وذاكرتها، عاشق المقام والموسيقى "
البعد عن الوطن، يختبئ في ثناياه الحنين والألم وحرقة الاشتياق، وبين ثنايا البيت والغربة، لم أجد فيها مكانا يألفه القلب، إلا المقهى، فالمقهى هي الملاذ الرحب الذي يسع للجميع نظراً لألفتها وبساطتها، وهي نافذة مفتوحة على الزمن، منذ أكثر من عشرين عاما وأنا في الغربة، من آن لآخر احن لجلسة القهوة،
واميل دائماً الى المقاهي التي يرتادها الأدباء والمهتمون بالشأن الثقافي، في الشارقة مقهى الاونديجي، الذي يعانق ضفاف بحيرة خالد، ملتقانا مع الأصدقاء، في بعض الأحيان هو المكان الذي يخدم فكرة الكتابة ودورها في صناعة المقال، واعداده على الورق، واننا في بداية شهر تشرين الثاني فصل الخريف وطقسه الجميل، ومن نافذة المقهى غدا المنظر الجميل والسماء الزرقاء التي تتخللها سحيبات بيضاء صغيرة تحجب اشعة الشمس الدافئة المنظر بأبهى صورة تتجلى امامه، ليتأمل السماء الزرقاء، جلست مع أصدقاء حيث الصباحات الجميلة، نتحدث مع بعضنا في كافة الموضوعات، كم يكون الحديث مشوقا وكم تكون الجلسة مع الأصدقاء لذيذة ومسلية، تشعر أنك تعيش في دنيا أخرى غير التي تعيش فيها حيث تحب أن تنسى هموم ومشاكل وضغوط الحياة،
وكان حديثنا عن زيارة "سوق الغزل" وسط بغداد، عبق التأريخ الشعبي القديم مازال في مكانه منذ ابتكره البغداديون في بغداد المدورة، في بعض من أيام الجمع، السوق العجيب الذي يعتبر من أشهر الأسواق المحلية التي يباع فيها مختلف أنواع الحيوانات، كما اشتهر سوق الغزل كأفضل مكان لبيع الطيور ومنها النادرة، ومبادلة الديكة الاصيلة المشهورة بالقتال فيما بينها،
وكانت حلبات معارك الديكة تعقد وسط السوق او في باحات المقاهي المحيطة به، حيث يتراهن الحضور بأموالهم على احد الديكة، وما تزال حلبات هذه المعارك مزدهرة حتى اليوم، كما يزدهر السوق في تجارة الحيوانات الاليفة او حتى المتوحشة مثل الكلاب وخاصة كلاب الحراسة والزينة والذئاب والثعالب والافاعي، فعشاق هذه السوق هم من مختلف الطبقات الاجتماعية والانتماءات الثقافيـة، فمنهم ضابط الجيش المتقاعد وأستاذ الجامعــة والكاتب والإعلامي والتاجر والصبي الذي لا يتجــاوز عمره 10 سنوات والعجوز البالغ من العمــر 70 عاماً أو أكثر، يتـبادلون أطراف الحديث عن نوعــية الحيوانات والطيـور ومواطنها ومواقيت هجـرتها وخارطـة وتنتعش بتوافد روادها يوم الجمعة فقط، وبين الأزقة القديمة الضيقة تسمع أصوات الباعة التي كثيراً ما تختلط بأصوات الحيوانات التي يبيعونها والموضوعة داخل أقفاص أو أحواض أو محاطة بسياج تختلف أنواعه بين تلك المستخدمة للحيوانات المفترسة والأليفة من أسماك وطيور وزواحف وقطط وكلاب وذئاب، ولا يتوفر إحصاء عن عدد الأنواع المختلفة للحيوانات التي تباع في هذه السوق أو عن أعداد الناس الذين يرتادونها، للشراء أو لمجرد التجوال فيها ومشاهدة معروضاته،
والسوق بقرب جامع الخلفاء، والذي بُني في القرن الثالث الهجري في زمن الخليفة المكتفي بالله، ومنارته المشهورة منذ أكثر من 1200 سنة، أنها من أقدم المنارات في العالم، والبغداديين يطلقون على منارة جامع الخلفاء "منارة سوق الغزل"، و دير الآباء الكرمليين، والدير كان معروفا بمجلس يوم الجمعة للأب أنستاس الكرملي الذي يحضر مجلسه الكثير من علماء اللغة العربية ومنهم الشيخ جلال الدين الحنفي الذي كان إماما وخطيبا لجامع الخلفاء، ومن سوق الغزل نتوجه في الظهيرة الى جامع الخلفاء لسماع الشيخ جلال الحنفي، وخطبته المختصرة، الموجزة والتي تعتبر أقصر خطبة في مساجد الإسلام، البعيدة عن الصياح، والكلمات الهادئة البعيدة عن الترهيب والمقنعة بحججها، والذي حول المسجد ومرافقه إلى مركز علمي يستقطب فيه أكبر شريحة من المجتمع على اختلاف أعمارهم و مراكزهم الاجتماعية والعلمية، وفي هذه الجلسة الصباحية وجدت نفسي حول أحد العلماء البارزين من علماء المسلمين في العصر الحديث و الذين دافعوا و اجتهدوا في رسالتهم، هذا العالم الذي اختلف على عمامته كثيرون، واتفق عليها آخرون، المخاصم والمجادل والذي شاعت عنه إشاعات لا أساس لها، المتحمل لما وقع عليه من استفزازات وطعون اهل الخرافات، الا يستحق ان نكتب عنه، وهو الشيخ جلال حنفي العالم المتعدد المواهب، والمناقب، والسجايا، فهو شيخ دين متحرر من قيد التقليد، ضمن موازين العقل البشري التي وصفها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه وخبطه، البصير والمطلع بالفكر الاسلامي، المجدد، والمجتهد، والشاعر، والملم بالمقام العراقي.
زخرت بغداد في سنوات ما بعد نشوء الدولة العراقية من القرن الماضي بنخبة طيبة من المثقفين والعلماء، ومن مختلف الاختصاصات، وكانت الروح الوطنية العراقية تربط بينهم، وفي بعض من مراحلها ازدهرت الحياة الثقافية والفنية في العراق أيما ازدهار، فاتسعت المجالس الادبية، وتطورت الصحف والمجلات، والتجمعات الثقافية والنوادي الاجتماعية، كان الشيخ الحنفي من الظواهر المدهشة ، من خلال مسيرته واعماله خلال القرن العشرين ومطالع القرن الحالي، فهو شخصية نادرة، كان ايضاً نسيج وحده، جمع صفات لم تتوفر في العديد من قادة زمانه، رجل تراث وموروث بغدادي،
ولد الشيخ جلال محي الدين بن عبد الفتاح بن مصطفى بن ملا محمود عام 1914م، في أسرة عراقية بغدادية، كانت طفولته بمنطقة الميدان في وسط بغداد، التي كانت ولا زالت مركز المطابع ودور النشر ومقرات الصحف والمجلات، ناهيك عن المقاهي والمكاتب الأدبية والاعلانية ومراكز الأنشطة الثقافية والحوارات والمجادلات السجال، أثرها في اجتذاب اهتمامات النشء واستنهاض قابلياتهم الفنية والأدبية والاجتماعية، تعلم القرآن طفلا ً في كتاتيبها وعلى يد الملا ابراهيم الأفغاني في محلة الميدان ثم التحق بالمدرسة متنقلا بين البارودية والمأمونية والصدرية الابتدائية، ثم أنهى المدرسة الابتدائية فيها عام 1930م، عاش فترة قصيرة من طفولته في البصرة، بحكم عمل والده،
ثم عاد إلى بغداد، والتحق بكلية الإمام الأعظم، تعلم مبادئ النحو والآلة والصرف، مبادئ العقيدة والسير النبوية، قراءة القرآن وفهمه إلى جانب إتقان اللغات الكردية والتركية والعربية وهو صغير العمر،
لقب بالبغدادي نسبة الى بغداد مسقط رأسه، لازم (الشيخ امجد الزهاوي) والعديد من الأئمة، وربطته علاقات بمعظم علماء بغداد وأدبائها من عصره منهم الشيخ محمد القزلجي والشاعر جميل صدقي الزهاوي والشيخ رشيد آل الشيخ داود والشيخ كمال الدين الطائي والشيخ العلامة سليمان سالم الكركوكلي والشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ محمد سعيد الاعظمي والاستاذ رشيد سلبي والاستاذ عبد اللطيف أثنيان والاستاذ محمد شفيق العاني والاستاذ محمد فهمي الجراح والشيخ عبد القادر عبد الرزاق الذي كانت لهُ إمامة الإقراء في بغداد وغيرهم، ومن الذين درسوه في الجامعة الاستاذ طه الراوي،
وكان يتردد على مجلس الأب أنستاس الكرملي الأديب اللغوي الذي لقبّهُ بالشيخ العلاّمة الحنفي ، نسبة لمتمذهبه بمذهب الأمام أبي حنيفة النعمان، وتحديداً في العام 1933.
تقلد الشيخ جلال الحنفي مناصب عديدة في بعض من جوامع ومساجد بغداد وشغل منصب الإمامة والخطابة لأول مرة عام 1935م في جامع المرادية،
ثم بعد عام واحد أقصاه مدير الأوقاف محمد بهجت الاثري من منصبه وانزله من المنبر وعزله عن مهنة الخطابة، حيث بلغه ان الشيخ الحنفي كان يلقي خطبة الجمعة بطريقة المقامات البغدادية، فرد عليه الحنفي بقصائد من شعر الهجاء تجاوزت الأربعين قصيدة، عين خطيبا في جامع عطا واماما في مسجد الحا نعمان الباججي،
ثم نقل إلى جامع الوصي في محلة العيواضية عام 1949م، وبعدها نقل الى مسجد امين خليل الباججي عام 1953، ثم نقل الى جامع كوت الزين في البصرة، وبعدها إلى جامع الكهية في محلة الميدان عام 1957م، ولتدخلهِ في شؤون دائرة الأوقاف فصل من وظيفته عام 1959م، حيث وقع بينهُ وبين مدير الأوقاف العام آنذاك خصام شديد وبقي بعيداً عن دائرة الأوقاف مدة طويلة فتوسط لهُ بعض معارفه وأصدقائه فصدر مرسوم جمهوري بإعادته إلى وظيفتهِ فرفض أن يباشر، وفي عام 1966م انتدب مشرفاً لغوياً في وزارة الاعلام العراقية، و بجامع ابي حنيفة النعمان حيث درس بكلية الامام الاعظم التابعة لهذا الجامع العريق، انتهاءً بجامع الخلفاء وهو أقدم جامع في العراق، حيث درس ووعظ وخطب فيه حتى اواخر أيامه، درس في جامعة الأزهر بالقاهرة، أوفدته الحكومة إلى الصين عام 1966لتدريس اللغة العربية في معهد شنغهاي لمدة ثلاثة أعوام، أتقن خلالها اللغة الصينية، وأكل من أطباقهم، وتعلّم عمليات الوخز بالإبر في علاجهم، وهو اول عراقي اتقن اللغة الصينية، وله مؤلفات عدة عن هذا البلد الذي شغف به كثيراً، حسب ما ظهر في كتاباته، ووضع مسودة قاموس عربي صيني ابتلعت أوراقه مياه البحر.
كان الحنفي صديق المجتمع وهو يجالس ويعاشر بسطاء الناس وكان يعتمد على التدوين حين يسمع موضوعا يستحق ذلك يخرج ورقة من جيبه يكتب ما يحتاجه بدقة وإمعان، من عادته أن يقضي مواعيده ومشاويره، كل يوم، مشياً على قدميه، حتى لو كان المشي في ظهيرة يوم حار في الصيف اللهاب.
رجل من أكثر فقهاء عصره تنويراً وتحريضاً وصاحب مدرسة في الفقه واللغة العربية، ومن أشجعهم خطاباً، متعدّد المواهب والمناقب، نابغة، وكان وجه بغداد المضيء، اختلف على شخصيته الدينية المتفتحة البعض نعتوه بصفات غير لائقة الا انهم لم يستطيعوا أن يُسكتوا صوته، أو يُكسروا قلمه .. واتفق على شخصيته اخرون، في الحياة !العلامة الحنفي منفتح العقل والفكر، واسع العلم والثقافة، مؤرخ وصحفي وباحث موسوعي، شاعر رقيق الاحاسيس، صاحب نكته، وموسيقي، ومعجمي، ومفكر.
كان يلقي الاحاديث في اختصاصه من دار الاذاعة العراقية حيث قدم برامج دينية وثقافية وتاريخية في راديو بغداد وتلفزيون بغداد، وكان يحسن عدة لغات أجنبية فهو يجيد الفارسية والكردية والصينية والاسبانية والإنكليزية وقليلا من الفرنسية والالمانية، كما ان له عدة خطابات في اللغة الإنكليزية القاها في مساجد بعض من الدول في كوريا واليابان.
هو الخبير في علم العروض فقد اجرى في تصحيحات كثيرة و نشرها في كتاب و اوجد نماذج للعروض فالرجز مثلا هو 8 بحور جعلها الحنفي 50 بحرا و اخترع بها اوزان جديدة..
كان الشيخ الحنفي بارعاً في شخصيته الدينية متحضراً، قدّم صورة عصرية حضارية لرجل الدين وقام بتدعيم الشخصية الدينية بعناصر ثقافة علمية أدبية وفنية ذات أسس اجتماعية حضارية ولم يكن الدين لديه أحكاما جامدة عن الصوم والصلاة والوصايا الفقهية الاجتماعية، وانما منظورا حديثا يقرره العقل الحضاري والتراكم الثقافي للعصر، فهو من الشخصيات التي دعت إلى الحد من التطرف في دين الإسلام ونقد التعصب، وهنا تحولت "الخطبة والوعظ" إلى رسالة ثقافية اجتماعية لفتح المدارك والانفتاح على الحياة والمستقبل، هذا المنظور الحيوي الحضاري للدين، عنى لدى مدرسة الحنفي الفقهية "أن الدين هو في خدمة الحياة، وليس الانسان في خدمة الدين"، وظيفة الدين، كمنظومة اجتماعية حضارية رفع مستوى الانسان وتحريره من عبودية الرق والمادة والخرافة، لإنتاج وجه مشرق للحياة والوجود، لا تتجاوز خطبه يوم الجمعة العشر دقائق، لتي يدخل المقامات عليها أحيانا.. فكان يقول ان الخطبة ليس بطول وقتها وانما بقيمة معناها كما قال ان المصلين لهم اوضاع يجب على الخطيب مراعاتها.
في كل فن كتب فيه كان متألقاً ومحققاً، تقرأ كتبه فتجد كل عبارة في مكانها، ولهذا كان له حضور متميز أيام الجمع والمناسبات وله حضور في المجالس ويتواصل مع جمهوره ومحبيه، فكان للمساهمات الاجتماعية والانشطة الثقافية والصالونات الاسبوعية والشهرية لعلماء ورجال دين مسلمين ومسيحيين مثل الأب انستاس ماري الكرملي [1866- 1947م] والأب يوسف حتى [1838- 2000م] وما كان لها من أثر في المجتمع الثقافي والحياة البغدادية، لكن ثمار هذا الاتجاه التجديدي بقي محدودا ونخبويا على الصعيد العام، وذلك بفعل عوامل، بينها الظروف السياسية والاشكالات المحلية (الطائفية) التي تركت غيوما داكنة على الوضع العام. أما الأمر الثاني الذي يسجل للعلامة الحنفي، إلى جانب مساهماته الثقافية المتنوعة، فهو حرصه المميز على استخدام وسائل الصحافة للتواصل الاجتماعي والثقافي ونشر أفكاره، وامتد تاريخه الصحفي منذ الثلاثينات حتى أواخر أيامه، متمرسا في كلّ وسائل الاعلام المتاحة (صحف ومجلات، إذاعة وتلفزة)، نشر مئات المقالات كما يعتبر أبرز كتاب الأعمدة الصحفية، كما كانت له العديد من الزوايا والابواب الثابتة في الصحافة العراقية لعل عموده الشهير في جريدة القادسية اكثرها ذيوعاً (رؤوس اقلام) كان من اكثر الاعمدة شهرة وقراءة واقبالاً لبساطته وتنوع مواضيعه التي استمرت اعواماً طويلة، وتكشف كتاباته الصحفية عن قدر كبير من ثقافته الموسوعية اولاً، وعن فهمه لدور الصحافة ثانياً، حيث يلاحظ ابتداء بأنه شديد العناية بنقد الظواهر السلبية في الحياة.
أقام منهجه في الخطاب على الاعتدال والوسطية والإقناع العلمي في محاورته للآخرين ودعوتهم إلى الحق، كان يقيم الندوات والمحاضرات، ويعقد اللقاءات والحوارات، ويشارك في المؤتمرات ليتواصل مع العلماء والدعاة والمفكرين. كان يحب المناقشة، فاذا انس من المحاور أيا كان معلومة لا يشاطر فيها استقطعها وكتب فيها مقالة وهذا ما حدث اكثر من مرة من لشيخ الحنفي صولات وجولات في ميدان الثقافة،
وقف في مواجهة الشاعر معروف الرصافي حين وصفه في قصيدة من هجائياته بأنه (أحمق) .. فلم يسكت له الحنفي، ولم يغمد السيف في قرابه ، إنما وضع الرصافي في ( الحضيض) طبقاً لعنوان كتابه المثير:
(الرصافي في أوجه وحضيضه ) !، واختلف مع عالم الاجتماع علي الوردي امتدت لعقدين من الزمن وخاض معه في الجدل العقائدي وخصوصا في وعاظ السلاطين وخوارق اللاشعو رقبل رحيل عالم الاجتماع، وغيابه عن أروقة الجامعة وصالونات بغداد الأدبية التي سجل الصحافي المقتدر سلام الشماع مجالسها بحرفية مؤرخ ولم يخف حتى انتكاسات بطله الوردي وهزائمه المتكررة أمام خصمه الفكري اللدود الشيخ جلال الحنفي، والخالصي وجواد علي وبديع شريف وشيوخ الأزهر وغيرهم، وانتقد الدكتور جواد علي، واختلف مع الدكتور عبد العزيز الدوري، ولم يتفق مع الدكتور عبد الكريم زيدان، وهناك أيضا المعركة الكلامية الصاخبة التي دارت رحاها على صفحات الجرائد، بين الشيخ أحمد الكبيسي والشيخ جلال الحنفي .. وكان الكبيسي قد كتب قائلاً : (إن الجن يتلبّس بالإنسان) ، ثم رد الحنفي بقوة ، ينفي تلبسه ، ووصف رأي الكبيسي ب (الخرافات).
اذا كان ابن حزم الأندلسي وهو أوّل فقيه يكتب عن الحب وأطواره في (طوق الحمامة) فإنّ الشيخ جلال الدين الحنفي، هو أوّل فقيه يولي المقام العراقي والثقافة الشعبية أعلى درجات الاهتمام حتى صار الإمام الذي يذعن له الجميع فيها، في الثلاثينات اصدر جريدة الفتح وجعلها منبراً لاذعاً لاجتهادات ومطربي المقام العراقي، فالمقام العراقي عنده تحفة فنية لا تأتيها الا الرموز الكبيرة التي ترفض من يحاول الاختصار او التملص السريع من بنية الترتيب النغمي للمقام الواحد ولهذا اختلف مع القبنجي وناظم الغزالي في الأداء، كان يؤلّف الألحان ويضفي على بعضها من لمساته، وأتيح لاحد زائريه أن يستمع إليه يشدو مقامات تبعث الشجن، وكان حين يصفو مع نفسه ويغني المقام، يتدفق صوته بنبرات حزينة كأنها البكاء!.
كان يبذل جهودا مخلصة واهتمامًا كبيرًا في الوضع الاجتماعي، ولهذا في عام (1948) أشترك الحنفي مع الحاج محمد فؤاد الآلوسي والشيخ عبد الحق النقشبندي في تأسيس جمعية (الخدمات الدينية والاجتماعية) وقــــد ترأس الحنفي هذه الجمعية، وكانت تعنى بمعالجة المشاكل الاجتماعية، اصدرت الجمعية كراسين كانا من تأليف الحنفي أيضا ً الأول أصدرته عام (1952) بعنوان (كيف عالجنا مشكلة البغاء)، قد ضم جهود الجمعية في سبيل معالجة مشكلة البغاء في العراق. والثاني عام (1953) بـعـنـوان (مشاكل أجتماعية لم تحل بعد) سمته الكتاب الأصفر ضم جهود الجمعية ومساعيها في سبيل معالجة مجموعة من المشاكل الأجتماعية من بينها التشرد والعزوبة والأسر الفقيرة.
كان له مجلس عامر في جامع الخلفاء يحضره نخبه من الادباء والشعراء ورجال الفكر ويستقبل السياح والزائرين في المسجد العريق .
من أقواله المشهورة : ان العالم يعيش عصر العلم وليس عصر الموعظة
أسس أسس الشيخ جلال الحنفي المركز الأقرائي العراقي في بغداد عام 1977 وكان مقرهُ في جامع الخلفاء ، واستطاع الحصول على الموافقات الرسمية الأصولية لأجل فتحهِ، وكان من المعاهد التعليمية التي اختصت بتعليم أصول وقواعد التجويد وقراءة القرآن والإلقاء الصوتي حيث يخضع المتقدم على الاشتراك في المركز إلى لجنة خاصة تقوم بالمقابلة والأختبار وأعد الشيخ الحنفي هذهِ اللجنة من عدة أعضاء ومنهم الدكتور مهدي الخالصي (اخصائي في الحنجرة)، وخبير الجوزة إبراهيم شعوبي، والناقد الموسيقي عادل الهاشمي والفنان روحي الخماش بالإضافة إلى الشيخ الحنفي. ومن ضمن المدرسين القارئ ملا عبد الفتاح معروف، ومن إنجازاته أنه أسس جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية في بغداد والتي ترعى اليتامى والمعوزين وكان رئيساً له.
له رؤية للحياة ويقول: الحياة مدرسة تدرس الأحياء وقائع الحياة بأسلوب النظرية الصينية «تعلم السباحة في السباحة»، دعا لمنع استخدام مكبرات الصوت (الأذان) في الجوامع، باعتبارها تزعج غير المسلمين والمرضى والأطفال وكبار السنّ ممن يحتاجون الهدوء والراحة، وليس لها مبرر فكل الناس لهم ساعات ويعرفون اوقات الصلاة من الراديو والتلفزة، وفي سنوات الحصار داعى بالتبرع بتكاليف الحج للفقراء أيام الحصار معللاً ذلك بأن ملأ أفواه الجياع أفضل أنواع العبادة.
مؤلفات جلال الدين الحنفي: اغنى المكتبة العربية والإسلامية بما لا يقل عن خمسة واربعون مؤلفاً واكثر من عشرون مخطوطة عالجت قضايا علوم الشريعة والآداب والفلسفة والاجتماع ومشكلات الحضارة وغيرها، وأشهر هذه المؤلفات "فقه السيرة النبوية" و"الإسلام والعصر" و"منهج الحضارة الإنسانية في القرآن" و"هذه مشكلاتنا، وكان مصدراً مهماً من المصادر التي يرجع اليها الباحثون والاعلاميون في أي شأن من شؤون التراث وعاداته وتقاليده وحكاياه وامثاله، فقد ترك ثروة ثقافية غزيرة وتراثا زاخرا ومتنوعا، يستحق الاهتمام والبحث والجمع والدراسة والنشر، من لدن الناشئة والهيئات المعاصرة. كما يشكل تراثه أرضية ثرة لاستقاء الدروس والأصول المنهجية لترسيخ معالم المدرسة العراقية البغدادية في جوانب الترث والدين والثقافة والعمارة والاجتماع، فمؤلفاته تتوزع في شتّى ضروب المعرفة، لا سيما في التاريخ والتراث والمأثورات الشعبية والشعر والدين والنقد والموسيقى واللغات، ومن مؤلفاته ما يمت إلى المعجمات كمعجم اللغة العامية البغدادية ومعجم الألفاظ اليمانية والتونسية، و(دروس في التصحيح اللغوي)، ومنها ما يمت إلى الفلكلور كالأمثال البغدادية، و(الإيمان البغدادية)، والألفاظ البغدادية والمغنين البغداديين في العصور القديمة والمقام العراقي، كما له مؤلفات عديدة في الأدب وفنونه والشعر وعروضه والفكر ونقده، ومن مؤلفاته:
التشريع الأسلامي تأريخه وفلسفته عام 1940م، معاني القرآن عام 1941م آيات من سورة النساء عام1951م، ثلاث سنوات في جوار الميتم الأسلامي عام 1955، صحة المجتمع عام 19551955، الروابط الأجتماعية في الأسلام عام 1956م، الحديث من وراء المكرفون عام 1960م، المرأة في القرآن الكريم عام 1960م، الأمثال البغدادية عام 1964م، المغنون البغداديون والمقام العراقي عام 1964م، رمضانيات عام 1988م، التشريع الإسلامي تاريخه وفلسفته عام 1948، شهر رمضان عام 1988م، مقدمة في الموسيقى العربية عام 1998، شخصية الرسول الأعظم قرآنيآ عام 1997.
اقيمت له قبل وفاته بأشهر أمسية وتكريم اقامها التجمع الثقافي في شارع المتنبي سر (الشيخ جلال الحنفي) بحضورها قدم لنا محاضرة عن الحضارة الاسلامية دهش الحاضرين لموسوعتة وذاكرته المتوقدة، حدث هذا التجمع الثقافي في شارع المتنبي اهدي له كتاب (الشخصية المحمدية لمعروف الرصافي) الكتاب الذي اثار مشكلة في بداية اربعينيات القرن العشرين طبع عام 2002 هذا الكتاب ذكرى لـ (الشيخ جلال الحنفي) بعد انتهاء الامسية سلمت له الهدية الموجودة في الظرف قال(الشيخ جلال الحنفي) انها (طبعهٌ الملاعين) قال أنا كنت من محاربي هذا الكتاب في زمنه.
في يوم الأحد، الخامس من اذار العام 2006م، اختارت يد المنون، العلامة الموسوعي الكبير الشيخ جلال الحنفي (بغداد 1914 - 2006 م)، ودفن في مقبرة السهروردي في رصافة بغداد، مخلّفاً وراءه ثروة ثقافية غزيرة، تتوزع في شتّى ضروب المعرفة، لا سيما في التاريخ والتراث والمأثورات الشعبية والشعر والدين والنقد والموسيقى واللغات، "فيم لم تغمض هنالك عيني يوم إن طال الليل اذ انا صاح ما عسى ان تقول عين اذا ما أمتنعت عن منامها للصباح كنت عند النهار اشكو سقاما زاد فيه الالام من ارتياحي"، كانت هذه الابيات اخر ما خطها قلم الشيخ جلال الدين الحنفي قبل ساعتين من رحيله وهو يجود بأنفاسه الاخيره على فراش الموت، وبفقده خسرت بغداد ذاكرتها; ذاكرتها الشفاهية، وحافظ معجم لغتها الدارجة المحكية والمولع بتراثها الغنائي والبنائي ستغيب عن ذاكرة الأجيال المقبلة أسماء كبيرة ، ربما بعد عقود من الزمن، إلا جلال حنفي وبعض من معاصريه فإنها ستظل عصيا على النسيان، لسبب بسيط جدا، هو أنه كان يمدّ بصره بعيدا إلى المستقبل.
الحنفي الكثيرُ ووصفوا وحللوا اعمالَهُ وشخصيتهُ بشتى انواعِ الصورِ من اصدقائهِ الادباءِ والشعراءِ وحتى السياسيين، ولعلَ اجملَ شيءٍ يمكنُ استنتاجهُ من كتاباتِهم هو اتفاقُهم جميعاً على عمقِ الصداقةِ القويةِ التي يتمتعُ بها الحنفي والتي يُعطيها اكثرَ بكثيرٍ من حقِها مما جعلهم جميعاً يبادلونه بهذا الاحساسِ الرائعِ جلال والامرُ الاخرُ هو سعةُ علاقاتهِ وتنوعُها بحيث لايميز صداقاتِه على اساسٍ عرقي او قومي او ديني بل من كلِ طيفٍ.
قال عنه الدكتور صفاء خلوصي في كلمة نشرتها جريدة الاديب البيروتية بعددها 3 و 4 في مارس أبريل 1980 م : (قلائل هم الذين أفخر بأنني عاصرتهم ومن هؤلاء العالم المعجمي والشاعر الاديب والباحث الثبت العلامة الشيخ جلال الدين الحنفي وكم تمنيت لو أنني ولدت في عصر غير عصري ولكنني كلما تذكرت جلال الحنفي ومصطفى جواد وجعفر الخليلي وعبد المجيد لطفي وفؤاد عباس وذنون أيوب واضراب هؤلاء شعرت أن لعصري رونقا خاصا لا أجد له بديلا أو مثيلا في عصر اخر ، وقد كانت لي أمان (والكلام للعالم الخلوصي) في الحياة تحقق الكثير منها ولم يبقى الا اليسير القليل وعلى رأس ما تحقق أصلاح العروض ، ولا اكتم أنني كنت برما به خائفا منه وجلا قرأته في صباي فكان أقرب الى الطلاسم والحروف الهيروغليفية ، بل أن الطلاسم والحروف الهيروغليفية كانت أيسر أدراكا من هذا الذي أطلق عليه أسم ( العروض ) وكما أن الطبيب لا يختص عادة الا بالمرض الذي يشكو منه أو أهله فقد وجدت أن المرض الآخذ بخناقي هو ،، العروض ,, فرحت أعالجه بأساليب متباينة شتى وصرت أسترق خطاي في دهاليز خفاياه حتى أحببته وما أشد الحب حين يأتي بعد كره فكيف والكتاب في أصلاح العروض حلم حياتي وقد تحقق الحلم على يد معاصر عزيز كريم أمتاز بالدماغ النير والمقول الذرب والحس الموسيقي المرهف فيابشرى الفراهيدي في مرقده فلعل روحه في الجنان تتملى صفحات عروض الحنفي ببهجة وأستمتاع).
كتب الكاتب زيد الحلي عنه في احدى مقالاته بعنوان الشيخ جلال الحنفي في الذاكرة الرمضانية: "كانت احاديث شيخنا الحنفي في رمضان، في المجالس البغدادية، من اشهى واغنى واحلى الاحاديث، لأن من طبعه مزج المعلومة بالطرفة، ويحاكي الحاضر بملحة التراث".
الباحثة آمال ابراهيم محقة جداً حين وصفته بقولها (الحنفي موسوعة في رجل) أو هو ذاكرة بغداد كما يحلو لأغلب الباحثين اطلاق هذا الوصف عليه،
قاريء المقام حسين الأعظمي رأي صريح وجريء وصادم بالشيخ جلال الحنفي ، إذ يقول عنه “بغض النظر عن علم الشيخ جلال الحنفي، فإنه كان يمتلك حضورا طاغيا وكاريزما تجعله مثيرا للجدل، وهو شخصية مشاكسة تقتحم الكثير من المجالات بحق أو بدون حق"، وفي المقام العراقي فان معظم احاديثه لا تتعدى ان تكون احاديث مقهى، وثلاثة فقط كانوا خبراء في المقام العراقي لم يكن هو بينهم وهم: الحاج هاشم الرجب ويوسف عمر ومجيد رشيد.”
جلال الحنفي الذي امتزج اسمه على نحو خاص بالتراث والتاريخ المحلي البغدادي، وعلوم المقام العراقي، كما امتزج اسمه ايضاً بجامع الخلفاء، لسنوات طويلة قضاها فيهِ معلماً وإماماً وخطيباً، بل حتى حارساً وخادماً، البغدادي رجل التراث والموروث البغدادي، شخصية خسرتها بغداد وخسرها مثقفي بغداد، وقد قال عنه البعض: لو جمعت خطب الجمع التي كان يلقيها لكانت فكراً اسلامياً صافيا، راسما طريقا للحياة بعيدة عن الشعوذة والدجل، وسيرة طيبة للإيمان الصحيح ..، شخصية لازالت تجول فوق رؤوس المحبين والذاكرين، هذا المؤرخ الذي عشق بغداد وتغنى بها، حتى وصيته ختمها بعبارة : "المنصة لبغداد والعزة لجامع الخلفاء"، الا يستحق هذا التراثي الذي اقترن اسمه دوما بجامع الخلفاء ان يخلد بتمثال بالقرب من الجامع او شارع يخلد اسمه وهو الذي كان يمشي في ازقة بغداد الرصافة يومياً ويعرف ازقتها ودرابينها وحياة اهلها ، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
803 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع