شفق نيوز/ حين تُلامس نسمات المساء أزقّة بغداد القديمة، كانت رائحة الآس (أو "الياس" بلهجة العراقيين) تعبق في الحدائق المنزلية، فتُضفي على ليالي الصيف وضوحًا عطريًا يليق بمدينة عُرفت يومًا بحدائقها الغنّاء.
لكن تلك الشجيرات الدائمة الخُضرة، التي نبتت في تربة العراق منذ آلاف السنين وتباركت بها الأساطير والديانات تكافح اليوم للبقاء في مدينة تمدد الإسمنت فيها على حساب الخضرة وضاق فيها الماء على النباتات العطشى.
شراكة مسيحية - إسلامية
ورغم غياب نصوص قرآنية أو إنجيلية تلزم المؤمنين برعايتها فإن أوراقها ما زالت تذرّ فوق الجنائز والمجالس الحسينية وتُنسج منها أكاليل أعراس الكنائس وتلتف حول شعارات المندائيين في طقوس التعميد والوداع الأخير.
يقول الشيخ مرتضى حسين الأُزيرجاوي لوكالة شفق نيوز إن "حضور الياس في الثقافة الشعبية أعمق من أي تشريع مكتوب فهو رمز يجمع الحنّاء بالشهادة وطيفاً من رائحة الجنة في الذاكرة العراقية".
ويضيف أن أوراق الآس تُستخدم في الطب الشعبي لعلاج الصداع وأوجاع المعدة، استنادًا إلى اجتهادات ابن القيّم الجوزي.
وضمن الموروث الشعبي الإسلامي، استخدمت أوراق الياس في طقوس الرقية الشرعية كجزء من الماء المقروء عليه، لطرد الحسد أو السحر وغير ذلك، دون أن يكون لهذا الموروث أصل شرعي.
كما تعتمد بعض الطقوس الكنسية مثل القداس أو العمودية، على استخدام أوراق الياس ضمن التقاليد الثقافية أكثر مما هو مقرر في العقيدة نفسها، اذ لا يُعد ورق الياس جزءاً رسمياً في المسيحية، كما هو الحال في الديانة اليهودية أو الصابئة المندائية.
الراهبة ريتا ببيكا ترى في خُضرته الدائمة "إشارة إلى السلام والنقاء، ولذلك نعلّق أغصانه على الكنائس في أعياد الميلاد والفصح"، تقول خلال حديثها لوكالة شفق نيوز.
الآس والمندائية
وتعد نبتة الآس مباركة ومقدسة وأساسية في العديد من طقوس الدينية التي تمارس في الديانة المندائية.
ووفق الباحث المندائي جبار منير مكلف، تعد هذه النبتة ضرورة دينية تدخل في جميع الطقوس وترافق الإنسان في جميع مراحل حياته، من الولادة مروراً بالزواج وحتى الوفاة.
وتوضح المندائية أطياف نهر، في حديث لشفق نيوز، أن "الآس يوضع على (سرة) المولود الجديد ويختم بـ(السكندولة)، ويعتبر ذلك أول تعميد للطفل حتى يبلغ عمره ثلاثين يوما".
وتضيف، أنه "يجب بعد ان يصل عمر الطفل الى ثلاثين يوما، عندها يجب ان يعمد بالماء الجاري".
افروديت تلوذ بنبات الآس
يدخل نبات الآس في الميثولوجيا، ويرمز الى النقاء والجمال والطهارة، ووفق الأسطورة الإغريقية، فأن أفروديت آلهة الحبّ والجمال،عندما كانت تستحم ذات مرة عند نبع ماء، شاهدها "الساطير" وهي مخلوقات خرافية نصفها الأعلى على شكل إنسان والنصف السفلي على شكل حيوان.
ولم تستطع افروديت التخلص من مراقبتهم وفضولهم إلا بالإختباء بين أغصان نبات الآس، وبذلك أصبح الآس نبات أفروديت المفضل.
وكان الإغريق القدماء قد زرعوا نبات الآس حول معابدهم، واعتبروه رمزاً للرقة والإخلاص والعفة، ولذلك كانت قلادة العروس تصنع من أغصان الآس.
الحجر بمحل عبق الياس
لكن هذا الإرث الروحي يقف اليوم أمام معادلة قاسية؛ فأسعار الأراضي المرتفعة تحوّل الحدائق المنزلية إلى غرف وملاحق خرسانية وتفرض على أصحابها اقتلاع الشجيرات التي تحتاج مساحة ورياً منتظماً في مدينة ترتفع فيها الحرارة إلى خمسين درجة مئوية صيفاً وتتناقص حصص دجلة والفرات عاماً بعد عام.
البلديات بدورها توصي بغرس الأكاسيا الأسرع نمواً والأشد مقاومة للعطش ما يسرّع تراجع "الياس" الذي يتطلب عناية لا يقدر عليها كثير من السكان.
المهندس الزراعي نجاح محمد يصف لوكالة شفق نيوز، المشهد قائلاً إن الأصوات التي كانت تملأ الأحياء بوقع المقصّ حول أسوار الآس خفتت لتحل محلها مطرقة البناء، فيما يحذّر زميله إحسان عبد علي من أن استمرار هذا الإهمال سيحرم بغداد من "شجرة السلام" ويقطع صلتها بجزء حيّ من تراثها النباتي.
في حي الأعظمية تقف الحاجة حسيبة عقيل السبعينية على عتبة بيتها القديم فتغمض عينيها بحثاً عن الرائحة التي كانت تملأ ليالي الصيف عندما كانت الأسرة تتناول العشاء تحت شجيرات "الياس" وتلوّح أغصانها في الضوء الخافت.
تفتح عينيها الآن فلا ترى سوى أسوار إسمنتية جرداء وتقول لوكالة شفق نيوز، إن اختفاء الشجرة يشبه اختفاء جرس المدرسة القديم أو صوت بائع الباقلاء عند الفجر؛ تفاصيل صغيرة إذا غابت تفرغ المدينة من روحها.
صوت الاختصاصيين يعلو مطالباً بحملة إنقاذ تستعيد "الياس" إلى المتنزهات والساحات العامة وتقدم حوافز لأصحاب البيوت كي يعيدوه إلى حدائقهم عبر شبكات ري بالتنقيط وبرامج توعية تُعرّف الأجيال الجديدة بفضائل هذه الشجيرة العطرة.
فبينما تحارب بغداد لتخفيض حرارة هوائها الخانق ربما يكون زرع أمتار من الخضرة الموروثة خطوة أولى لاستعادة ما خسرته من ظلٍّ وذاكرة. وفي السباق مع الزمن يبقى السؤال معلقاً في هواء المدينة: هل يستطيع البغداديون إنقاذ شجيرة كانت شاهداً صامتاً على أفراحهم وأتراحهم قبل أن يُسدل العمران ستاراً من الأسمنت على عبيرها الأخير؟
954 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع