في قصر الرحاب سنة ١٩٤٦.وجها لوجه مع ام كلثوم
باغتني الصديق خالد علي القاضي يوم 1/5/1946 بسؤال غريب:
هل تود ان ترى أم كلثوم؟.
كان جوابي: في أي دار للسينما؟؟.
فضحك وقال: ان تراها شخصياً، ثم أردف قائلاً: انها في بغداد وستحيي حفلة واحدة غداً في قصر الرحاب بمناسبة عيد ميلاد الملك فيصل.
- لكن هذا قصر الملك.
- لا عليك احضر غداً الساعة الخامسة عصراً وانتظرني قرب عمارة عمي حافظ القاضي وسنذهب بسيارة النقل الخارجي.
وفي اليوم التالي حضرت الى الساحة الواقعة قرب المصور أرشاك ووقفت الى جانب العمارة وبعد قليل جاءت السيارة وكانت على شكل صندوق كبير يحتوي على أجهزة النقل واعتذر خالد لانه لا يستطيع ان يأخذني معه حيث أصر شقيقه على الحضور لسماع أم كلثوم شخصياً، وقبل ان تتحرك السيارة خرج حافظ القاضي وأوصاهم بحسن التصرف وقال:
أنكم تذهبون الى قصر الملك.
وبعد ان عاد حافظ القاضي الى العمارة تمكنت من إيجاد مكان مناسب في السيارة وبعد ربع ساعة وجدنا أنفسنا في حديقة القصر حيث تم بناء مسرح صيفي أمامه عدد كبير من الكراسي لجلوس المدعوين ومنهم عدد كبير من الوزراء والموظفين الكبار وبعض من العسكريين الذين أخذوا يتوافدون عندما بدأت الشمس تميل الى الغروب.
وجدت نفسي بعد ذلك بالقرب من هذه الفنانة الكبيرة، كانت تجلس على الكرسي وأخذ بعض المدعوين يقدم لها إعجابه الشديد بصوتها وأدائها وحفلاتها الشهرية، وشاهدت أحدهم يقدم لها عشرة دنانير عراقية لتوقع عليها، ولم أكن أملك حينها ربع دينار لتوقع عليه!!.
وبعد ان انفض عنها المعجبين وبقيت لوحدها تقدم منها أرشد العمري رئيس الوزراء الأسبق فقالت معاتبة: إنك لم تسأل عن أخي خالد الذي هو طريح الفراش..
فأعتذر وقال لها انه لم يسمع بذلك ووعدها بالحضور الى القاهرة لزيارته وتمنى له الشفاء العاجل.ولاحظت انه الوحيد الذي تركت كرسيها من أجله وذهبت معه الى حديقة القصر وكانا يتحدثان بأمور وذكريات ربما تعود الى عام 1932 عندما زارت بغداد، حيث كان في ذلك الوقت أمين العاصمة، وفي فترة الاستراحة الأولى وجدت نفسي مع أم كلثوم والستارة مسدلة، كانت تنظر الي وتبتسم وتتوقع ان أكلمها لكني كنت أنظر اليها، وفي ذهني أسمهان التي ذهبت الى عالم الخلود قبل سنتين تقريباً.. وقد لاحظت الغشاوة في عيني، وقلت في نفسي لا شك ان ذلك نتيجة سهرها الطويل وعملها في الأفلام التي تتطلب نوراً ساطعاً في اغلب الأحيان، نظرت الى ام كلثوم طويلاً هذه المرأة التي عاشت في القرية وامتلكت ناصية الغناء المتقن بعد ان وهبها الله حنجرة ذات حبال صوتية متميزة.. كيف استطاعت بعد ان وصلت الى القاهرة ان تؤثر في كل من استمع اليها وهي تنشد في البداية مع شقيقها ووالدها واحد أقرباؤها بعض الأناشيد والموشحات الدينية؟.. وكيف انتقلت بعد ذلك الى الغناء الدنيوي مع الآلات الموسيقية محدودة لا تتعدى العود والكمان والطبلة والرق؟ ان من يستمع للاغاني القديمة يتملكه العجب ومن استمع لحفلاتها الشهرية يزداد عجباً، ففي خلال ما ينوف على الثلاث ساعات تغني أجمل وأصعب القصائد والأغاني وتقود الفرقة الموسيقية وتتنقل في عالم الأنغام من دون أي خطأ او تحريف هذا ما فعلته تلك الليلة في قصر الرحاب عام 1946.
كانت حنجرة ام كلثوم ومنذ العهد الأول لحياتها الفنية تمتلك كل مقومات الصوت الساحر القوي الذي يلعب بالأفئدة ويثير في النفس أجمل العواطف والنفحات الوجدانية سيذكرها التاريخ الغنائي والموسيقي العربي على انها فريدة قوية في مجال الأداء مع معرفة تامة في اختزان الهواء واختلاس الأنفاس والتهيؤ لاستقبال الامتدادات الصوتية خاصةً في حروف الألف والياء والواو مع السيطرة على الميزان الموسيقي والغنائي وعدم الخروج عنه وهذا يعتبر من اهم عناصر الغناء في العالم كله.
الحفلة
لم يكتب عن حفلة ام كلثوم التي أحيتها في قصر الرحاب مطلقاً كأنما أريد لها ان تكون ضمن حدود خاصة بالمكان، حيث كان الجميع يرتدون الملابس السوداء الى جانب عدد كبير من العسكريين وحضور عدد لا يستهان به من الحرس الملكي وحين ظهرت ام كلثوم على المسرح الصغير استقبلت بتصفيق خجول وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف موسيقى (الليلة عيد) التي أنشدتها في فيلم (دنانير) والذي عرض عام 1940 وهي من كلمات احمد رامي والحان رياض السنباطي
https://www.youtube.com/watch?v=AbU6Bg-6y5o
وحين ذكرت اسم فيصل الثاني قوبلت بعاصفة من التصفيق وبعد استراحة قصيرة غنت قصيدة (سلو كؤوس الطلا) واذكر انها غنت الأغنية الخفيفة (غنيلي شوي شوي) وعندما أسدل الستار أسرعت بالوقوف قرب ام كلثوم لكن احد الوزراء تقدم اليها وقال: ان الوصي عبد الإله يرجو ان تغني له قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب).
فاعتذرت قائلة: ان هذه الأغنية قديمة وتتطلب (بروفة) وانها لم تعد تتذكر بعض كلماتها وكان محمد القصبجي قد ادخل نصف العود في كيس من القماش عندما أشارت للفرقة الموسيقية للعودة ومتابعة الحفلة التي امتدت الى الساعة الثالثة صباحاً وبدلاً من القصيدة التي طلب ان يستمع اليها الوصي غنت (كل الأحبة ثنين ثنين)
وذكر لي صديقي خالد علي القاضي ان نوري السعيد طلب اغنية (افديه ان حفظ الهوى) فلم تلبي طلبه للسبب نفسه.فاتني ان اذكر انني التقيت بالملحن المبدع محمد القصبجي وتحدثت معه عن الألحان الرائعة التي قدمها الى أسمهان وأبدى أسفه الشديد لموتها المبكر.
ذاكرة عراقية:عبد الوهاب الشيخلي
4829 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع