"ساطع الحصري من الروَاد الأوائل في الفكر القومي العربي والساعي الدؤوب من أجل وحدة العرب"
منذ سقوط الخلافة العباسية على يد هولاكو في القرن الثاني عشر الميلادي، وبعد مرور ستمائة من الأعوام، شهدت اليقظة العربية تراجعا حثيث الخطى على مدى ستة قرون.. فالعلوم والفنون والاقتصاد والسياسة والدين والاجتماع الجمود والتخلف حتى انطفئت شعلتها وبهت بريقها الا من وميض باهت ينبعث من حين الى اخر من بين دروب الظلام الذي عم الحياة الأدبية بفنونها المختلفة، فحالة العلم والفكر بالعالم العربي قد وصلت لمرحلة ملحوظة من الانحطاط في القرن السابع عشر؛ فالتركية أصبحت لغة الدواوين والمراسلات الرسميَّة، وانكمشت العربية فأصبح الشعر أسير الصنعة، وامتلأت قصائده بغثِّ اللفظ وركيكه، كما دخل العقل العربي في متاهات الجهل والجمود، فنسي إرثه من فلسفة الفارابي وابن رشد وعلوم ابن حيان والرازي وشعر المتنبي وابن الرومي، دخل العرب في طور من الانحلال والاستسلام وفقدوا استقلالهم السياسي وفقدوا مع ذلك قابليتهم للابتكار والتقدم والتجديد،
وقد عاش العرب في هذه الوضعية المتردية طيلة قرون ولم يشرعوا في الخروج منها، إلا مع بداية الثورة الفرنسية عام 1789، حيث وعي العالم العربي بحقيقة تخلفه وتقدم الآخرين، واطلق على القرن 19 الميلادي في أوروبا ب"عصر القوميات" بسبب تغلغل انتشار مبدأ القوميات في النفوس وتأثيره على العلاقات الدولية، وبسبب ما انجر عن هذا المبدأ من تغيرات على خريطة أوروبا، ثم على خريطة العالم فظهرت دول جديدة على أساس قومي، وتفتت إمبراطوريات كبرى كانت تتشكل من عدة قوميات، كان الولاء للأمة فقط والنضال من أجل إقامة نموذج دولة الأمة هما أبرز المظاهر التي تعبر عن مدى تغلغل الفكرة القومية في أعماق شعوب اوروبا، وتكوّنت العديد من النظريات القومية، كان منها الألمانية التي تنصّ على أنّ اللغة والتاريخ هما عاملي تكوين الأمة، والفرنسية التي تعطي العوامل الجغرافية دورًا كبيرًا في نشوء الأمم، تأثر تيار من المثقفين من دعاة القوميات الى ما حصل في اوروبا، فتشكلت بدايات الفكر القومي في حركة سرية تألفت من أجلها جمعيات وخلايا عدة في عاصمة الخلافة العثمانية، وهذه جاءت مرافقة للتغيرات الملحوظة التي شهدتها السلطة المركزية للإمبراطورية العثمانية، حيث تجددت البنى وباتت اكثر انفتاحا، المعلمون وأصحاب الرسالة في كتاتيب المدن ومدارس المساجد والكنائس في مصر والمشرق العربي، والمثقفون الذين استفادوا من الانفتاح الأوربي، رأوا في النموذج الغربي مثالًا يحتذى به، وربطوا النهضة الغربية بإقصائها للدّين، فعملوا على استحضار تطبيق الواقع الغربي بحذافيره في بيئتهم، وتبنّوا القومية الغربية أساسًا للتغيير، اتخذ الاتصال بين الشرق والغرب صورًا متعددة.
نشأت النهضة العربية بعد غزو نابليون لمصر، فكانت رد على الزحف الاستعماري الأوروبي، الذي كان بداية الاتصال بين الشرق والغرب، وتجلت صوره في التعليم، حيث حظي بجهود من حملة نابليون على مصر والشام، فأرسل بعض العلماء المصريين لفرنسا وعادوا للعمل بالتدريس وأنشأ محمد علي والي مصر عددًا من المدارس المدنية التي أخذت تزداد وتتنوع تخصصاتها ويُبعث خريجوها إلى أوروبا، وأخذ النشاط التعليمي الطراز الأوروبي، وبدأت نهضة ثقافية عربية في اعقاب خروج محمد علي باشا من الشام عام 1848، وافضت تتجه نحو الوعي والشعور بالكيان القومي، بعد أن كثرت مدارسها، وتعددت مطابعها، وانتشرت الكتب والصحف في أيدي أبنائها انتشاراً لم تعهد له مثيلاً من قبل، فعمّ التعليم معظم الأوساط، وتفتّحت الأذهان، ووعى معظم الناس تاريخ أمّتهم، وبدأت نفحة الإحياء الأدبي تهبّ على العرب، فكان ذلك مقدمة لحركة سياسية تحمل الطابع القومي، مما أدى إلى سعي الكثير من الكتاب العرب للبحث عن بيئة لمصر يسودها الحرية، إنها كانت مركز لحدوث النهضة لتبعث النهضة من جديد، مما جعلها مركز النهضة، ومن أبرز مظاهرها انتشار الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر، والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات، وإحياء التراث العربي وتحقيقُهُ، تلك النهضة ادت الى إعادة انتشال اللغة العربية مما طرأ عليها من تقهقر، وبدأت تقدم ادباً عربياً معاصراً للمرة الاولي منذ عدة قرون، و نهضت اللغة من كبوتها التي عرفتها في عصر الانحطاط، فقد تبدل هذا الحال في اواخر العقد الاخير من القرن الثامن عشر إذ أفاق الادب العربي من سباته وتحرر من جموده وبفضل هذه النهضة استعاد الادب حيويته ونضارته واصبح عاملاً من عوامل تكوين الأمة ورافدا من روافد تقدمها وازدهارها، وتفاعل الأدب العربي مع الآداب الغربية تفاعلاً عميقاً أدى إلى ظهور فنون أدبية جديدة لم يكن لها في العربية وجودٌ من قبل، كالأقصوصة والرواية والمسرحية، وعبر الجمعيات السياسية بعثت مشاعر الهوية العربية مجدداً مطالبة بالإصلاح،
وكان تلك الأمور مصدر لحركة عدد من الأدباء والكتاب في الرفض وطلب الحرية، ومن أبرز مظاهرها انتشار الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر، والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات، وإحياء التراث العربي وتحقيقُهُ، رفع لواءها رجال أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ومحمد عبده وجمال الدين الافغاني، تشكلت بدايات الفكر القومي في بلاد الشام في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين متمثلة في حركة سرية تألفت من أجلها الجمعيات والخلايا في عاصمة الخلافة العثمانية، عندما دعت بعض الشخصيات والأحزاب التركية إلى الطورانية وأبرزها “حزب الاتحاد والترقي” الذي دعا إلى تتريك الخلافة العثمانية، فكان رد فعل العرب بروز تيارات تدعو إلى القومية العربية، ثم في حركة علنية في جمعيات أدبية منها : جمعية العربية للفتاة، والجمعية القحطانية، تتخذ من دمشق وبيروت مقرًّا لها، ثم في حركة سياسية واضحة المعالم في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس سنة 1912، حيث أصبحت الدعوة الى القومية العربية اكثر تبلورا، وتجدر الإشارة ان اول جهد منظم في حركة العرب القومية يرجع الى سنة 1875م حين ألف شبان من الذين درسوا في الكلية البروتستنتية بيروت ممن تأثروا بالثورة الفرنسية والفكر الغربي، جمعية سرية وكانوا جميعا من المسيحيين فهم :
ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم، وفارس الشدياق ، واديب إسحاق،
وسليم تقلا، ونمر صروف، وجرجي زيدان، وسليم نقاش،
فقد عملوا على إبراز تاريخ العرب قبل الإسلام وإثارة الشعور القومي العربي، فهؤلاء هم أول من فَصَل في العصر الحديث بين العروبة والإسلام، ويعترف صليب كوراني بذلك فيقول: (الأثر الأول للحضارة الغربية في الحياة العربية بعث القومية، وقيام الحركة الاستقلالية التي تشمل العالم العربي في الوقت الحاضر، وكانت هذه الحركة نتيجة مباشرة للتعليم الغربي)، وبفضل هذه النهضة ظهرت اليقظة العربية واتسعت ينابيعها وتنوعها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وبذلك بات الرواد والمثقفين الذين اضطلعوا بالتأسيس للوعي العربي هم دعاة القومية العربية، وهم من حملوا الراية القومية، واعتبروه مطلبًا أساسيًّا.
تعتبر وقفة العرب بجانب الحلفاء ضد تركيا نقطة تحول كبرى في الفكر القومي والتجمع على أساس القومية. اذ لم يكن الإنجليز يحلمون في يوم من الايام أن يقف العرب بجانبهم ككفار ضد بني دينهم وعقيدتهم.
يقول لورنس (رجل المخابرات البريطاني وملك الصحراء العربية كما يسمونه) : (وأخذت افكر طيلة الطريق إلى سوريا وأتساءل هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني المعتقدات الدينية؟ وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والهام وتستبدل سوريا مثلها العلى الديني بمثلها الاعلى الوطن)، ويعتبر الغرب هذا الموقف نقطة تحول الى مرحلة جديدة في التفكير القومي، يقول زين نور الدين زين: (إن فكرة الانفصال العربي عن الدولة العثمانية لم تظهر إلا في إطار التطرف القومي للاتحاد والترقي بعد عام 1909م)،
وإبَّان الحرب العالمية الأولى وبانضمام تركيا إلى ألمانيا بدأت بريطانيا توظف رغبة العرب في الانفصال عن تركيا بقطع عهود على نفسها بإقامة خلافة عربية على رأسها الشريف حسين إذا هم ساعدوا الحلفاء في الحرب،
وبعد مساعدة العرب للحلفاء في حربهم ضد تركيا خدعتهم بريطانيا وقامت بتقسيم الدول العربية في الاتفاق المعروف باسم “سايكس – بيكو” بين بريطانيا وفرنسا، وهنا بدأ التوظيف السياسي لفكرة القومية، وكانت الغاية من ذلك عزل العرب عن السلطنة العثمانية الممتدة على جغرافية تمتد من المحيط غربًا إلى حدود الصين شرقًا ومن بلاد الهند إلى قلب أوروبا، إنّ بعض أفكار الحراك القومي لم تنتقل إلى المستويات المتقدمة من التطبيق، إلا في فترات لاحقة مع النصف الأول من القرن العشرين، فقد أعلن الشريف حسين الثورة العربية الكبرى عام 1916، والتي تبنّت الفكر القومي العربي في مواجهة الخلافة العثمانية والقومية التركية، وقد صاغ الملك فيصل دولة العراق صياغة قومية عربية، وقد ساعده ساطع الحصري التربوي المفكر القومي النموذجي والداعية الأول رائد القومية العربية وأبرز منظّريها.
ولد ساطع الحصري بن محمد هلال بن السيد بن مصطفى الحصري في صنعاء عام 1879، وهو من عائلة عربية أصلها من الحجاز وقدمت إلى حلب في القرن التاسع الهجري، من أب حلبي، كان قاضيا شرعيا فيها، وأمه هي فاطمة بنت عبد الرحمن الحنيفي، وتنتمي عائلتا الحصري والحنيفي إلى طبقة الوجهاء والأعيان، وهما عائلتان مشهورتان في حلب بسورية، وكان عمله في صنعاء حين ولادة ساطع، سمحت المكانة الاجتماعية للحصري من أن يتلقى تعليما راقيا رغم عدم التحاقه بمدرسة ابتدائية معينة بسبب تنقلات أبيه الكثيرة في ارجاء الدولة العثمانية، ثم التحق بالمدرسة الملكية الشاهانية في اسطنبول وتخرج منها عام 1900، درس ساطع في كلية العلوم السياسية في إسطنبول، رفض ساطع الحصري بعد تخرجه من الاشتغال بالوظائف الإدارية رغم تخصصه فيها، وفضل التدريس والتربية، فاشتغل لمدة خمس سنوات أستاذا للعلوم الطبيعية والقانون وعلم الاقتصاد والتاريخ الطبيعي، لكن فرضت السلطات الحاكمة رقابة عليه وعلى مقالاته التربوية التي كان ينشرها مما اضطره إلى مغادرة سلك التربية والتعليم الذي كان ضعيفا، وبعد مغادرته التعليم التحق بالسلك الإداري، فعين قائم مقام لمدة عامين برواد بشته التابعة لولاية كوسوفو في البلقان، ثم انتقل إلى فلورينا بوالية المنستير أذ اشتغل قرابة عام، والتي كان مركزا لجمعية الاتحاد والترقي والقوميين البلغار واليونان اذ لاحظ دور الكنائس ومدارس اللغات القومية في تنمية الوعي القومي، وبعد إعلان الدستور عام 1908عين مدرسا في المدرسة الشاهانية ودار الفنون في اسطنبول، وأخيرا عُيـِّـن مديراً لدار المعلمين العالية في إسطنبول، قام بعدة رحلات استطلاعية في الإطار التربوي إلى الكثير من البلاد الأوروبية للاستفادة من أنظمتها التعليمية فزار سويسرا، وفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، وإيطاليا وشارك في المؤتمر الدولي للتربية والأخلاق بـ لاهاي بهولندا، وركز جل اهتمامه في التربية والتعليم حتى لقب بأبي التعليم العثماني، في تلك المرحلة تأثر كثيرا بعلماء التربية الأوربيين وخاصة السويسري بستالونزي والفرنسي جان جاك روسو، فخصهما بدراستين مطولتين، تطرق فيهما بصفة خاصة إلى فلسفتهما في التربية والتعليم، وكان على صلة بعبد الكريم الخليل، أحد القادة العرب الذين علّقهم جمال باشا عام 1916 على أعواد المشانق، بعد انفصال الدول العربية عن تركيا انتقل إلى سورية عام 1911 وعين مفتشا للمعارف، ثم مديرا لها، أصبح وزيرا للمعارف في حكومة المملكة العربية السورية، برئاسة الملك فيصل بن الحسين، فقام بتعريب التعليم بعدما كان بالتركية، وكون لجنة لجمع المصطلحات العلمية، ووضع نواة المجمع العلمي العربي بدمشق، وكتابه: "يوم ميسلون" يقدّم صورة حيّة عن وقائع الغزو الاستعماري الفرنسي لدمشق في تموز 1920، وبطولة وزير الحربية يوسف العظمة أحد الرموز الوطنية،
غادر سورية مع الملك فيصل الذي استدعاه إلى العراق بعد تنصيبه ملكا على العراق، وأمضى ساطع في العراق عشرين سنة تنقل فيها بين المناصب التعليمية، والتدريس في دار المعلمين وكلية الحقوق، وإدارة مديرية الآثار العامة، وحد التربية والتعليم في العراق بعد وضعه مدارس مختلف الطوائف الدينية تحت إشراف وزارة المعارف، فأصبحت كل البرامج من اختصاصها باستثناء الدروس الدينية التي بقيت من اختصاص رؤساء هذه الطوائف، وهدفه من ذلك الحفاظ على الوحدة الوطنية من خلال وحدة الفكر لدى عموم الشعب، وازال مناهج التربية من رواسب الثقافة الإنكليزية وإحياء الروح العربية وبث الفكرة القومية في نفوس النشء، وشجيع البعثات الأثرية وإنشأ المتاحف ونشر الدراسات المتعلقة بالآثار العربية، وسعى لاستقدام الكفاءات من خارج العراق، واوعز بتدريس الأناشيد الوطنية والقومية، ومن أثاره، مكتبة دار الآثار التي تعد اليوم أضخم مكتبة علمية في العراق لاحتوائها على أهم مصادر تاريخ العراق، والحضارة العربية والإسلامية. وكان يسعى إلى تكوين مكتبة أثرية في كل متحف يتم إنشاؤه في مراكز المحافظات العراقية لتثقيف الطلبة والعلماء والاهالي والزوار من العرب والمسلمين والأجانب،
وأنشأ مجلة التربية والتعليم معتمدًا القومية العربية أساسًا للمناهج الدراسية، واعتنى بمناهج التاريخ، الذي يعدّه عنصرًا مهمًا في بناء الهوية العربية كهوية سياسية للأجيال الجديدة، لعب الحصري وهو في منصب مدير المعارف العام دوراً في تطوير اللغة الكردية في العراق، فلم يعارض جعلها لغة رسمية في المدن والقرى الكبرى، ودعا إلى ضرورة ترجمة الكتب المدرسية المقرر ة في الابتدائي إلى اللغة الكردية دون تغيير في مضمونها لكن دون إهمال تعليم الأكراد اللغة العربية وهدفه من ذلك الحفاظ على وحدة الفكر والتواصل بين أبناء الوطن الواحد.
نأى الحصري بنفسه عن الخوض في خضم التيارات السياسية أو التعاطي مع التشكيلات الحزبية طيلة حياته الطويلة, الامر الذي جعله بمنأى عن التصنيف من حيث الانتماء إلى هذا الفصيل أو إلى تلك الزمرة أو ذاك الفريق, وهو ما ارتفع به بدوره عن الانغماس في لعبة السياسة بكل اغراءاتها، اللهم الا حين عدوه من انصار حركة السيد رشيد عالي الكيلاني التي قامت بانتفاضتها الشهيرة في العراق عام 1941 في مواجهة النفوذ الاستعماري البريطاني.
في عام 1941، وبعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني جرد المؤلف من جنسيته وأمر بمغادرة العراق، فتوجه إلى لبنان حيث أمضى فيها ثلاث سنوات، ثم استدعته الحكومة السورية وعين مستشارا فنيا للمعارف، ثم انتقل إلى مصر لإلقاء محاضرات في جامعة القاهرة، وفي عام 1948، عين مستشارا فنيا لإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية وفي عام 1953 أصبح عميدا لمعهد الدراسات العربية العالية الذي أنشأته جامعة الدول العربية، والذي سمي فيما بعد معهد البحوث والدراسات العربية،
وبعد أن أنهكته السنون استقال من منصبه عام 1958 وتفرّغ للكتابة حتى وفاته، أعيدت إليه جنسيته العراقية عام 1958.
كانت طفولة ساطع الحصري ثرية ومشحونة، وكتب عنها كثيرًا في مجالات متنوعة، وأعطته زخمًا متنوعًا من المرئيات والثقافات والتجارب، وجعلته يبحث في كل بلد يذهب إليه عن ذاته التائهة، وهي الذات العربية، وكان بعد ذلك يجمع الكتب والمراجع والمجلدات حتى يطلّع على التاريخ المغيّب للفكرة العربية، وبالتأكيد إن كثرة البحث المصحوبة بالتجارب العملية، والتنقيب المستمر، أرشدته إلى ما لم يستطع آخرون أن يصلوا إليه، فأيقن تمامًا المفاهيم التي تشكلّت عنده فيما بعد عن الأمة والقومية والشعب وغير ذلك من أعراق وأجناس وقوميات.
درس الحصــري الحركـات القوميـة في أوروبـا، ودرس الفكـر القـومي الأوروبي في القـرن التاسـع عشـر، وبخاصـة لدى الفرنسيين والألمان، والإيطاليين، وكان يستشهد في غالبا الأحيان بأمثلة من التاريخ الأوربي، كما أخذ الأوضاع العربية في الاعتبار، ولعله وجد في فكر الالمان وظروفهم ما هو أكثر إفادة لحاجات العرب، فالأمم حسب الحصري تتميز عن بعضها باللغة، وأول من نبه إلى ذلك هم الالمان، تأثر الحصري بفلسفة المثاليين الألمان، وقرأ افكار الفيلسوف (هيردر) الذي كان يبشر بأمة المانية تقوم على انقاض شتات جرماني مقسم الى دويلات ودوقيات وولايات، وأُعجب بالمفكر الألماني فيخته وشاركه الرأي في أن اللغة أساس القومية..
يذكر الحصري "ان القومية فكرة نشأت في أوروبا واخذت تتغلغل في نفوس الشعوب في أوائل القرن التاسع عش، وتتلخص هذه الفكرة حسب قوله" (في وجوب تأسيس الدول على أساس القوميات)، فيحق لها ان تستقل في ادارة شؤنها دون ان تخضع لمشيئة امة أخرى، وان تؤسس لها دولة خاصة بها مستقلة ومنفصلة عن غيرها بهذا المعنى تصبح القومية هي المحرك الرئيسي لتطور التأريخ".
بقيت الفكرة القومية (العربية) ليست اكثر من شعار سياسي ترفعه الجمعيات السرية او الكتاب والمفكرون العرب من اجل الاستقلال السياسي عن الدولة العثمانية،، ولم ترق لأن تصبح "عنوانا لايدلوجية محددة في الوطن العربي، الا في العشرينات وبصورة خاصة في الثلاثينات من القرن العشرين، وكان الحصري أول من حاول وضع نظرية للقومية العربية، وأول من دعا إلى وحدة عربية شاملة بلا منازع في فترة ما بين الحربين العالميتين، ونادى بأن أن يكون القرن العشرين قرن القوميات في آسيا وأفريقيا، من أجل أن تقوم نهضة وأن تنعم الشعوب العربية بحياة عزيزة كريمة، كما كان القرن التاسع عشر قرن القوميات في أوروبا، فقد تبلورت في هذه القرن القوميات الألمانية والفرنسية والإيطالية، وأنه جعل اللغة العربية أولاً، والتاريخ ثانيا، وهما عنصرا القومية الرئيسيان، ومع إشارته إلى مؤثرات أخرى، إلا أنه عدها جانبية ومحدودة ألأثر، وهو الذي كان يعتبر العروبة عقيدة وإيمانًا ومنهجًا وطريقًا وأدبًا ودستورًا لنا، بذل كافة المجهودات التي وضعت الفكرة العربية على طريق التنفيذ، بدلاً من أنها كانت مجرد أضغاث أفكار وأشلاء أحلام.
الحصري كان حريصاً على تحديد مفرداته، وأهمها الوطنية والقومية، وتعني "الوطنية هي حب الوطن، والقومية هي حب الأمة، الوطن قطعة من الأرض، والأمة جماعة من البشر" هناك وطن عام ووطن خاص، وبذلك لا يختلف مفهوم الوطنية عن مفهوم القومية كثيرا، أما مفهوم الدولة فهو يرتبط بمفهوم الوطن من جهة وبمفهوم الامة من جهة أخرى، ولكن هذا الارتباط على نمط واحد في كل الدول والامم، وفي جميع أدوار التاريخ".
حدد ساطع الحصري العوامل التي بنت الأمّة العربية التي تقطن -الآن- من المغرب إلى الخليج بعاملين، هما: اللغة والتاريخ، وهو عندما فعل ذلك انطلق من المشابهة بين الأمّة الألمانية والأمّة العربية، وقاس وضع الأمّة العربية المجزّأ على وضع الأمّة الألمانية في القرن التاسع عشر، ووجد تشابهًا بين عراقة اللغة الألمانية واللغة العربية ورسوخهما في شعبيهما، كما نظر إلى عمق التاريخ في الشعبين، فتوصّل إلى أنّ الأمّة العربية مثل الأمّة الألمانية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وأنّ المشكلة الكبرى التي تواجه الأمّة العربية هي التجزئة، كما أنها هي المشكلة الكبرى التي واجهت ألمانيا في القرن التاسع عشر وتغلّبت عليها بالتوصّل إلى الوحدة من خلال مراحل تدريجية، ومن بين هذه المقومات أعطى ساطع الحصري الأهمية الكبرى لعامل اللغة، فاعتبره أساس العروبة والوحدة العربية المنشودة؛ منطلقاً من اعتبار اللغة تحمل داخلها تصورات ومشاعر وعادات وقيماً جماعية، وهو يعوّل على دور التربية والتعليم والمؤسسات التعليمية في سبيل تكوين ثقافة عربية معاصرة موحّدة، تعزز من وحدة الأمّة وتكون مقدمة للوحدة السياسية.
اعتبر ساطع الحصري: "أنّ اللغة تكوّن روح الأمّة وحياتها، والتاريخ يكوّن ذاكرة الأمّة وشعورها"، ويفصل الحصري حديثه عن هذه الصفتين، فيفسر الى ان اللغة هي ام الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس وذلك لعدة أسباب وهي: أولا ان اللغة واسطة التفاهم بين الافراد وثانيا آلة التفكير عند الفرد وثالثاً واسطة لنقل الأفكار والمكتسبات والابناء والاسلاف، ومن هنا كانت اللغة هي "روح الامة وحياتها"، وهي بمثابة محور القومية وعمودها، واما التأريخ فهو بمثابة شعور الامة وذاكرتها ، فان كل امة من الأمم ، اما تشعر بذاتها وتتعرف على شخصيتها بواسطة تأريخها الخاص، أما الدين والعوامل الاقتصادية والجغرافية والسياسية، فترتدي أهمية ثانوية. فقد تكون الأمة موجودة على الرغم من عدم وجود دولة تسوسها، وقد تكون الأمة واحدة على الرغم من كون الدول التي تحكمها متعددة.
دأب الحصرى فى سياق مهامه التربوية في مصر وسوريا والعراق، على توثيق الصلات الثقافية بين البلدان العربية، وعمل على القضاء على الفروق بين نظم التعليم العربية، وإزالة الفروق الثقافية من أجل الوصول إلى وحدة تربوية وتعليمية وثقافية تقود إلى الوحدة العربية الشاملة.
عرف الحصري " الأمة " بأنها وحدة ثقافية أولا وليس وحدة سياسية، كما يرى أن الوحدة القومية شيء طبيعي، واعتمد النظرية الألمانية في تنظيره للقومية العربية، والتي تعتبر بدورها أنّ اللغة والتاريخ هما عاملي نشوء الأمة، في حين أنّ النظريات الأخرى من مثل النظرية الفرنسية متمثلة بالحزب القومي السوري الاجتماعي، والوفد المصري. ومن مثل النظرية الستالينية متمثلة بالحزب الشيوعي، اندثرت، واستقرت القومية العربية على ما نظّر له ساطع الحصري الذي قال: "ان أسّ الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة والتاريخ، لأن الوحدة في هذين الميدانيَن هي التي تؤدي إلى وحدة المشارع والمنازع، وحدة الآلام والآمال، وحدة الثقافة، وبكل ذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمة واحدة، متميزين عن الأمم الأخرى، ”لكن لا الدين ولا السياسة، ولا الحياة الاقتصادية تدخل في مقومات الأمة الأساسية. كما أن الرقعة الجغرافية أيضًا لا يمكن أن تعتبر من المقومات الأساسية.
"الوحدة العربية"؛ فهو يؤمن بها إيمانا عميقا ويقول: "بوجوب العمل من أجلها عملاً متواصلاً لتحقيقها" وسعى لأن يغرس في الأذهان القيم اللازمة لتحقيق هذه الوحدة العربية فالعروبة أولاً كانت حقا رسالته، وفي رأيه يمكن أن تبدأ الوحدة من خلال "إقليم قاعدة" تضطلع به دولة مركزية مشدداً على دور مصر القيادي في تحقيق الوحدة، لكونها أقدم البلدان العربية في تشكيلات الدولة العصرية، ومن دون أن يتبنى موقفاً محدداً إزاء مسألة نظام الحكم، فلا مانع أن تبدأ العملية التوحيدية من خلال اتحادات جزئية، ولا مانع أن يكون نظام الحكم في دولة الوحدة ملكياً أو جمهورياً، فالوحدة هي الهدف الأعلى الذي يسمو على الاشتراطات الأخرى. عليه رحّب الحصري بحركات التوحيد العربية، وقلّل من دور المتمايزات الجغرافية والسياسية، ولا يعني هذا الكلام الذي يطرحه ساطع الحصري أي رومانسية، أو أي استسهال لتحقيق حلم الوحدة العربية، من الملاحظ أنه يناقش الأمر في كافة طروحاته بكل التعقيدات التي يشكلها الواقع السياسي والفكري والإثني بكل أطيافه السياسية والدينية والقبلية، للدرجة التي تدفعه ليناقش حتى الظروف البيئية والطبيعية للمجتمعات، ويضع كل الحسابات لكافة الأمور.
وفي الثلاثينات من القرن الماضي تعزز التوجه القومي العربي، والتوجه القومي التركي، وانعكس في الكثير من الفعاليات على صعيد الاهتمام باللغة والتاريخ والصحافة والاحزاب والتجمعات الاجتماعية وكان ساطع الحصري المربي والمفكر القومي العربي يقوم بدور كبير في تنمية الشعور الوطني، والقومي خلال سيطرته على مقدرات وزارة التربية ولعشرين سنة انتهت بحركة رشيد عالي الكيلاني 1941.
قد بنى ساطع الحصري المناهج التربوية والسياسية والإعلامية إلخ…، ونظّر لترسيخ مفهوم القومية العربية في مواجهة الإيديولوجية الدينية التي كانت سائدة من قبل، ولم يتوقّف نفوذ الفكر القومي العربي عند العراق وبلاد الشام، لكنّ نطاقه اتسع بعد الحرب العالمية الثانية، فانتشر في مصر على يد جمال عبد الناصر بعد ثورة يوليو 1952، وحلّ محل القومية الفرعونية التي حكمت مصر بعد الحرب العالمية الأولى من خلال حزب الوفد وسعد زغلول، ثم استطاع جمال عبد الناصر أن يوسّع نطاق الفكر القومي العربي، فأصبح هو الفكر النافذ في اليمن وفي عدن وفي السودان وفي الجزائر وفي ليبيا.
استطاع الحصري قبل غيره من المفكِّرين العرب أن يفهم أنَّ الوجود القوميّ لشعب من الشُّعوب، لا يمكن أن يُؤسَّسَ على العقيدة الدينيّة التي تعتنقها غالبيّة أفراد هذا الشَّعب، ففي رأيه أنَّ الوجود القوميّ للشَّعب أعلى منزلة من أيّ انتماء روحيّ في ما يتعلّق بضمان وحدة هذا الشَّعب، يرى الحصري أنّ الرابطة الدينية لا تكفي وحدها لتكوين القومية فيقول: "الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية، كما ان تأثيرها في تكوين السياسة لا يبقى متغلباً على تأثير اللغة والتأريخ، ان هذا التأثير يشتد ويتراخى، يتقوى ويتلاشى، حسب تطور علاقة الدين باللغة، ويبقى امراً ثانوياً في تكوين القوميات بالنسبة للغة والتأريخ"، طرْح الحصري هنا يبيّن مدى تبنيه للنظريات القومية الغربية، وتطبيقه لها بشكل حرفي، فالأمم الأوروبية تشكلت بعد ثورتها على الكنيسة، وحصول الفصام بين رجال الدولة ورجال الدين، فالحصري أراد تفسير ثقافة الأمة الإسلامية بعنصري اللغة والتاريخ بعيدًا عن الدين.
أيد الحصري إنشاء جامعة الدول العربية واعتبرها خطوة لتحقيق الوحدة العربية انطلاقاً من فكرة أن "الشقاق" ليس خاصية متأصلة في العرب، بل إن تواريخ سواهم من الأمم تشهد على انقسامات هؤلاء ونزاعاتهم الحادة قبل أن يتجهوا إلى الاتحاد وطنياً وقومياً، لكنه تراجع عن هذا الموقف معترفا بان جامعة الدول العربية أثرت تأثيرا سلبيا على فكرة القومية العربية ، ويعتبر قيام دولة إسرائيل في 1948 أول تحد واجهته الدول المشكلة لجامعة الدول العربية، حيث عجزت سبعة جيوش عربية من مواجهة العصابة الصهيونية في فلسطين وتلقت هزيمة نكراء أمامها.
دخل الحصري في معارك سياسية واشتباك حاد مع الشيوعيين العرب والعراقيين في نهاية عقد الخمسينات من القرن الماضي، عندما كانت للشيوعيين صولات وجولات في الوطن العربي كله، خصوصًا في مصر والعراق وسوريا ولبنان، ولم يخش الحصري أي خسارات من الممكن أن تلحق به في أي مجال، وأصدر كتابه “ثورة 14 تموز وحقيقة الشيوعيين في العراق”، والذي يعتبر من أقوى الدفاعات عن القومية العربية والنظام المصري الذي يتبناها، وناقشهم بقدر كبير من التروي والعمق والإحاطة.
كرس ساطع الحصري اهم شطر من حياته المديدة لإغناء عمليات البلورة والاستيضاح والتنظير للوجود القومي العربي مدافعا عنه بكل ما كان يملكه الحصري ضد التوجهات القطرية واهواء الشعوبية، و كان الأغزر إنتاجًا، اصدر "حوليات الثقافة العربية" الصادرة في ستة مجلّدات، وتليها كتبه التي تردُّ على دعاة الإقليمية والنعرات الطائفية وتدافع عن فكرة القومية العربية ووحدة الأمة العربية، وعددها يزيد عن عشرين مؤلفاً، من أهمها: "حول القومية العربية"، و"آراء وأحاديث في القومية العربية"، و"آراء وأحاديث في الوطنية القومية"، و"دفاع عن العروبة"، و"العروبة أولاً" و "آراء وأحاديث في اللغة والأدب" و"العروبة بين دعاتها ومعارضيها" و"دراسات عن مقدمة ابن خلدون" و"يوم ميسلون" و"هوية الثقافة العربية" و"آراء واحاديث في العلم والأخلاق"..
عاد الى بغداد سنة 1965 وتوفي في 23كانون اول 1968م، وصلى على جنازته الحاج معتوق الاعظمي في جامع ابي حنيفة، ودفن في مقبرة الخيزران قرب مرقد الشيخ رضا الواعظ، في مطلع السبعينيات كرَّمته جامعة الدول العربية وخصَّصت أسبوعاً لدراسة فكرهِ ومؤلفاته، وتقديراً لدوره القومي والتربوي.
أشاد المؤرِّخ المصري محمد عبد الرحمن في كتابه "ساطع الحصري" فقال عنه في كتابه (ساطع الحصري) : (كان ساطع على رأس الرعيل الأول الذي دعا إلى القومية العربية وإلى تجسيد هذه القومية في وقت كانت فيه شخصيةُ الأمة العربية قد ذابت في شخصيات أخرى. واتجّه أبناؤها اتجاهات شتىّ ..)، كتب ناصيف نصار، ظل الحصري منكباً على التعبير عن فكره القومي، دفاعاً وتوسيعاً، طيلة أربعة عقود تقريباً. وفيما ناضل نضالاً فكرياً دائباً موصولاً من أجل نشر الوعي القومي والتبشير بوحدة الأمة العربية، رأى عبدالله عبد الدائم، كان أول من حاول وضع نظرية للقومية العربية، وأول من دعا إلى وحدة عربية شاملة، وفق عبد العزيز الدوري، الباحث الأميركي ويليام كليفلاند، الأستاذ في جامعة برينستون كان له القدح المعلّى في كتابه القيّم: "الحصري من المفكرة العثمانية إلى العروبة"، ترجمة فكتور سحاب، بيروت 1983، محمد الخولي، "ساطع الحصري .. ثلاثون عامًا على الرحيل،" مركز دراسات الوحدة العربية، ترى الباحثة الروسية «تاتيانا تيخونوفا» في كتابها «ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي» أنّ مغزى سياسته التربوية، التي تأثر فيها بكبار المفكرين الغربيين من أمثال لوتورنو، سبنسر، كونت، رينان وغيرهم قد ارتكزت على مجابهة الأهداف التقليدية للتعليم العثماني (تربية مشاعر الولاء للسلطة وترسيخ كليشيه ثقافي معين)، وذلك من خلال تطوير خصال التلميذ الشخصية، وتنمية قدرته على التفكير الذاتي المستقل، وتقوية روح المبادرة عنده، على هذا الطريق تبرز –في رأيه- أهمية دراسة العلوم الطبيعية والدقيقة، وفسح المجال لمبادرة التلاميذ، والتربية من خلال العمل والرياضة البدنية، كما اعتبرته "فيلسوف العروبة"، وانه
"صاحب أول نظرية علمانية متكاملة في القومية العربية"، وأنه كذلك "المنور والعالم" العربي الفذ الذي أرسى «التيار العلماني في الفكر القومي العربي.
شهدت فترة أواخر الثلاثينات والأربعينات ظهور عدد من المفكرين المعاصرين للحصري الذين نشروا كثيرا من مؤلفاتهم التي تتحدث معظمها عن عناصر القومية العربية أكثر مما توضح مفهوما قاطعا للقومية العربية مثل قسطنطين زريق من خلال كتابة في "الوعي القومي"، وعلي ناصر الدين في كتابه "قضية العرب"، والشيخ عبد الله العلايلي في كتابة " دستور العرب القومي" ومحمد عزة دروزة عن كتابه "الوحدة العربية “وميشيل عفلق في كتابه" في سبيل البعث". وانصرف مفهوم القومية بمعناه العام في كتابات هؤلاء عموما إلى المعاني الآتية: "إن العرب أمة واحدة على اختلاف أقطارهم ومذاهبهم، وأن كون العرب أمة واحدة يقتضي إقامة دولة عربية واحدة وموحدة، وأن عوامل التفرقة مصطنعة، والدعوات القائمة مشبوهة ولا تثبت للنقد العلمي" يرى دعاة الفكر القومي على اختلاف بينهم في ترتيب مقومات هذا الفكر أن أهم المقومات التي تقوم عليها عناصر القومية العربية هي "اللغة والتاريخ والتقاليد والمصالح والعرق والأصالة والحضارة والآلام والآمال المشتركة".
بعد استعراض أفكار الحصري القومية، وتحليلها نستخلص الدور البارز له في تدعيم فكرة القومية العربية ومحاولة إحياءها من جديد، فهي تقدم نظرية عامة في القومية تجسد في الواقع فكر الحصري القومي التي جعلت منه مفكراً رائداً للفكرة القومية، والتي تقوم على دعاميتين أساسيتين: اللغة بالدرجة الأولى التي تكون "روح الامة وحياتها"، والتأريخ بالدرجة الثانية التي يكون " ذاكرة الامة وشعورها"، لأن الوحدة
في هذين الميدانين هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر، والمنازع، ووحدة الألآم والآمال، ووحدة الثقافة، وبكل ذلك، تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمة واحدة، متميزة عن الأمم الأخرى ولكن لا الدين، ولا الدولة، ولا الحياة الاقتصادية تدخل بين مقومات الأمة الأساسية، الا ان الهدف الأساسي للقومية عند الحصري، هو الوحدة العربية؛ فهو يؤمن بها إيمانا عميقا ويقول: "بوجوب العمل من أجلها عملاً متواصلاً لتحقيقها" وسعى إلى أن يغرس في الأذهان القيم اللازمة لتحقيق هذه الوحدة العربية فالعروبة أولاً كانت حقا رسالته.
تعرض فكر الحصري للنقد من عدة مفكرين ينتمون إلى تيارات سياسية وفكرية متباينة، وتتراوح هذه الانتقادات بين العلمية والموضوعية، يقول الباحث الأكاديمي وميض جمال عمر نظمي أن نقطة الضعف الأولي في مجمل فكر الحصري هي عدم تركيزه على عملية الصيرورة التاريخية والتكون التاريخي الذي مرت بها الأمم وحققت من خلالهما عبر فترات طويلة تكونها كأمة وهذا ما أبرزه الأستاذ الحصري نفسه بشكل رائع حين ميز بين الأمة والدولة، ولم يجعل الثانية شرطا لوجود الأولى، ولكن فاته أن يشرح و يهتم بالتطور التاريخي، ويقول الدكتور سعدون حمادي: لم تكن للحصري نظرة قومية عربية خالصة، بل له نظرة قومية عامة وعالمية تنطبق على جميع الأمم دون استثناء، فلم يميز مثال بين القومية العربية ومختلف القوميات الأوروبية أو غيرها، ولعله بذلك اراد الحصري أن تكون آرائه فعالية في نفسية العربي، لأن الإنسان بطبعه يميل الى التصورات الشمولية والعامة ويرفض تصورات خاصة بمجتمع معين فقط، لكن هذا التعميم وعدم تمييز الحصري بين القومية العربية ومختلف القوميات الأخرى، جلب عليه عدة انتقادات"، يمكن تلخيص الانتقادات فيما قاله الدكتور سعدون حمادي من حزب البعث العربي الاشتراكي، في المقدمة التي وضعها لكتاب (في سبيل البعث) للأستاذ ميشيل عفلق إذ يقول " إن مفهوم القومية هو نقيض المفهوم القومي الأوروبي" الذي يعتمد على المنطق المجرد، والذي يعتبر أن تطور القوميات يجري حسب قواعد مشتركة ثابتة تصح على جميع الأمم، اما المفكر ”ميشيل عفلق”، فقال " بأنه قليل الأبحاث المتعلقة بفكرة القومية العربية وبوحدة الأمة العربية، إضافة لشدّة الغموض الذي يكتنف آراءه في هذه الأمور، فيجعلها مائعة ورجراجة في كثير من الأحوال، كما رفض المفكر الماركسي إلياس مرقص طرح الحصري الذي يفصل بين القوميات الأوروبية والاستعمار والعنصرية والاستعلاء، و يرى بحتمية انتقالية قومية من مرحلة ايجابية إلى مرحلة سلبية توسعية وعنصرية وهذا يتضمن إنكار صراع الطبقات داخل الأمة، وبالرغم من ذلك فقد تضمنت القومية جوهرا ايجابيا هو الطموح إلى الاستقلال الوطني والوحدة القومية، والنزوع إلى تكوين الدولة القومية كمطلب ضروري من مطالب التقدم التاريخ، وكتب البعض بانه لم يقدم رؤية موضوعية واضحة للمشاكل التي يعاني منها الوطن العربي.
بالرغم من الانتقادات العلمية التي طرحها كتاب ومفكرون حول أفكار ومواقف الحصري، دون ان يؤسس حزباً علمانياً يسير عليه الاخرون، بل ظهر امام التأريخ كصاحب عقيدة و داعية، متخذاً لنفسه مساراً فكريا خاصاً يقوم على بعث المشاعر القومية والتنظير الأيديولوجي لفكرتها، ومع ذلك بكل تأكيد وبلا منازع يبقى تجربة إنسانيّة فريدة في بواطن الثقافة العربيّة الحديثة الباحثة عن جذورها المفقودة، ورائداً كبيراً من روَاد الفكر القومي العربي الساعي الدؤوب من أجل وحدة العرب، تأخرت حركة النهضة وتقدمها التي تطلع اليها العرب في القرن العشرين ولم تتحقق وحدة العرب ولم يصبحوا امة مستقلة ذات اقتصاد زاهر، تساهم في مسيرة البناء الحضاري للبشرية، بل حلت بالأمة العربية الانقسامات السياسية وزرعت فيها دولة اسمها إسرائيل..، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
758 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع