موسوعة اللغة العامية البغدادية...تأليف ألأستاذ الدكتور مجيد القيسي
بقلم: الدكتور علي إبراهيم جاسم العلي - كندا
صدر عن (مطابع دار ألأديب) في عمان – ألأردن كتاب بعنوان (موسوعة اللغة العامية البغدادية) من تأليف الدكتور(مجيد محمد علي القيسي) ألأستاذ في جامعة بغداد وعميد كلية العلوم - سابقا وعدد صفحاته 430 صفحة.
الدكتور/ مجيد القيسي
ويحتوي على أكثر من ثلاثة آلآف كلمة عامية عربية او أجنبية مع ما يقابلها من الفاظ عربية فصيحة.وقد أشار (الدكتور القيسي) إلى أن الغرض من (الموسوعة) هو لمعاونة الفئات المتباينة من المجتمع العراقي ليتعرفوا على ما يقابل الكلمة العامية في اللغة العربية الفصحى من خلال عدد من المترادفات لأختيار ما يناسب ثقافاتهم وحاجاتهم واذواقهم. وخص بالذكر الصنائعية والحرفيين والموظفين والمستخدمين والمعلمين والتقنيين والطلبة وأمثالهم. وتعد (ألموسوعة) مرجعا لغويا وثقافيا وتراثيا رئيسا لمن يعنيهم ألأمر من الكتاب والدارسين والباحثين ألأكاديميين. فهي تؤرخ لفترة زمنية انتقالية وحاسمة من تأريخ تطور اللغة العامية البغدادية والتي تغطي ، وعلى وجه التقريب ، النصف ألأول من القرن العشرين والسنوات القليلة التي اعقبته وقبل ان تتفاقم مسألة هجرة أبناء الريف وغيرهم الى العاصمة بغداد.
لقد قامت منهجية (الموسوعة) ومعالجاتها على التركيز على تحليل أبنية ألألفاظ العامية البغدادية عموما؛وبخاصة ألأسماء وألأفعال المركبة ؛ وتشخيص مكوناتها الأساسية ومعرفة دلالاتها ومعانيها والوقوف على أصولها اللغوية او هوياتها او إقامتها ؛ والتي سعى البغدادي إلى إرتجال الكثير منها من خلال القلب والإبدال والنحت وألإختصار والترميز والمجاز للتعبير عما يدور في عقله ويختلج في نفسه من أحاسيس متنوعة. من ذلك مثلا ألألفاظ: تِنعْوَصْ ، فلگحْ ، عنفصْ ، نغبشْ ، مهتلفْ ، تنفرشْ ، عنفصْ ، تِمرْوَج ، كردشْ ، فرْدَشْ ، تِمرْغَلْ وطشْرِگْ ....ألخ. وقد إستشهدت (الموسوعة) بأمثلة مأخوذة من الحياة اليومية للبغادة. كما أكدت تلك المنهجية على مدى خضوع اللغة العامية البغدادية الى قواعد الفصحى او مسايرتها لها من خلال المقارنة بين اللغتين كخطوة عملية للتقريب بينهما وللوصول الى صيغة اللغة العربية السليمة والموحدة في المستقبل. وهو أحد أهداف هذه (الموسوعة) الرئيسة لتنقيتها من الدخيل والغريب والحوشي ، مع المحافظة على جوهر بنائها الصوتي ولهجتها المعروفة ولكنتها المتميزة بقدر المستطاع.
ومن ألأمور الجوهرية التي عني بها ألأستاذ (القيسي) تسليط ألأضواء على حقيقة أن (اللغة العامية البغدادية) هي نتاج تأمل وتصميم وإبداع وتطوير لملكة المواطن البغدادي بخاصة والعراقي بعامة ؛ حين إتخذ من اللغة العربية الفصحى ؛ الضاربة في عمق الصحراء العربية ؛ ألأساس لمشروعه اللغوي – التراثي - الحضاري بإعتبارها لغة الوحي الرسالي السماوي ؛ وكذلك لغة الشعر وألأدب والثقافة والتراث. ومن ثم اضاف (البغدادي) إليها صيغا وأبنية وألفاظا من التراث العراقي القديم الذي يعود زمنه الى العصر السومري المتألق الذي كان اول عصر إبتكرت فيه الكتابة والخط المسماري ألمعروف. وما يزال البغدادي يستعمل حتى اليوم الفاظا وعبارات ودلالات سومرية. مثال ذلك: دراق (خوخ) ، خَس ، كزبرة ، زَعفران ،شوندر، گوش ، شكر ، تالة ، خِر ، خَلال ، دِبِس ، دُخُن ، نفط ، زمبيل ، ، ماش ، كِرّاث ، بارية ، وكثير غيرها.
ومن طرائف اللغة السومرية التي ربما إستوحاها البغدادي لعامیته نذكر بعض العبارات ذات الوصف الجميل. فحين يصف السومري شخصا لطيفا المعشر يقول (كا - لا) اي (فمه عسل). وهي العبارة نفسها التي يذكرها البغدادي حين يقول: (حلگه ينگط عسل). ويسمي شهر آب ( إيزي – أوتو) ای الشهر الحار او شهر النار ، ويسميه البغدادي اليوم (آب اللهّاب). كما يسمي (السمن المصفى) بـ (اي نون) اي (الزيت النبيل) ؛ تماما مثلما يسميه البغدادي اليوم بـ (الدهن الحر). والمدهش ان السومري كان قد اطلق على ارض (كربلاء) لفظة (كي – بالا) اي ارض الثوار!.
وبعد غروب الحضارة السومرية جاء العهد ألأكدي (البابلي \ الآشوري) الذي حافظ على ألإرث السومري في الخط والنقش ليعبر أبناء بابل وآشور من العراقيين عن مشاعرهم بلغتهم السامية الجزرية. ثم أعقبهم (ألإرمانيون) ؛ وهم من بقايا (إرم ذات العماد) ؛ الذين كانوا يتحدثون باللغة الآرامية التي تميزت بحروفها الجميلة المتصلة وبقواعدها الراسخة. فسادت على كافة أرجاء المنطقة على المستويين الرسمي والشعبي. أما اللغة العربية فقد كان يتحدث بها سكان الحيرة (عاقولا) وألأنبار وعين التمر وهيت وأجزاء أخرى من العراق. وكانت فرعا من أللغة العربية ألأولى التي كانت ألأصل الذي إنحدرت منه اللغات واللهجات العربية الجزيرية ؛ وهي الحميرية والسبأئية ؛ بخطها المسند ؛ والقحطانية والعدنانية بخطوطها وأبجدياتها الأولى والتي تطورت فيما بعد الى الخط الكوفي الأول. وهو الذي نما وإزدهر وتنوع فأصبح فنا رفيعا قائما بذاته. وقد إحتل فيما بعد موقعا مرموقا بين الفنون الجميلة زمن نهوض الحضارة العربية - الإسلامية وحتى يومنا هذا.
وحين توجه العرب المسلمون لفتح العراق زمن الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب وجدوا أمامهم شعبا رافدانيا حيا ومتنورا ؛ بالرغم من خضوع البلاد تحت الإحتلال الفارسي والذي إستمر اكثر من أحد عشر قرنا ؛ أي منذ العهد الأخميني وحتى الساساني - عهد كسرى أنو شروان. وكانوا يتحدثون اللغات ألآرامية وبقايا السومرية وألأكدية والعربية والفارسية التي كانت اللسان الرسمي لسلطة ألإحتلال. ومن بين هذا الخليط المتداخل من اللغات وُضعت بذور اللغة العامية البغدادية في البيئة الرافدانية التي كانت نواتها ألأولى هي العربية الفصحى. وبمرور الوقت بدأ التفاعل والتقارض والتطور المستمر لتتخذ لغة البغادة شكلا مكتملا ومتجانسا.
فقد حافظ البغدادي على البناء اللغوي العربي الفصيح كأساس لمشروعه. لكنه أخذ يقترض من اللغات الجزرية (السامية) بعض التراكيب والقواعد والصور البيانية التي يسرت له النطق وأوضحت المعنى المقصود. من ذلك مثلا اهمال الإعراب والحركات ؛ وجمع أكثر من ساكن والتوقف بالسكون في معظم ألأحوال ؛ حيث وجد ذلك أكثر يسرا وقبولا. والغريب في الأمر ان كثيرا من الخاصة التي كانت تتحدث بالعربية الفصحى قد تأثروا الى هذا الحد او ذاك بالعامية السائدة. ففشى بينهم اللحن وإهمل الكثير من القواعد. حتى ان (الحريري) نفسه ؛ وهو كاتب معروف ؛ أصدر مؤلفا بهذا الخصوص أسماه (درة الغواص في أوهام الخواص).
ومن عشق البغدادي للغته أنه راح يتفنن في إبتكار اساليب طريفة في التعبير عما يجول في خاطره كسبا لمنفعة او درأ لخطر. فنراه قد إتخذ من الرموز اوالإشارات الصوتية لغة مشفرة للتنبيه على خطر محتمل ؛ كمشاهدة شرطي (بُوليص) او مخبر أمني (جاسوس) او إنضباط عسكري. فتراه يصيح منبهاً: (عَدايْ) او (واغِشْ). او يُصَفر بشفتيه وأصابعه. كما إتخذ البعض لغة خاصة بهم وحدهم حين يكونون في مركز للشرطة (پُوليصخانة) او موقف او سجن ؛ او يكونون بين غرباء ؛ بحيث لا يفهمها ألآخرون. وتتلخص هذه اللغة المشفرة بقلب الألفاظ العامية الإعتيادية رأسا على عقب بقدر المستطاع. من ذلك مثلا العبارة: ( تشف دالخ علط نم تيب لعي الحاربة أم رموا لعيَّ) !؟. ومعناها: (شفت خالد طلع من بيت علي وما مروا عليَّ).
ولقد أضطر البغدادي ؛ وخلال تأريخه المجيد الطويل ؛ للتعامل مع بعض الأبنية وألألفاظ ألأعجمية وبخاصة الفارسية والمغولية والتركية والهندية واليونانية ؛ وأخيرا اللغات الأوربية ؛ وعلى رأسها اللغة ألأنكليزية نتيجة لإحتلال العراق من قبل بريطانيا. لكن مصير الكثير من تلك ألألفاظ كان الإنحسار رويدا رويدا بسبب تطور وتحسن حياة المواطنين ألإجتماعية وألإقتصادية. فأختفى الكثير من الأسماء ؛ لأن مسمياتها من المواد العينية كانت قد إختفت. من ذلك مثلا الحاجيات المنزلية كالعكة (ظرف السمن) والشچوة (ظرف اللبن) والكوارة (خزانة الحبوب) والواوي (خزانة العكة) والإنجانة (غطاء الخبز) وألأوخ (العمود الذي يكون بين حصاني عربة الربل) والزناد (عدة إشعال الفوانيس والسجاير والغليون) ؛ والمئات غيرها. يضاف إلى ذلك تطور اللغة العربية نفسها ومسايرتها لثورة المعلومات والإتصالات ووسائل المواصلات ؛ وإنتشار التعليم والثقافة الجماهيرية بين الناس.
ختاما نقول: بان القارئ الكريم سوف يلمس من خلال مطالعته (للموسوعة) أصالة التراث العراقي الضارب في القدم وأيقونته اللغة البغدادية الجميلة التي يعود تأريخها الى عدة قرون خلت. وكيف حافظ العراقي الغيور على كينونتها وأصولها وأصواتها من أدران هذا الزمن الكالح. وكيف حماها طوال تلك السنين من أعاصير الإحتلال والإستعمار العاتية لأكثر من اربعة عشر قرنا. فقد كان على يقين من أن أهداف ألإحتلال كانت وما تزال الإجهاز على تأريخ العراق وطمس معالم حضارته وتشويه ثقافته وإلعبث بتراثه ألأصيل ؛ وفي مقدمته لغته البغدادية الجميلة.
789 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع