كتاب لا انصح بقراءته ..! المجتمع حين تزوره الحروب وكوارثها ..

   

كتاب لا انصح بقراءته ..!المجتمع حين تزوره الحروب وكوارثها ..

  

               

                            
   

من النادر ان يتخلى الناقد والكاتب د. حسين سرمك ، عن صفته الثقافية المعروفة في ما كتب ويكتب ، لكنه في كتابه الجديد " العائلة والكوارث " الصادر مؤخرا ، وسم اختصاصه العلمي كأختصاصي في الطب النفسي والامراض العصبية ، على الغلاف  في اشارة منه الى ان كتابه هذا ، بعيد عن روح الادب ، ولعبة اللغة ، لأن موضوعه جرح  غائر ، مرشوش عليه جبل من الملح .. كتاب يتحدث عن زوايا نحسها ، لكننا لا نقترب منها ، وجلاً ام خوفا او رعباً ، او كل تلك الصفات مجتمعة ، انها الكوارث التي حلت بنا ، وما آلت اليه من تداعيات ، ستبقى تلازمنا ما حيينا ، وتلتصق بأبنائنا واحفادنا لعقود من الزمن ...
كتاب ، يتحسس : الحرب ، الأسرة ، الموت ، الطلاق ، البطالة ، المرض المزمن ، الإدمان والاغتصاب ... كل مفردة وعنوان في هذا الكتاب ، افرد له د. سرمك ، دراسة واقعية ، وبكل نبل  ، اهدى الكتاب ، اهداء مؤثرا ، عميق المعنى وبأسطر سبع الى نبع الحياة وسيرورتها حيث قال في اهدائه  (الى إلهة الصبر والتحمل والمعجزة : الأم العراقية ) وصدق د. سرمك .
ان الحروب وكوارثها حين تحل في المجتمعات ، لها مفعول المخدرات، وبالتالي فهي تُفقد الذين يتعرضون لها أي مشاعر أخلاقية ،  ويتوهم  الداعون الى الحروب  وكأنها ملحمة بطولية؛ ولكن هذه الأوهام سرعان ما تتبدد عندما يجد المقاتل نفسه في الميدان يواجه حقيقة الحرب، التي "تتسم بالفوضى الممزوجة بالوحشية"، فتتحول الشعارات الموروثة عن البطولة والشجاعة والمروءة، والكلمات الرنانة التي تمجّد الحرب وما يتستتبعها من كوارث إلى مجرد ألفاظ خالية من المعنى، وتتبدّل الإرادة والعزيمة والإقدام إلى حالات من التصرف اللاشعوري، حيث يجهش البعض بالبكاء أو يصاب بالتقيّؤ، فيما يصاب البعض الآخر برعشة في أطرافه أو فقدان لشهيته، أو يشعر بألم متقطع في مؤخرة رأسه. ويبلغ الأمر ذروته في شعور بعض من الموجودين في الميدان بالهوان عندما يترددون في إنقاذ جريح من رفاقهم، خوفاً من تعريض حياتهم للخطر، وهو شعور شديد القسوة نظراً لرابطة الانتماء القوية التي تجمع بين رفقاء السلاح في المجموعة أو الوحدة "وبذلك نجدهم يفضّلون الموت على فقدان هذا التواصل أو الرباط الذي يشدّهم إلى زملائهم.
وربما ، يتوالد هذا الشعور لينسحب الى العائلة ، حين يحدق الخطر بالاسرة نتيجة تفجير او مداهمة ، فيفضل ذاته على ابنائه ، او الابناء على الوالدين ، وهنا تحدث كارثة اجتماعية ، تبقى مستمرة ومتجذرة في التاريخ العائلي والعشائري ..
يقول د. سرمك في مقدمته ( بسبب الحروب الثلاث المدمرة التي شهد أهوالها الشعب العراقي ، وأعمال العنف التي كلفت الشعب اكثر من مليونين ونصف المليون شهيد حسب إحصائيات وزارة الصحة ، فقد ارتفعت نسب الأرامل ، وأختلت نسبة الرجال الى النساء ، فتصاعدت نسب العوانس حتى صار العراق يوصف بأنه " جمهورية الأرامل والعوانس " وهي ظاهرة شديدة الخطورة ، بما تمثله من معاني فقدان الاب كمعيل للعائلة ، واختلال تقمص الابناء للأنموذج الأبوي وضعف السيطرة على الاولاد والضغوط النفسية والاجتماعية على الزوجة الوحيدة ، وحسب إحصائيات وزارة " المرأة " العراقية الصادرة عام 2008 ، فإن عدد الأرامل وصل الى مليون أرملة ، ومما زاد الطين بلة هو ارتفاع معدلات الطلاق (  ثلاث حالات طلاق لكل اربع حالات زواج حسب إحصائيات وزارة العدل العراقية ) كما بلغ عدد الاطفال  الايتام اربعة ملايين يتيم ..) ويستمر السرد المؤلم لمقدمة د. سرمك في تقديم كم كبير من المعلومات التي تؤكد الحالة المأساوية التي نعيشها في ضوء كوارث مستمرة ، لا أمل في ايقافها ..
لكن هل كان  هذا الجهد البحثي التخصصي في العراق هذا المجال موازياً لهذه الكوارث التي أصابت العائلة العراقية ؟
 
يقول الكاتب : (وعلى الرغم من كل هذه الضغوط الكارثية لم أجد كمختص في الطب النفسي دليلا نظريا وعمليا يعالج هذه المحن بصورة مبسطة ، ويحدد السبل الناجعة التي تعين العائلة على التعامل المقتدر والعلمي مع نتائج هذه الأزمات ، لاحتواء تأثيراتها السلبية على وحدة العائلة وتماسك نسيجها وتسلسل أدوار أفرادها ، وتؤمن الحفاظ على الصحة النفسية لأعضائها ، وعلى فاعليتها الاجتماعية من خلال كونها اللبنة الأساس التي يبنى عليها المجتمع .
 
وقد قمت بإعداد هذا الدليل الميداني بأسلوب مبسط مدعم بالأمثلة العملية وبالإحصائيات ونتائج البحوث العالمية الحديثة ليسد النقص في هذا المجال ، مبتعدا عن المصطلحات المعقدة التي تميّز البحوث النفسية والاجتماعية عادة . وقد عملت على أن يبدأ كل فصل بمثال واقعي يجسد الأزمة التي خصص ذلك الفصل لمعالجتها ، ثم السير بالشروحات النظرية والتفسيرات البحثية وفق مسارات مرتبطة بالمثال العملي الذي استُهل به الفصل . ولكي يأخذ هذا الدليل صورة أكثر شمولا ، فقد أُعدّت الفصول كي توفّر أيضا توصيات للإختصاصيين من أطباء وباحثين اجتماعيين ونفسيين وعاملين في المؤسسات المعنية بالتعامل مع العائلات التي تواجه الأزمة .
 
الحرب والأسطورة الكاذبة ..
في الفصل الاول من الكتاب الذي جاء في 248 صفحة من القطع فوق المتوسط ، حمل عنوانا ، بدلالات شاسعة المعاني هو (الكوارث واستجابات العائلة ) تطرق فيه الى الوصف الشعبي الشائع القائل " الكرب هو الحياة ، والحياة هي الكرب " و" تجارب الحياة الكارثية " و " المساندة الاجتماعية للضحية "   
 ومن خلال القراءة المتأنية  للكتاب ، تشعر  ان معظم الأساطير البطولية عن الحرب وكوارثها  تنطلق من أسس عرقية يغذّيها الجهل، إلاّ أنها لابد وأن تُغلّف بما يخفي حقيقتها، حيث تسخّر لها العلوم كالتاريخ وعلم النفس عبر فئة من المثقفين المستعدين لتبني نظريات مضلِّلة لخدمة المآرب  التي يروّجها أمراء الحرب والكوارث ، والتي يقع ضحيتها البسطاء من الناس وعوائلهم ..
 
وفي عنوان مرعب ، هو ( كارثة الحرب عندما المعركة الى البيت ) يناقش د. سرمك ، بعلميته الضغوط الحرب النفسية للمقاتل ولعائلته ، ومشكلات الانفصال والفراق ، والآثار النفسية المتبقية للحرب ، والتغيرات في المجتمع والوطن والتغيرات في العائلة والضفط على المقاتل للعودة الى الحالة الاجتماعية الطبيعية ومشكلات سوق العمل والادمان على العقاقير .. الخ .
ولن أتي بجديد بقولي ، ان  لكل حرب ، جانبان، أحدهما: جانب حقيقي، ويتمثل فيما تنطوي عليه الحرب من مخاطر ودمار، وما تخلّفه من مآسٍ وأهوال وقتلى ومصابين فهي "ليست إلاّ قتلاً منظَّماً"، وثانيهما: جانب مزيف ، أو يكمن في تضمين الأحداث معاني تروق لمروجي الحرب وكوارثها ، وإن كانت كاذبة، ووصف الأشياء بما يتفق مع أهواء اولئك ، وإن كانت زائفة مضللة .. فالهزيمة  تصبح  عندهم نكسة مؤقتة، والأعداء هم شياطين مجردون من الصفات الإنسانية، بينما هم  يمثلون  الخير والصلاح المطلقين. وعبر هذا التزييف والتضليل ونشر الأساطير، يتم تبرير الكثير من الأعمال الدموية التي تُرتكب في الحرب، حيث نتوهم أننا نقوم بأعمال بطولية، متناسين الكوارث المحزنة التي تعترض طريقنا.... والامثلة في بلادنا عديدة ومستمرة ، ولا يبدو في الآفق  ومضة ، لأنتهاء الكوارث ..!
وفي فصول الكتاب الاخرى  ، يتناول د. سرمك ، موضوعات : العائلة وكارثة الموت ، والخسارة العائلية المرتبطة له ، وكارثة الآسر وتأثيرتها على عائلة الاسير ، والعائلة وكارثة الطلاق ، والبطالة وضغوطاتها ومحنة المرض المزمن  ، وسوء استخدام العقاقيروادمان المراهقين وكارثة الاغتصاب ..


الأطفال .. وقود أبدية
وبخلاصة الفصول التسعة التي كانت العمود الاساس للكتاب ، نستقريء  ان نسبة اضطرابات الكارثة ما بعد الصدمة  هي ما بين 60 الى 80 % في الاطفال والفتوة  ويتوقع  مع غياب الاحصاءات للحالات النفسية، لانه ليس بالضرورة أن يتعرض الانسان بنفسه للمآسي، ولكن تكفي مشاهدة النيل من الأقرباء مثل الأب أو الأخ، أو تعرض لأنواع الإهانة الذاتية الشديدة التي تؤثر على كبرياء الانسان،وهناك ثلاثة اعراض مهمة لاضطرابات ما بعد الصدمة الكارثية  منها: أن الإنسان يحدث له استرجاع لأحداث المؤلمة، وكوابيس ليلية وأحلام يقظة تشملها الصور الخاصة بالمجازر أو بمشاهد العنف، كما يحاول الانسان تجنب أي صورة أو فكرة أو شيء يذكره بهذا الحدث المفجع.
ومعروف أن الولايات المتحدة رصدت مبلغ 200 مليار دولار أمريكي للحرب  على وطننا في وقت يعيش حوالي 300 مليون إنسان تحت خط الفقر في أفريقيا، فمهما كانت دوافع الحروب وأهدافها تبقى مدمرة، كما تؤدي ال عواقب نفسية تطال الأجيال الحالية واللاحقة.
وبخلاف كتبه ، وهذا دليل اهمية الكتاب عند د. حسين سرمك ، فقد أرفقه بملحقين ، احدهما تضمن صورا حديثة وجريئة  ، لاسيما  في ما يخص الشباب ، اشار اليها تحت عنوان " صور لحالات تشويه الذات "  لم اشأ نشرها ضمن هذه القراءة لحساسيتها ، اتركها للقارئ الذي يسعى لأقتناء الكتاب ، والآخر تفسيرات لتلك الظاهرة ، وتضم معلومات خطيرة جداً ..
 
بعد قراءة كتاب ( العائلة والكوارث ، تساءلت كثيرا : هل ان المجتمع العراقي
مطمئنن على مستقبل الوطن ، الذي سوف يقوده أطفال الأمس بكل ما يحملونه  من معاناة نفسية سوف تنعكس، لا محالة على تعاملاتهم مع مفردات العالم ؟


عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1488 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع