"أسطوانات چقماقچي".. إرث فني يروي تاريخ الموسيقى في العراق (صور)
شفق نيوز/ كان الناس في العراق يطلقون تسمية "چقماقچي" على مصلّح الأسلحة النارية، وهي كلمة تركية الأصل، جاءت نسبةً إلى الصوت الناتج عن فك السلاح وشدّه.
وقد كان الحاج فتحي "چقماقچي" من بين هؤلاء الحرفيين، إذ امتهن في بداياته صيانة الأسلحة العثمانية القديمة في مدينة الموصل شمال العراق، قبل أن يتحول إلى واحد من أبرز الأسماء في مجال تسجيل وإنتاج الاسطوانات الصوتية في العراق.
البدايات الأولى
أسّس الحاج فتحي چقماقچي شركةً للتجارة العامة في مدينة الموصل في العام 1918، وكان شغوفاً بالموسيقى والفن، فبدأ بجمع الأسطوانات الموسيقية والغنائية بمختلف أنواعها، حتى كوّن مكتبة موسيقية ضخمة.
وفي عام 1940، قرّر الانتقال إلى العاصمة بغداد وافتتح أول محل له في منطقة "الحيدرخانة"، عند رأس شارع المتنبي، ومن هنا، ولدت فكرة إنشاء استوديو لتسجيل الاسطوانات للمطربين العراقيين، حيث كان يتم تصنيعها وطبعها في السويد واليونان، تحت حقوق شركة چقماقچي.
يقول نجم عبدالله فتحي جقماقجي، لوكالة شفق نيوز، أنه "في أربعينيات القرن الماضي، بدأت الشركة بإنتاج الأسطوانات الحجرية، ثم شهدت تطوراً نوعياً مع دخول الأسطوانات البلاستيكية عام 1953، إذ استمر إرسال التسجيلات إلى السويد واليونان للطباعة، حتى وصل إنتاج الشركة إلى أكثر من 1950 أغنية".
وكان مقرّ الشركة يقع في منطقة الباب الشرقي وسط بغداد، في ذاك الوقت كان الاستوديو الوحيد في العراق، إلى جانب استوديو الإذاعة اللاسلكية.
إرث موسيقي حافل
شركة چقماقچي كان لها الدور الأبرز في تسجيل أغاني معظم مطربي الخمسينيات والستينيات الذين ذاع صيتهم آنذاك، وقد ظلّت هذه التسجيلات محفوظة في أرشيف الشركة، التي كانت تعد مصدراً رئيسياً للتلفزيون العراقي في برامجه الغنائية، ومع مرور الزمن تلاشت معالم هذه المؤسسة العريقة، لكنها بقيت جزءاً أصيلاً من التراث الموسيقي العراقي.
ومن بين الذكريات التي يحتفظ بها أفراد عائلة الچقماقچي، خلال حديث نجم عبدالله فتحي جقماقجي، هي "استضافة كبار الفنانين العرب في بيتهم، ومنهم عبد الحليم حافظ وفائزة أحمد، الذين كانوا يردّون الزيارة عند استقبال العائلة لهم في القاهرة".
ويشير أيضاً إلى أن "الشركة كانت على علاقة وطيدة بشركات إنتاج عربية كبرى، حيث حصلت على توكيلات خاصة من شركات مثل صوت الفن، كايروفون، صوت القاهرة، وبيضفون اللبنانية لتوزيع أسطواناتها في العراق".
العلاقات مع عمالقة الفن العربي
ويتابع سرد قصة جده، قائلاً "أقام الحاج فتحي چقماقچي وعائلته علاقات متينة مع العديد من الفنانين العرب، وعلى رأسهم الموسيقار محمد عبد الوهاب والمطرب عبد الحليم حافظ، الذي زار العراق في الستينيات بصحبة فرقته الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن، إلى جانب المطربين فائزة أحمد، كارم محمود، شريفة فاضل، والراقصة نجوى فؤاد، إضافة إلى الفنان حسن يوسف والممثلة لبلبة".
وقد أحيوا حفلات في بغداد والبصرة والموصل، وسجّلت الشركة أغانيهم خلال تلك الزيارات، كما قامت الشركة بتسجيل أربع أغنيات لفائزة أحمد، من ألحان الفنان العراقي رضا علي، وكان من أشهرها أغنية "ميكفي دمع العين"، وفقاً لحديث نجم عبدالله فتحي جقماقجي.
لم تقتصر تسجيلات چقماقچي على الفنانين العراقيين والعرب المشهورين فحسب، بل شملت أيضاً مطربات سوريات كنّ يغنين في ملاهي بغداد آنذاك، مثل نرجس شوقي، نهاوند، راوية، وسهام رفقي.
"سرقة كبرى" طالت الأرشيف الموسيقي
وتعرّضت شركة چقماقچي لسرقة جزء كبير من أرشيفها، حيث فُقدت أشرطة كاسيت نادرة، من بينها تسجيلات خاصة بكوكب الشرق أم كلثوم ومطربين آخرين من الجيل السابق، إضافةً إلى عشرات الصور النادرة لفنانين عراقيين وعرب، أمثال ناظم الغزالي، زهور حسين، وحيدة خليل، عفيفة إسكندر، رضا علي، عبد الحليم حافظ، وفائزة أحمد، ورغم ذلك، تمكّنت العائلة من إنقاذ بعض الأسطوانات، التي كانت محفوظة في مكان آخر.
بعد حادثة السرقة، قرر نجم عبد الله فتحي چقماقچي، حفيد مؤسس الشركة، نقل مقرّها إلى خان المدلل في منطقة الميدان، وذلك بعد إغلاق محل الباب الشرقي عام 2009، وعلى الرغم من تقدّمه في السن وتدهور حالته الصحية، لا يزال نجم چقماقچي يحرص على التواجد يوميًا في المحل، مستقبلاً الزبائن، ومشاركاً ذكرياته مع عشّاق الفن الأصيل.
إرثٌ موسيقيٌ خالد
لا تزال "أسطوانات چقماقچي" تحتفظ بقيمتها التاريخية والفنية، حيث تمثل جزءاً مهماً من تطور الموسيقى والغناء في العراق، حيث لا يزال المحلّ مفتوحاً في خان المدلل، مستقطباً الباحثين عن الأصالة وعشاق التراث الموسيقي العراقي والعربي، الذين يجدون فيه نافذةً حقيقيةً على الزمن الجميل.
916 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع