قصة طائرة السوبر اتيندارد العراقية
بقلم:هيودي جيلبون
القسم الأول
Le fana de l’aviation – Avril 2016 » Download Digital Copy Magazines And Books in PDF
ترجمها عن الفرنسية
وعلق عليها
علاء الدين حسين مكي خماس
مقدمة المترجم
قبل عدة أيام قرأت على صفحات الفيس بوك تساؤلا من قبل احد الزملاء حول طائرات السوبر ايتندارد التي استعملها العراق في قوته الحوية منذ عام 1983 . ولاهمية الموضوع وتسجيلا للتاريخ فقد قمت بترجمة كتبه الصحفي الفرنسي هيو دي جيلبون ونشره في صحيفة محبي الطيران الفرنسية المختصة بالطيران والتي ارفق لكم صورة احد اعدادها للاطلاع . وستكون الترجمة بأجزاء كما في المقال الأصلي ، راجيا للقارئ الكريم الاستمتاع بالقراءة ومتذكرا ان هذه وقائع تاريخية حدثت ودونها من شارك فيها .
تقديم كاتب المقال
في عام 1983، وبتوجيه مباشر من أعلى المستويات في الدولة الفرنسية، قررت باريس تسليم العراق خمس طائرات مقاتلة من طراز "سوبر إيتندار"، مزودة بصواريخ مضادة للسفن من طراز "إكزوسيت". كان الهدف من هذه الصفقة الواضح هو تمكين العراق من شن ضربات مؤثرة على ناقلات النفط المتجهة إلى إيران، في إطار ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ"حرب الناقلات". واليوم، ولأول مرة، يقدّم بعض الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في هذه المهمة الحساسة روايتهم الكاملة لما حدث.
الصحفي هيو دي جيلبون تناول هذه القصة التي ظلت طيّ الكتمان لعقود، نظرًا لحساسيتها الشديدة، خصوصًا وأنها ارتبطت بسياق جيوسياسي معقّد.
دو فويلار
عام 2014 والسوبر اتندارد
في احتفالية مرور أربعين عاماً على دخول طائرة "سوبر إيتندار" الخدمة، التي أقيمت في قاعدة لانديڤيزيو الجوية عام 2014، جرى طلاء إحدى الطائرات المشاركة خصيصاً بألوان وشارات الدول التي استخدمت هذا الطراز. وظهرت آنذاك شارات كل من فرنسا والأرجنتين، لكن اللافت أن الشارة العراقية كانت غائبة تمامًا – رغم أن العراق كان قد استخدم هذه الطائرات بالفعل في عمليات قتالية فعلية.
إن غياب هذه الإشارة لم يكن عرضياً. فالقصة لا تزال تُعتبر شائكة وحساسة، حتى بعد مرور كل تلك السنوات. وللعودة إلى بدايات هذه القصة، لا بد من التذكير بأن يوم 22 سبتمبر 1980 شهد بداية الحرب العراقية–الإيرانية، ( تقول الحكومة العراقية لتلك الايام ان الحرب بدأت يوم 2 سبتمبر) عندما اجتازت القوات العراقية الحدود الإيرانية، لتشعل حرباً طويلة استمرت ثمانية أعوام. ورغم أن القوات العراقية أحرزت بعض التقدم في الأشهر الأولى، إلا أن المعادلة بدأت تنقلب لصالح إيران منذ عام 1982، حيث اضطرت القوات العراقية إلى التراجع من الأراضي الإيرانية نحو الحدود. ومع هذا التراجع، بدأت القيادة العراقية تبحث عن وسائل لاستعادة المبادرة، سواء عسكرياً أو اقتصادياً.
ومن هنا نشأت فكرة توجيه ضربات استراتيجية ضد الاقتصاد الإيراني، عبر تعطيل صادرات النفط الإيرانية – وهي شريان الحياة الرئيسي لطهران. في شباط/فبراير 1982، تقدم العراق بطلب إلى شركة Avions Marcel Dassault-Breguet Aviation (المعروفة اختصارًا بـ AMD-BA) لشراء دفعة جديدة من طائرات "ميراج" F1 EQ4 وBQ، بالإضافة إلى النسخة الأحدث F1 EQ5، والتي تتمتع بقدرات متقدمة على إطلاق ذخائر موجهة بدقة، سواء ضد أهداف أرضية أو بحرية. وكان العراق قد سبق أن أبدى اهتمامه بالحصول على صواريخ "إكزوسيت" منذ عام 1978، لتسليح مروحياته من طراز "سوبر فرلون" SA 321 GV.
وفي 16 فبراير 1982، تم توقيع العقد رقم BAZ 321، والذي نصّ على تزويد العراق بـ20 طائرة ميراج F1 EQ5، بأرقام تسلسلية تبدأ من 4560 إلى 4579.
وخلال صيف عام 1982، تسارعت الأحداث الميدانية. ففي 13 يوليو، شنت القوات الإيرانية هجومًا كبيرًا عرف باسم عملية "رمضان"، وتمكنت من اختراق العمق العراقي باتجاه مدينة البصرة. وردًا على ذلك، أصدر الرئيس صدام حسين في 12 أغسطس قرارًا بفرض حصار على محطة التصدير النفطية الإيرانية في جزيرة خرج، الواقعة على بعد نحو 200 كلم من السواحل العراقية.
وبموجب هذا القرار، تم إعلان منطقة حظر بحري في الجزء الشمالي من الخليج العربي، يُمنع فيها أي نشاط ملاحي متجه إلى إيران. لكن فرض هذا الحظر لم يكن ممكناً من دون امتلاك وسائل عسكرية مناسبة لتنفيذه.
في تلك المرحلة، كانت مروحيات "سوبر فرلون" تمثّل الأداة الوحيدة المتاحة للقوات البحرية العراقية لتنفيذ عمليات بحرية ضد السفن. وكانت هذه المروحيات مزوّدة برادار "أوميرا" وصواريخ "إكزوسيت"، لكنها كانت محدودة المدى، وعرضة للاستهداف بسهولة من قبل طائرات الدورية البحرية الإيرانية "أوريون" P-3F أو الطائرات المقاتلة الإيرانية، مما جعل استخدامها محصورًا في المناطق القريبة من الساحل فقط.
ومع ذلك، تمكّنت هذه المروحيات من تنفيذ ضربات ناجحة في قناة خور موسى، التي تؤدي إلى ميناء بندر خميني، ما ساهم مؤقتًا في تعطيل الملاحة الإيرانية في تلك المنطقة.
لكن الواقع كان يفرض نفسه: العراق كان بحاجة إلى وسيلة جوية أكثر تطورًا، ذات مدى أوسع وقدرة على التحليق ليلاً وملاحقة ناقلات النفط الإيرانية التي كانت تغادر جزيرة خرج تحت جنح الظلام، وتبقى قريبة من الساحل الإيراني حتى تصل إلى مضيق هرمز، حيث تأمل بتفادي أي استهداف.
ومع تزايد الحاجة الملحّة، أصبح من الضروري الإسراع بتوفير طائرات مقاتلة بحرية، تمتلك القدرة على تنفيذ عمليات هجومية دقيقة بعيدة المدى، وتعمل بكفاءة في بيئة معقدة كالخليج، ليلاً ونهاراً.
العراق يطلب السوبر اتندارد
في أكتوبر عام 1982، وجّه اللواء عامر رشيد، المدير العام الفني العراقي – والذي يعادل منصب المندوب العام للتسليح – دعوة عاجلة إلى بغداد للمهندس الفرنسي رينيه-بيير أودرون، وهو أحد كبار مسؤولي التسلح الفرنسيين المكلفين بملف العراق. كان أودرون يشرف على صفقات الأسلحة الموجهة لبغداد باسم مديرية التسليح العامة الفرنسية (DGA)، وكان معروفًا في الأوساط الفرنسية بلقب "السيد عراق" نظراً لدوره المحوري في إدارة العلاقات العسكرية مع بغداد، خاصة ما يتعلق ببرنامج طائرات "ميراج F1 EQ".
إلا أن تطوير النسخة الجديدة من هذه الطائرة، "ميراج F1 EQ5"، كان يستغرق وقتًا طويلاً، ولم يكن متوقعًا أن تكون أولى الطائرات جاهزة قبل أواخر عام 1984، على أن يبدأ تشغيلها في بداية 1985. وفي ظل هذا التأخير، طلب اللواء عامر من فرنسا إيجاد حل مؤقت، يمكن أن يسد هذا الفراغ العملياتي الحرج.
وكان العراقيون قد لفت انتباههم أداء طائرة "سوبر إيتندار" الفرنسية خلال حرب المالوين (الفوكلاند) قبل أشهر قليلة، حيث أثبتت فاعلية كبيرة عندما استخدمتها القوات الجوية الأرجنتينية ضد البحرية البريطانية، خصوصًا عند تسليحها بصواريخ AM-39 إكزوسيت المضادة للسفن. وبخلاف الأرجنتينيين، لم يكن اهتمام العراقيين متعلقًا بقدرة الطائرة على الإقلاع من حاملات الطائرات، بل كان تركيزهم منصبًا على شيء واحد: القدرة الفورية على إطلاق صواريخ "إكزوسيت" في بيئة حرب بحرية.
وفي 11 أكتوبر 1982، وبينما كان يقيم في فندق الشيراتون وسط بغداد، أرسل أودرون رسالة بخط يده عبر الفاكس مباشرة إلى وزير الدفاع الفرنسي آنذاك، شارل إيرنو، متجاوزًا القنوات الدبلوماسية المعتادة بما في ذلك السفارة الفرنسية في بغداد، تجنبًا لأي تسريبات. أوضح في رسالته أن اللواء عامر طلب منه استطلاع إمكانية تزويد العراق بأربع إلى ست طائرات "سوبر إيتندار" تابعة لسلاح البحرية الفرنسية، إما عن طريق الشراء أو الاستئجار، كحل مرحلي ريثما يتم تسليم طائرات "ميراج F1 EQ5".
وقد شدد أودرون على أن المسألة بالغة الحساسية، وأن تسريبها قد يُحدث – حسب تعبيره – "انفجارًا نوويًا" من حيث الأثر الإعلامي والسياسي.
وهكذا انطلقت فصول ما عُرف لاحقًا باسم "قضية السوبر إيتندار العراقية".
اطلاق الضوء الأخضر للتجهيز
في 22 أكتوبر من العام نفسه، أعطى رئيس الوزراء الفرنسي بيير موروا الضوء الأخضر للتجاوب مع الطلب العراقي، وبدأت الدولة الفرنسية على الفور بترتيب عملية التسليم. تم الاتفاق على ألا تكون الدولة الفرنسية ظاهرة في الواجهة، بل أن تتولى شركة داسو (AMD-BA) دور الوسيط التجاري الرسمي، لتجنب أي مظهر يُوحي بأن باريس تبيع أسلحة لدولة في حالة حرب نشطة.
وفي أواخر 1982، زار هوغ دو ليستوال، المدير العام للشؤون الدولية في شركة داسو، بغداد للقاء كبار المسؤولين العراقيين، ومواصلة التنسيق حول تفاصيل الصفقة. لكن سرعان ما بدأت تتسرب خيوط العملية إلى العلن. ففي يناير 1983، زار وفد عراقي رسمي باريس برئاسة طارق عزيز، نائب رئيس الوزراء، في إطار زيارة عمل. وخلال الفترة من 3 إلى 9 يناير، عقد الوفد سلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى، شملت لقاءً مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وعدد من الوزراء البارزين. وقد ناقشت المحادثات قضايا مختلفة، من بينها التعاون الاقتصادي وتزويد العراق بالنفط الخام، إلى جانب موضوع تسليم طائرات "سوبر إيتندار".
في الكواليس، كان وزير الدفاع شارل إيرنو يمارس ضغوطًا مباشرة على الرئيس ميتران للموافقة على تنفيذ الصفقة، مبررًا ذلك بالحاجة إلى إعادة التوازن العسكري في الخليج، بعد أن أصبحت الكفة تميل لصالح إيران. وبالفعل، وافق الرئيس ميتران شخصيًا على تسليم خمس طائرات للعراق، بشرط ألا تكون مزودة بأي تجهيزات ذات طبيعة نووية. كما أقرّ تدريب الطيارين والفنيين العراقيين في فرنسا. وهكذا وُلد المشروع السري المعروف باسم "عملية ميلان" (Milan).
صحيفة "لو كانار أونشينيه" تكشف الاسرار
كانت كل تفاصيل الصفقة تتم بسرية تامة، ضمن دائرة ضيقة للغاية داخل الدولة الفرنسية. لكن في 2 فبراير 1983، فجّرت صحيفة "لو كانار أونشينيه" القضية على صفحاتها، بعنوان صادم: "ميتران يبيع صواريخ إكزوسيت للعراق لقطع طرق النفط الإيراني". أثارت المقالة ضجة إعلامية وسياسية كبيرة، ووضعت الحكومة الفرنسية في موقف دفاعي أمام الرأي العام المحلي والدولي.
في تلك الفترة، كان خط إنتاج طائرات "سوبر إيتندار" في مراحله الأخيرة، وقد توقّف فعليًا عن التصنيع، إذ كانت آخر طائرة قد خرجت من خطوط الإنتاج. ورغم ذلك، تقرر تلبية الطلب العراقي من خلال تخصيص خمس طائرات من الطلبيات الأصلية المخصصة لسلاح البحرية الفرنسية. ولأن الإجراءات الإدارية كانت ستكون معقدة فيما لو تم تسليم الطائرات أولًا إلى البحرية ثم سحبها منها لصالح العراق، تقرر أن تُقتطع الطائرات الخمس مباشرة قبل تسليمها الرسمي. تم اختيار أحدث الطائرات المتوفرة، وهي التي لم تكن قد دخلت الخدمة بعد، لتُباع إلى العراق ضمن عقد خاص تضمّن بندًا يُتيح للدولة الفرنسية استرجاعها لاحقًا.
الطائرات الخمس التي خُصصت للعراق تحمل الأرقام التسلسلية التالية:
• الطائرة رقم 65، وهي الأخيرة من طلبية خامسة تضم 15 طائرة تم التعاقد عليها بتاريخ 27 أبريل/نيسان 1978.
• الطائرات رقم 66، 67، 68، و69، وهي أول أربع طائرات من الطلبية السادسة والأخيرة، والتي شملت 6 طائرات، تم التعاقد عليها في 8 مايو/أيار 1979.
وفي ربيع عام 1983، تم توقيع ملحق تعاقدي بين شركة "داسو" ومديرية التسليح الفرنسية (DGA)، ينص على تعويض الدولة الفرنسية ماليًا مقابل عدم استخدام هذه الطائرات في الخدمة العسكرية. وجاء التعويض على شكل رسوم تُدفع عن المبالغ التي سبق أن خُصصت لتصنيعها لصالح البحرية.
في 26 مايو/أيار 1983، صدر القرار الرسمي عن وزير الدفاع الفرنسي، بتخصيص الطائرات الخمس لشركتي AMD-BA (داسو) وSnecma، لأغراض إعادة التهيئة والتسليم.
وفي 2 يونيو/حزيران من العام نفسه، وُقّعت اتفاقية بين الدولة الفرنسية والشركتين المصنعتين، نصّت على أن تُسلم الطائرات إلى العراق بـ"النسخة AM 39"، أي من دون التجهيزات التي تسمح باستخدام السلاح النووي التكتيكي AN 52. كما تضمّنت الاتفاقية بندًا يقضي بإعادة الطائرات الخمس إلى البحرية الفرنسية في موعد أقصاه يونيو 1985، بعد إخضاعها للفحص من قبل جهاز الرقابة الصناعية على التسليح (SIAR)، وهو الجهة المخولة باستلام الطائرات. بعد ذلك، تُنقل الطائرات إلى ورش شركة "داسو" لتُعاد تهيئتها بما يتوافق مع مواصفات الخدمة البحرية. كما ألزمت الاتفاقية شركة داسو، في حال عدم استعادة أكثر من طائرتين، بإعادة تصنيع البدائل وفق جداول إنتاج جديدة، وهي عملية كانت ستُضاعف تكلفة تصنيع كل طائرة مقارنة بسعرها الأصلي ضمن خطوط الإنتاج النظامية.
لكن ما لبث أن تم تسريب هذه الترتيبات المصنفة ضمن أسرار الدفاع، حيث نشرت صحيفة لوموند في 24 يونيو/حزيران 1983 معلومات مفصلة حول الاتفاقية. أثار التسريب موجة من الانتقادات، ما دفع وزير الدفاع إلى إصدار أمر فوري بفتح تحقيق. وفي اليوم التالي، أُرسل ثلاثة مفتشين من مديرية حماية وأمن الدفاع (DPSD) إلى مقر شركة "داسو" في مدينة ڤوكغسون (Vaucresson)، لاستجواب الموظفين الذين كانت بحوزتهم الوثائق المصنفة سرية. لكن التحقيق كان أقرب إلى الشكلية، إذ كان مصدر التسريب معروفًا في الأوساط العليا: موظف رفيع في وزارة الخارجية الفرنسية، كان على خلاف مع وزير الدفاع، ويعتقد أن باريس تميل بشكل مفرط إلى دعم العراق في هذا النزاع الإقليمي المعقد.
التهديدات الإيرانية والتصعيد الدبلوماسي
ما إن بدأت ترتيبات تسليم طائرات "سوبر إيتندار" إلى العراق تدخل حيّز التنفيذ، حتى واجهت فرنسا عاصفة دبلوماسية شديدة. فطهران، التي كانت تتابع مجريات الصفقة عن كثب، سارعت إلى التحذير العلني، معتبرةً أي تسليم للطائرات الفرنسية عملاً عدائيًا يرقى إلى مستوى "المشاركة المباشرة في الحرب" إلى جانب العراق. لم تكتف إيران بالتنديد السياسي، بل هددت بإغلاق مضيق هرمز – الشريان الحيوي الذي تمر عبره معظم صادرات النفط الخليجية – وهو تهديد لم يُؤخذ باستخفاف، بالنظر إلى التوتر الإقليمي. كما أطلقت تحذيرات بشأن إمكانية تنفيذ عمليات انتقامية ضد المصالح الفرنسية في عدة مناطق حول العالم، بما في ذلك إفريقيا ولبنان ودول الخليج.
في الوقت نفسه، كانت باريس تحت ضغط دولي متزايد. فقد طالبت الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، واليابان الحكومة الفرنسية بإلغاء الصفقة ومنع تصدير الطائرات إلى العراق، مخافة أن تؤدي إلى تصعيد إضافي في الحرب العراقية-الإيرانية.
متران يبرر
الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، في محاولة لتبرير الموقف أمام حلفائه الغربيين، أوضح لوزير الخارجية الأميركي جورج شولتز أن هدف العملية ليس دعم العراق هجوميًا، بل تحقيق نوع من الردع المتوازن تجاه إيران. وأكد أن باريس طلبت رسميًا من الحكومة العراقية عدم استخدام طائرات "سوبر إيتندار" لمهاجمة المنشآت النفطية أو السفن في الخليج.
لكن تلك التطمينات لم تكن كافية لتبديد الشكوك. فقد قال رئيس البرلمان الإيراني آنذاك، هاشمي رفسنجاني، بكل صراحة: "لدينا القدرة على إغلاق مضيق هرمز... حتى وإن أدى ذلك إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة."
وهكذا، أصبحت الطائرات الفرنسية الخمس – رغم عددها المحدود – تمثل عنصرًا مؤثرًا في ميزان القوى في الخليج، مما زاد من سخونة الصراع الإقليمي المحتدم.
تدريب الطواقم العراقية: بداية مهمة "ميلان"
قبل تسليم الطائرات، كان لا بد من إعداد الطيارين والفنيين العراقيين لاستخدام هذا السلاح المتقدم بكفاءة. وقد أُسندت هذه المهمة إلى شركة NAVFCO (الشركة الفرنسية البحرية للتعاون والتدريب والاستشارات)، المختصة في تقديم الدعم الفني والتدريب للجهات الأجنبية.
بتاريخ 27 مايو/أيار 1983، حصلت الشركة على عقد رسمي من السفارة العراقية في باريس لتنفيذ برنامج تدريب شامل يشمل ستة طيارين وسبعة وثلاثين فنيًا ومهندسًا من سلاح الجو العراقي. وقد تقرر أن يتم التدريب بين 20 يونيو و16 سبتمبر 1983 في قاعدة الطيران البحري لانديڤيزيو (BAN Landivisiau) في منطقة بريتاني، شمال غرب فرنسا.
تولّى قيادة الوفد العراقي قائد السرب 89 العراقي المختص بطائرات "ميراج F1 EQ"، بينما أُنيط الإشراف العام على التدريب بقائد القاعدة البحرية الفرنسية الكابتن البحري ميشيل رينيو. ومنذ تلك اللحظة، بدأت العملية السرية تتخذ طابعًا عمليًا… تدريبات، محاكاة، تجهيزات، وكثير من الحذر السياسي.
تشكيل محموعة تدريب للطيارين العراقيين
تولّى الكابتن البحري روبرت فويي (Robert Feuilloy)، القائد السابق للسرب البحري 11F، مهمة الإشراف العام على تدريب الطيارين العراقيين. يروي فويي كيف تلقى هذا التكليف المفاجئ قائلًا:
"كنت في نهاية عامي الأول في الكلية العليا للحرب البحرية (ESGN)، عندما تواصلت معي إدارة شؤون الأفراد العسكريين، بناءً على طلب من السيد Lejeune – وهو ضابط احتياط سابق أصبح متعاونًا مدنيًا مع شركة NAVFCO – لاختيار طيار مؤهل لقيادة فريق التدريب. لم أتردد لحظة في قبول المهمة، وتمت إعارتي إلى الشركة لمدة ثلاثة أشهر في صيف 1983، بصفة مدنية، عوضًا عن إجازتي السنوية. كنت متحمسًا جدًا للفكرة، حتى إنني تقدمت لاحقًا بطلب للمشاركة في مهمة بالعراق، لكن انخراطي في برنامج دراسي حال دون ذلك." ولضمان التنسيق الفني، أُرفق الرائد "روات" (Rouat)، وهو ميكانيكي طيران متخصص في طائرات "سوبر إيتندار"، بشركة NAVFCO للعمل جنبًا إلى جنب مع قائد فريق "ميلان".
أما الطاقم الفرنسي المكلف بالتدريب فضم ثلاثة طيارين ذوي خبرة في قيادة الدوريات الجوية من السرب 11F، هم:
• الملازم البحري جاك دو فيلار (Jacques de Villars)،
• الملازم البحري فرانسوا جيرار (François Gérard)،
• الرقيب الأول ديدييه بولان (Didier Poulain).
إلى جانب هؤلاء، شارك في المهمة 25 ميكانيكيًا من اختصاصات متعددة، يعملون تحت إشراف ضابط فني. كما تم تعيين ثمانية مترجمين لتسهيل التواصل بين الفريق العراقي والمدربين الفرنسيين، باللغات العربية، والإنجليزية، والفرنسية.
الآراء داخل الفريق الفرنسي كانت متباينة. بعض الطيارين أبدوا حماسًا كبيرًا للمشاركة في هذه المهمة غير الاعتيادية، بينما تعامل آخرون معها بفتور أو تردد.
يروي الملازم البحري جاك دو فيلار تفاصيل اللحظة التي تبلّغ فيها بتكليفه:
"في 24 يونيو 1983، وبينما كنا نعود على متن حاملة الطائرات (فوش) من تمرين “أوشن سفاري” في المحيط الأطلسي، أُبلغت بأنني سأنزل من السفينة في اليوم التالي لتولي تدريب الطيارين العراقيين الذين كانوا قد وصلوا لتوّهم إلى فرنسا. لم أكن أتوقع الأمر، لكنه كان تحديًا جديدًا ومثيرًا." "كنت آنذاك منضويًا تحت إدارة تجارب الطيران التابعة للبحرية الفرنسية."
في إطار تجهيز البنية الفنية والتدريبية اللازمة، جرى تسليم مجموعة من قطع الغيار والمعدات التقنية الأساسية لتشغيل الوحدة العراقية بصورة مستقلة إلى شركة AMD-BA، وذلك لاستخدامها ضمن برنامج التدريب. كما تم تخصيص أربع طائرات من طراز "سوبر إيتندار" تابعة للسرب 11F، يستخدمها الطيارون الفرنسيون المدربون كل صباح في تنفيذ مهام التحليق والتعليم، بينما استخدم الطيارون العراقيون الطائرات الخمس المخصصة لهم خلال التدريب الفعلي.
ويستكمل روبرت فويي روايته:
"أُبلغت لاحقًا أنني قد تم اختياري للسفر إلى العراق كمدرب للطيارين. كنتُ حينها الضابط الوحيد المتوفر الذي يستوفي كافة الشروط: رتبة مناسبة، قائد دورية، ومؤهَّل للهبوط على متن حاملات الطائرات في الليل والنهار على حد سواء. في البداية، لم أكن راغبًا في قبول هذه المهمة – بل وعبّرت رسميًا عن رفضي لها – لكنني تلقيت أمرًا صريحًا من نائب الأميرال كلوتز (Klotz)، فامتثلت للقرار دون جدال."
"أُبلغت كذلك أنه سيتم توظيفي لاحقًا في شركة (داسو)، وبذلك سأنهي خدمتي في البحرية، إذ كنت أنتمي آنذاك إلى فئة ضباط الاحتياط العاملين بموجب عقود طويلة الأمد (ORSA)."
وفي صباح الأحد 26 يونيو/حزيران 1983، أقلع فويي من على متن حاملة الطائرات بعد عبور جزر الأزور، مستعينًا بالمنجنيق ( وهو جهاز دفع الطائرة من على ظهر حاملة الطائرات Catapult ) المخصص للإقلاع السريع، متجهًا بمفرده نحو قاعدة لانديڤيزيو الجوية. وصل إلى هناك في وقت متأخر من الليل، مرهقًا بعد الرحلة الطويلة، ليبدأ منذ تلك اللحظة مهمته الجديدة رسميًا، معارًا من البحرية لصالح المهمة العراقية في إطار برنامج "ميلان".
في منتصف شهر يونيو/حزيران 1983، التقى روبرت فويي للمرة الأولى بأفراد البعثة العراقية في العاصمة الفرنسية باريس. كان الطيارون والميكانيكيون العراقيون قد وصلوا حديثًا، حيث أقلتهم طائرة نقل عسكرية من طراز "أنتونوف" من العراق إلى فرنسا، ومنها استقلوا القطار نحو مدينة شاتورو (Châteauroux). بعد الوصول، نزلوا في أحد فنادق حي بوغرنيل (Beaugrenelle) الباريسي. ضمّ الفريق التدريبي ستة طيارين عراقيين، جميعهم من ذوي الخبرة في قيادة مقاتلات "ميراج F1". وفقًا للمواصفات المطلوبة، يفترض أن يكون لدى كل منهم أكثر من 400 ساعة طيران، منها على الأقل 200 ساعة على الطراز نفسه. غير أن المفاجأة كانت أنهم وصلوا من دون أي دفاتر طيران أو سجلات رسمية.
قاعدة لاندفيزيو مكانا للتدريب
في الأيام التالية، التحق الفريق العراقي بقاعدة الطيران البحري في لانديڤيزيو (BAN de Landivisiau). ووصل الطيارون إلى القاعدة بتاريخ 20 يونيو/حزيران، بينما استكملت الكوادر الفنية والميكانيكية انضمامها بحلول 11 يوليو/تموز 1983، بعد أن تلقى الميكانيكيون تدريبًا أوليًا على صواريخ "إكزوسيت" AM 39 في منشآت شركة SNIAS (الشركة الوطنية للصناعات الجوية والفضائية) بمدينة شاتيون (Châtillon).
خُطط لكل تفاصيل البرنامج بدقة لضمان انتقال سلس ومنظّم للتدريب، ضمن بيئة محكمة تشرف عليها البحرية الفرنسية.
وفي 29 يونيو/حزيران، توجّه فويي برفقة الكابتن فتران (Witrand)، رئيس قسم العمليات في القاعدة، على متن طائرة خفيفة من طراز MS 760 "باريس" إلى قاعدة مون-دو-مارسان (Mont-de-Marsan)، حيث التقيا بالكابتن أندريه مارشي (André Marchi)، قائد السرب المؤقت المسؤول عن تحويل الطيارين العراقيين إلى طائرات "ميراج F1 EQ". خلال اللقاء، قدّم فويي إيجازًا شاملاً حول خطة التدريب، مرفقًا بنصائح تعليمية ثمينة كان لها دور لاحق في تعزيز أداء المتدربين في لانديڤيزيو.
ومع تطور البرنامج، تم تقسيم دورة التدريب إلى مرحلتين مميزتين أُطلق عليهما لاحقًا اسم "ميلان 1" و**"ميلان 2".
كانت "ميلان 1" تمثّل الدورة الأساسية التي تم إعدادها مسبقًا من قبل شركة NAVFCO، وقد نُفذت حسب الجدول المقرر ما بين 20 يونيو/حزيران و16 سبتمبر/أيلول 1983**.
وشملت هذه الدورة مرحلتين رئيسيتين للطيارين العراقيين:
• المرحلة الأولى: استمرت خمسة أسابيع، خُصصت للتدريب الأرضي ضمن وحدة التعليم الفني في قاعدة لانديڤيزيو. وتضمنت استخدام جهاز محاكاة الطيران الخاص بطائرة "سوبر إيتندار"، بالإضافة إلى دروس نظرية مكثفة.
• المرحلة الثانية: انتقل فيها المتدربون إلى الجانب العملي. فبدأوا أولاً بالطيران على متن طائرة التدريب MS 760 "باريس" التابعة للسرب 57S، قبل أن ينتقلوا لاحقًا إلى التحليق بطائرة "سوبر إيتندار" نفسها.
منهج التدريب الدورة الأساسية ( ميلان1)
شكّلت المرحلة التدريبية للطيارين العراقيين تجربة غنية ومكثفة، حرص الفرنسيون على تنظيمها بأعلى درجات الاحترافية والانضباط. وقد تم إعداد برنامج أساسي لكل طيار يتضمن خطوات متدرجة تبدأ بالتأهيل النظري وتنتهي بالمهمات القتالية الجوية المعقدة. ويتكوّن البرنامج من المراحل التالية:
• عشر طلعات جوية على طائرة التدريب ذات المقعدين MS 760 "باريس"، خصصت للتأقلم مع بيئة الطيران البحري المنخفض.
• تسع جلسات محاكاة على جهاز طيران مخصص لطائرة "سوبر إيتندار"، لتدريب الطيار على إجراءات الطوارئ والتحكم في ظروف معقدة.
• واحد وعشرون طلعة جوية فعلية على متن طائرة "سوبر إيتندار"، مقسّمة وفق المهام التالية:
o ست طلعات للتعوّد على خصائص الطائرة.
o طلعتان في ظروف انعدام الرؤية.
o طلعتان للمناورة الجوية.
o طلعة واحدة لاستخدام نظام الأوتومات (التحكم الذاتي بقوة الدفع للمحافظة على زاوية الطيران).
o ثلاث طلعات للملاحة.
o ثلاث طلعات لهجوم بحري.
o طلعة واحدة للتزود بالوقود في الجو.
o ثلاث طلعات ليلية، وهي من أكثر المهمات تعقيدًا وحساسية.
الدورة التكميلية ميلان(2)
أما الدورة التكميلية، المسماة "ميلان 2"، فقد نظمتها البحرية الفرنسية خصيصًا لتوسيع نطاق التدريب العملي. أُقيمت هذه الدورة ما بين 19 سبتمبر و6 أكتوبر 1983، وشكّلت امتدادًا للدورة الأساسية، مركّزةً على تعزيز المهارات المتقدمة في الهجوم البحري والطيران الليلي والمناورة تحت الضغط.
تسليم طائرات السوبر ايتندار الى العراقيين
في 30 يوليو/تموز، تم تسليم أول ثلاث طائرات "سوبر إيتندار"، حاملة الأرقام 65، 66، و67، بعد تعديلها وفق معايير التصدير من قبل شركة AMD-BA في قاعدة كازو (Cazaux). نُقلت هذه الطائرات إلى قاعدة لانديڤيزيو لتكون في تصرّف الطيارين العراقيين، الذين استخدموها خلال الأسابيع الأولى من برنامج الطيران العملي.
وفي 19 أغسطس/آب، أُضيفت الطائرتان الأخريان، رقم 68 و69، إلى الأسطول التدريبي، ليكتمل بذلك تسليم الخمس طائرات المتفق عليها. ومن المفارقات أن كتيبات الطيران باللغة الإنجليزية لم تكن قد وصلت من شركة داسو إلا بعد أن أنهى بعض الطيارين العراقيين أولى طلعاتهم الفردية (Solo)، وهو ما يؤكد مدى استعجال الجدول الزمني وضيق الوقت المتاح.
انطلقت أولى الرحلات التدريبية على طائرة MS 760 "باريس" في 27 يونيو/حزيران، واستمرت حتى أوائل أغسطس/آب. كان كل طيار عراقي يصعد برفقة طيار فرنسي، في مقعد المساعد، لتعلّم الطيران البحري على ارتفاعات منخفضة، في ظروف النهار والليل. لكن عمليات الإقلاع والهبوط كانت حكرًا على المدربين الفرنسيين وحدهم.
وقد شملت إحدى الرحلات الأولى جولة استطلاعية فوق منطقة بريتاني، طاف خلالها الطيارون فوق مجموعة من المعالم الساحلية والمائية مثل: جزيرة باتز، جزيرة ڤيرج، جزيرة أويسان، رأس راز، ورأس بنمارك.
كما تم تنفيذ بعض الرحلات الإضافية المخصصة لتدريب الملاحة المنخفضة خلال شهر سبتمبر/أيلول، استكمالاً للمهارات التي اكتسبها الطيارون في مرحلة "ميلان 1"، تمهيدًا لبدء المرحلة العملياتية التي ستلي لاحقًا في العراق.
وفي الخامس من أغسطس/آب، انطلقت أولى الطلعات الفردية للطيارين العراقيين على متن طائرات "سوبر إيتندار ، وكانت تجربة فريدة مرت بسلاسة مع بعض الملابسات الفريدة لا مجال لذكرها في هذه العجالة
التدريب اليلي
التحضير النفسي قبل الطلعات الليلية
كان البرنامج الأساسي يتضمن ثلاث طلعات ليلية لكل طيار، لكن نظراً للتوتر الذي أبداه المتدربون، تقرر إضافة طلعتين تدريبيتين إضافيتين لكل منهم. ورغم فاعلية جهاز محاكاة الطيران في التحضير للطلعات الليلية، إلا أن القلق من الطيران الليلي كان كبيرًا لدرجة دفعت الطيارين لطلب تخصيص أسبوع تدريب باستخدام طائرة "ميراج F1" الثنائية المقعد، التي كانت أكثر أمانًا نفسيًا لهم كونهم قد ألفوا الطيران عليها ومارسوه كثيرا . تم تلبية الطلب، ونُقل الطيارون على دفعات من ثلاثة أفراد إلى قاعدة مون-دو-مارسان، بين 20 أغسطس و4 سبتمبر، على متن طائرة "فالكون 10 MER".هناك، نفذ كل طيار ثلاث طلعات ليلية تحت إشراف مدربين فرنسيين. ونجحت هذه التجربة في تهدئة مخاوفهم، لكنها تسببت أيضًا في تأخير أسبوع كامل في جدول التدريبات النهارية بطائرة "سوبر إيتندار"، ما أثّر لاحقًا على سير بقية البرنامج التدريبي، وخاصة حصص الطيران الليلي.
تدريب التزود بالوقود جوًا
بدأت تدريبات التزود بالوقود جوًا في 23 أغسطس/آب، وكان مخططًا أن يخضع كل طيار لطلعة واحدة فقط. إلا أن مستوى الأداء أظهر الحاجة إلى طلعتين إضافيتين لضمان اكتساب المهارة المطلوبة. ورغم هذه الحاجة، لم يتمكن جميع الطيارين من إكمال التدريب، إذ توقفت مهمات التزود بالوقود في 1 سبتمبر بعد سحب كبسولة التزود الوحيدة من نوع "دوغلاس" (Douglas) لتُستخدم في مهمة أخرى على حاملة الطائرات "فوش" المتمركزة حينها قبالة السواحل اللبنانية. ورغم هذه العقبة، نُفذت 13 طلعة من أصل 18. كانت أول طلعتين تدريبيتين من نوع "الالتحام الجاف" (أي دون نقل فعلي للوقود). وقد تمكن اثنان فقط من الطيارين من تحقيق الالتحام الناجح من المحاولة الأولى. أما الطلعات غير المنفذة، فقد تقرر تعويضها لاحقًا من خلال التدريب على الهجمات البحرية.
تدريب الهجوم البحري
انطلقت التدريبات الخاصة بمهمات الحرب المضادة للسفن في 6 سبتمبر/أيلول، حيث خضع كل طيار لست طلعات تخصصية. نُفذت هذه الطلعات على أهداف محددة مسبقًا، تبدأ من ارتفاع 300 متر، وتنخفض تدريجيًا إلى 150 ثم 100 متر، وتتضمن مراحل متعددة: اكتشاف الهدف باستخدام الرادار، تحديده بدقة، ثم محاكاة إطلاق الصاروخ.
ومن أبرز هذه الطلعات، ما جرى في 13 سبتمبر/أيلول قبالة ساحل كارنَك، حيث استُهدفت سفينة دورية فرنسية من طراز "أڤيسو" تحمل اسم "ثاني رقيب لو بيهان" (Second Maître Le Bihan).
تدريب الفنيين العراقيين
شارك في برنامج التدريب الفني 37 ميكانيكيًا عراقيًا، معظمهم سبق له العمل على طائرات "ميراج F1"، وكان بعضهم يتقن اللغة الفرنسية. بدأ التدريب داخل وحدة التعليم الفني في قاعدة لانديڤيزيو، تحت إشراف الملازم أول بول (Paul)، قبل الانتقال إلى التدريب العملي على المدرج بإشراف الملازم أول لو بيهانيك (Le Bihannic). أظهرت الطائرات جاهزية تقنية عالية طوال فترة التدريب، الأمر الذي ساهم في غياب الأعطال الكبيرة، وسهّل استخدام عدد أكبر من الطائرات في الحصص اليومية. وقد توزعت اختصاصات الفنيين العراقيين كما يلي:
• 18 فنيًا في ميكانيك وكهرباء الطائرات.
• أربعة فنيين في تسليح الطائرات – تخصص كهرباء – خضعوا لتدريب نظري لمدة ثلاثة أسابيع على صاروخ AM 39 في منشأة "أيروسباسيال" (Aerospatiale) في شاتيون.
• أربعة فنيين آخرين – تخصص ميكانيك – تلقوا تدريبًا عمليًا مباشرًا لمدة أسبوع على نماذج لصاروخ "إكزوسيت"، داخل قاعدة لانديڤيزيو، بإشراف شركة "أيروسباسيال".
• تسعة فنيين متخصصين في أنظمة الرادار، تم تدريبهم على نظام الملاحة والهجوم (SNA) الخاص بطائرة "سوبر إيتندار".
• فنيان اثنان متخصصان في أجهزة الإنقاذ والسلامة، باشرا تدريبًا أوليًا في شركة SEMMB، المزوّدة لمعدات الإنقاذ ومقاعد القذف من نوع "مارتن بيكر" (Martin-Baker)، واستكملا تدريبهما في قاعدتي كوير (Cuers) ولانديڤيزيو.
عقبات تدريبية
واجه المدربون الفرنسيون تحديين رئيسيين خلال البرنامج الفني:
1. التعديلات التي أُجريت على نظام الملاحة والهجوم لطائرات "سوبر إيتندار" وفقًا للمواصفات العراقية، استلزمت إعادة تنظيم الوثائق الفنية المتعلقة بالتسليح، دون وجود تنسيق كافٍ بين الشركة المصنعة و"نافكو" (NAVFCO).
2. تعليمات وزارة الدفاع الفرنسية كانت صارمة بعدم السماح بإعارة الوثائق التدريبية خارج أوقات الدروس، ما حرم المتدربين من مراجعتها بشكل شخصي بعد انتهاء الدوام، وأثّر سلبًا على إتقانهم للمواد النظرية.
ورغم هذه التحديات، مضت الدورات التدريبية التقنية بوتيرة جيدة ودون مشكلات كبيرة، حتى إن كان المستوى الأولي لبعض الفنيين العراقيين ضعيفا " بحسب تقييم بعض المشرفين.
نقل الطائرات إلى العراق
كان من المقرر أن يرافق الطيار جاك دو فيلار، إلى جانب سبعة من فنيي البحرية الفرنسية، الطائرات الخمس إلى العراق. وقد شرح دو فيلار تفاصيل المسار الجوي الذي ستسلكه الطائرات: الانطلاق من قاعدة كازو (Cazaux)، ثم التوقف في سولنزارا (Solenzara) في كورسيكا، فتاناغرا (Tanagra) في اليونان، ومن هناك عبور الأجواء التركية وصولًا إلى قاعدة القيّارة، الواقعة غرب مدينة الموصل.
كان هذا هو الطريق المعتاد لطائرات "ميراج F1 EQ"، وسيُعتمد لاحقًا أيضًا لطائرات "سوبر إيتندار" الخمس، استعدادًا لانضمامها النهائي إلى السلاح الجوي العراقي.
عملية بالغة الحساسية تحت إشراف أعلى المستويات في الدولة الفرنسية
نظرًا للطابع الاستثنائي والحساس للمهمة، فقد جرى التخطيط لها وإدارتها من قبل أعلى المستويات في الدولة الفرنسية. كان ميشيل غوميز، كبير طياري شركة داسو وأحد المشاركين الرئيسيين في العملية، يعقد اجتماعاته مع مسؤولي الاستخبارات الفرنسية في أروقة قصر الإليزيه، بينما كان يلتقي نظراءه العراقيين في فندق بريستول القريب، في شارع فوبور سانت أونوريه.
المهمة شملت تنسيق نقل طائرات "سوبر إيتندار" الخمس إلى العراق، بمرافقة طائرتين من طراز "فالكون" تابعتين لشركة "فالكون الأوروبية للخدمات" (EFS)، وهما "فالكون 20" و"فالكون 50". وقد أنيطت بهذه الشركة – التابعة لمجموعة داسو ومقرها مطار لو بورجيه – مهمة إدارة الترتيبات اللوجستية للعملية، مع التشديد على عنصر السرية التامة. كان الهدف النهائي هو إيصال الطائرات إلى قاعدة القيّارة، الواقعة جنوب الموصل، والتي كانت في ذلك الوقت المركز الرئيسي لطائرات "ميراج F1 EQ" العراقية. وكانت القاعدة تضم بالفعل بعثة فنية فرنسية كبيرة تعمل لصالح شركات داسو، وسنيكما، وطومسون-CSF، وماترا، وغيرها. وعلى الرغم من أن مسرح عمليات "سوبر إيتندار" سيكون في مياه الخليج العربي، فقد اختار العراقيون تجميع جميع الطائرات الفرنسية الصنع في القيّارة، بهدف تسهيل أعمال الصيانة وإبعادها عن مناطق التوتر المباشر. كما خُطط لإرسال فريق دعم فني مع الطائرات لمرافقتها وتشغيلها في محطات التوقف.
التقييم العام والتخطيط النهائي للعملية
رغم الملاحظات حول المستوى الفني لبعض الكوادر العراقية إلا أن نتائج الدورة التدريبية أظهرت فعالية وكفاءة مدربي قاعدة لانديڤيزيو، الذين تمكنوا من رفع مستوى المتدربين في فترة قصيرة.
وفي مطلع سبتمبر/أيلول، بدأت التحضيرات الفعلية لنقل الطائرات، حيث حُدد تاريخ 17 سبتمبر موعدًا أوليًا للرحلة. وعلى الرغم من أن البحرية الفرنسية لم تكن معتادة على تنظيم هذا النوع من عمليات التسليم، فإن التجربة السابقة لشركة داسو في تسليم طائراتها لدول الشرق الأوسط دفعتها لإسناد المهمة إلى طيارين فرنسيين من ذوي الخبرة. وقد تولى ميشيل غوميز، برفقة فريق من داسو، تنسيق تحركات الطائرات، حيث خُطط أن تقود طائرة "فالكون 50" الرحلة، لضمان التواصل مع السلطات والمطارات في الدول التي ستُعبر أجواؤها، بينما تكون طائرة "فالكون 20" في الخلف ترافق طائرات "سوبر إيتندار"، وتحمل معها عددًا من الفنيين من لانديڤيزيو لتشغيل الطائرات في محطتي كازو وسولنزارا، بالإضافة إلى معدات خفيفة للطوارئ. وكان من المقرر أن تلتقي جميع الطائرات في نهاية المطاف في قاعدة القيّارة.
وضعت السلطات العراقية أيضًا طائرة شحن من طراز "إيل-76" في حالة تأهب في مطار شاتورو الفرنسي، تحسبًا لأي حاجة لنقل فنيين من داسو أو محركات وقطع غيار إضافية من قواعد كازو أو ميرينياك.
نقاش حول استخدام حاملة طائرات
روبير فويي، أحد المسؤولين عن تدريب الطيارين العراقيين، اقترح منذ يونيو خيار استخدام حاملة طائرات فرنسية كمحطة توقف بدلاً من الاعتماد على قاعدة تاناغرا في اليونان. كانت هذه الخطة تهدف لتجاوز تعقيدات تصاريح التحليق فوق الدول الأوروبية، خاصة إذا تم تأمين المرور فقط عبر تركيا.
استند فويي في مقترحه إلى حادثة تاريخية مماثلة، حيث جرى نقل طائرات "A-4 سكايهوك" الأمريكية إلى إسرائيل عبر البحر خلال حرب 1973، مستخدمة حاملة الطائرات "فرانكلين روزفلت". وتم بالفعل دراسة خيار استخدام حاملتي الطائرات الفرنسيتين "فوش" و"كليمنصو"، لكن تعذر ضمان توفر أي منهما في التاريخ المحدد دفع إلى إبقاء المسار البديل عبر اليابسة قيد الدراسة. ولتأمين التنسيق والتنفيذ، كُلّفت "الخدمة المركزية للطيران البحري" (SC Aéro)، تحت قيادة الفريق البحري سوليه، و"هيئة أركان البحرية/الطيران البحري" (EMM Aéro) بقيادة الكابتن بينيلي، بإدارة العملية بالتعاون مع شركة داسو. وتم اعتماد المسار التالي:
لانديڤيزيو → كازو → سولنزارا → حاملة الطائرات كليمنصو → القيّارة
وبما أن استخدام حاملة الطائرات يتطلب مهارة خاصة في عمليات الإقلاع والهبوط باستخدام المقلاع، فقد تقرر إسناد المهمة إلى الطيارين الأربعة الذين أشرفوا على تدريب الطيارين العراقيين، مع انضمام الطيار فيليب دگليتاني إلى الفريق. في المرحلة الأخيرة من الرحلة، تولى روبير فويي مسؤولية التنسيق حتى نقطة الالتقاء مع الحاملة، في حين تولى جاك دو فيلار قيادة القافلة الجوية من هناك حتى العراق.
تأجيل الرحلة بسبب ضغط سياسي
اكتمل البرنامج التدريبي "ميلان 1" في 16 سبتمبر 1983، وسبق أن تم إرسال فريق فني فرنسي إلى قاعدة القيّارة في 7 سبتمبر للاستعداد لوصول الطائرات. غير أن الرحلة المخططة ليوم 17 سبتمبر تأجلت في اللحظة الأخيرة، نتيجة ضغوط سياسية فرنسية داخلية وخارجية، تطالب بوقف تسليم الطائرات للعراق.
وفي تلك الفترة، كانت إيران قد أبدت تعاونًا نادرًا بحل أزمة اختطاف طائرة "بوينغ 727" التابعة للخطوط الفرنسية، والتي انتهت في طهران يوم 31 أغسطس. ولذلك، رغب الرئيس فرانسوا ميتران في التهدئة السياسية، خاصة أنه كان يستعد لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر حول نزع السلاح. بناءً على ذلك، تم تجميد العملية مؤقتًا، وعاد الفنيون الفرنسيون الذين سبق إرسالهم إلى العراق إلى فرنسا، وبقوا في منازلهم في انتظار التعليمات الجديدة. ولتجنّب الفراغ في البرنامج، نظّمت البحرية الفرنسية دورة تدريبية إضافية أُطلق عليها اسم "ميلان 2"، استمرت من 19 سبتمبر إلى 6 أكتوبر، وخصصت لتعزيز مهارات الطيارين العراقيين في الطيران الليلي والهجوم البحري والطيران على ارتفاع منخفض.
وفي 3 أكتوبر، نُفذت طلعة بحرية ليلية بمشاركة الرائد وليد والمدرب روبير فويي على متن السفينة "جان دارك"، وهي سفينة تدريب تابعة للبحرية الفرنسية. وخلال الفترة من 5 أغسطس إلى 6 أكتوبر، أنجز فريق "ميلان" ما مجموعه 412 ساعة طيران خلال 370 طلعة جوية، منها 102 طلعة ليلية خصصت للطيارين العراقيين الستة ومدربيهم الأربعة.
يتبع...
الملحق آ
طائرة السوبر اتندارد معلومات أساسية وخواص
الخواص العامة
• الطاقم: 1
• الطول: 14,31 متر
• الباع (عرض الجناح) 9,60 متر
• الارتفاع: 3,86 متر
• مساحة الجناح: 28,4 متر2
• الوزن فارغة: 6,500 كغم
• اقصى وزن للإقلاع: 12,000كغم
• المحرك: 1 × محرك نفاث نوع سنكما اتار بقوة دفع 8000 كغم
الأداء
• السرعة القصوى: 1205 كم/ سا (749ميل/سا)
• المدى: 1820 كم (983 عقدة بحرية / 1130 ميل)
• نصف القطر القتالي: 850 كم (460 عقدة / 530 ميل) مع حمولة صاروخ اكزوسيت واحد تحت أحد الأجنحة وخزان وقود خارجي تحت الجناح الآخر، بأسلوب طيران عالي-منخفض-عالي.
• اقصى ارتفاع خدمة: 13,700 متر (44,900 قدم)
• سرعة التسلق: 100 متر/ ثانية (19,700 قدم/ دقيقة)
• تحميل الجناح: 423 كغم/ م2 (86,3 رطل/قدم2)
• نسبة دفع المحرك/الوزن: 0,42
التسليح
• مدافع: 2× 30 ملم ديفا 553 DEFA 552 لكل مدفع 125 إطلاقة
• نقاط التعليق : 4 × تحت الجناح و 2 × تحت البدن بقدرة تحميل قصوى 2100 كغم ( 4,600 رطل)
• صواريخ حرة: 4× حاويات صواريخ ماترا مع 18× SNEB صاروخ عيار 68 لكل منها.
• المقذوفات:
• 1× صاروخ اكزوسيت ضد السفن AM-39 او
• 1× صاروخ نووي جو ارض متوسط المدى أو
• 2× صاروخ AS-30 L او
• 2× صاروخ ماترا ماجك جو-جو
• القنابر : قنابر تقليدية غير موجهة أو قنابر موجهة بالليزر ، 1قنبرة سقوط حر نوع AN-52 نووية ، أو حاوية إرضاع جوي لطائرة مماثلة.
الطيارون العراقيون يتدربون على الارضاع الجوي في فرنسا- لاحظ الطائرة المرقمة 65 عراقية والمرقمة 55 فرنسية والطائرة البعيدة فرنسية وفيها المدرب الفرنسي المشرف على التدريب
665 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع