عرس عراقي أمازيغي

                       

                                عرس عراقي أمازيغي

                      

        

استبشرت أم مؤيد رغبة ولدها البكر ختم عزوبيته طويلة الأمد، زواج من زميلته المغربية، بدأت توجيه الدعوات لحضور الحفل في أغادير مدينة العروس، لمن يستطيع الوصول من الأقربون، وكان لها ما أرادت صديقة قريبة الى العائلة والقلب، تلبية دعوتها والذهاب الى هناك قصة تبدأ من مطار لوتن (Luton) واحد من ستة مطارات دولية تحيط بالعاصمة لندن، أقلعت منه الطائرة باتجاه الجنوب، وما أن عبرت الجزء الأخير من المحيط الأطلسي، حتى أعلن الطيار لزوم ربط الأحزمة والعودة الى الكراسي، تمهيداً للهبوط، فأدار الجالسون جنب الشبابيك وجوههم صوب الأرض، بلهفة النظر من على ارتفاع صار يقل تدريجياً، وأعادوها باتجاه الفضاء، بانت لهم الغيوم التي غطت أوربا وأجزاء من المحيط كثيفة قد تبعثرت، وتباعدت كتلها ناصعة البياض كي لا تمطر، وبانت سطوح الأرض كذلك مختلفة أقرب الى الجرداء، وكأن الرب قسمها حصصاً خضراء ماطرة هناك، وجرداء عاقرة هنا لأمر فيه حكمة، وبانت كذلك وديانها ومجرى سيول تركت آثارها واضحة بلا ماء، وأشجار متفرقة على القمم وبين السفوح، لا تنفع أساساً لحسابات تكوين الخضرة وتغيير الأجواء، وقرى متباعدة على حواف الصحراء ترعى في ربوعها ابل وأغنام، اجتازتها الطائرة وهي تنخفض أكثر فأكثر، حتى لامست اطاراتها العشرة مدرج المطار، قبل ثمان دقائق من الوقت المحدد أربع ساعات، ظهر المطار بحلته والخدمات والمكاتب، كأنه محلي بسيط.

سأل ضابط الجوازات الشاب بلغة فرنسية، عن أسباب الزيارة، وأدرك من تأخر الإجابة صعوبة فهم القصد، فتحول الى العربية بلهجة مغاربية لا تقل صعوبة في الفهم، لكنها والاجابة باللغة الفصحى حلت قدراً من الاشكال، وشجعته الاستمرار في توجيه أسئلة ليس لها معنى في مطار لمدينة تسعى الدولة المغربية جعلها سياحية، بغية اللحاق بالركب العالمي في صناعة تَفُوق مواردها موارد النفط الآيل الى النضوب، لاحظ رد الفعل لأسئلته غير المترابطة خليطاً من الدهشة، والابتسامة الفاترة، أصرَّ على معرفة السبب، وضع الختم جانباً، وبدى جاداً يريد التعرف على السبب، ولتأكيد النوايا الطيبة، قال المغاربة يحبون أهل العراق، فجاءت الإجابة: وكذلك أهل العراق يبادلون المغاربة ذاك الحب والاحترام، ولمزيد من الايضاح تم التنويه الى أن هكذا أسئلة بعيدة عن السياق، تذَكْرُ بأسئلة أولئك الواقفون في السيطرات العسكرية بين المدن العراقية، لمّا يبدؤون توجيه ما لا ينفع منها في تحديد النوايا والغايات، إبان تأزم الموقف الأمني، واشتداد الزحام. أدرك بنباهته الشابة معنى المقارنة، أعاد الابتسامة على وجهه الأسمر بقدر قليل من التصنع، ورجا ذكر ماهيتها، أو بعض منها، فكانت الإجابة، إنها في الغالب تتمحور حول سؤال واحد:
- من أين أتيت, والى أين تروم الذهاب؟
ضحك حتى بانت ضروس أسنانه، وقد غير الدخان لون بياضها.
مسك الختم، أسقطه على الجواز بحدة، واستمر في عمله لم يسأل الواقفين في الدور من باقي المجموعة، وهم في الغالب عراقيين.
جالت السيارتان اللتان وضعهما العريس للنقل من المطار الى مطعم قريب من الساحل، حدده مكاناً للترحيب، وتناول العشاء، صحن اسماك بحرية تشتهر به المدينة، أعقبها بعد انتهاءه، جولة في بعض شوارعها، قال هي مدينة ليلية، لا ينام ساكنيها من المغاربة والأجانب، وقد امتلأت مطاعمها والمقاهي بالرواد بعد انتصاف الليل، فأجواءها المعتدلة، ونسمات هواء باردة منعشة تأتي من المحيط بين الحين والحين تثير البهجة في النفوس، وقال لهذه المدينة مستقبل تريده الدولة أن يكون سياحياً، ومستلزماتها بحراً مياهه نظيفة، وساحلاً رماله ناعمة من مقومات السياحة، وكذلك الشمس المعتدلة، وأجواء الانفتاح النسبي عند السكان، ولتحقيقها غاية ذات أولوية، كلفت الدولة رئيس وزرائها أغاديري الأصل بإدارة بلديتها إضافة الى مهامه، لكن الواقع الفعلي الظاهر للعيان، وبطئ الاستجابة في كل شيء، وافتقار العقل الشعبي الى المرونة والحس السياحي، أبطئا سرعة تقدمها في عالم السياحية، فالبحر لم يُستغل كما ينبغي، وفقراء يستجدون المارة لم يكتفوا، وانقطاع الماء أحياناً، واستعداد عند البعض للاستغلال، وبعض مقاولي البنية التحتية، تركوا حفراً ومعدات في أماكنها، جوار شوارع أعادوا تأهيلها، وأرصفة تعرجت بعض حافاتها، تُذَكرُ القادم اليها، والماشي على أسطحها بتلك الأرصفة المغدورة لشوارع بغداد يوم داسها الجهلة، تجعل تصنيفها مدينة سياحية مسألة ليست سهلة، تحتاج الى الجهد والوقت الطويل، مع الأخذ في الاعتبار أن العرب في مدنهم، وباستثناء اللبنانيون قبل التخريب، لم ينجحوا حتى الآن في إقامة مدن سياحية ترقى الى المقارنة بمدن أخرى مشابهة في الأرجاء.

                       

                             أغادير، مدينة العروس

مدينة أخذت من المحيط مرساً لها، قديمة تعاقبت عليها الأجيال سكناً فوق يابستها، أقوام ومن بعدها أقوام بينهم الأمازيغ، استوطنوها، ومدن أخرى في الشمال الأفريقي قبل ظهور الأديان الثلاثة، صار بعضهم يهوداً ومن بعد الفتوحات العربية اضحى الغالب مسلمون، ويوم عبر طارق ابن زياد الجانب الثاني من البحر الأبيض عبروا معه جنوداً من خيرة المقاتلين، هم قوم ليسوا عرباً، وان امتزجت دماؤهم مع دماء العرب قتالاً عن الإسلام، وزاد امتزاجها صلة بالتزاوج مع أبنائهم والبنات، وَهم من أنشأ هذه المدينة اغادير، وعاش فيها، وشكل نسبة كبيرة من سكانها الحاليين، يتكلمون الأمازيغية لغة قديمة، والعربية باللهجة المغربية، لهم بعض عاداتهم واعتزازهم بأصول تمتد في أعماق التاريخ آلاف السنين، خليطهم مع العرب والاوربيين، انتج بيئة اجتماعية منفتحة على الأغراب، وان كان أهلها في بعض المعتقدات محافظون، ينتشر الحجاب بين غالب نسائهم، وكذلك السفور دون تناقض في معاني السلوك. جوامعها مميزة بمنائرها مربعة الأضلاع، ونواد ليلية تتناثر وسطها وكازينوهات، مدينةٌ غابت من بين صفوفها الطبقة الوسطى، ولم تغب السيارات من صنع السبعينات، وكذلك العربات التي تجرها أحصنة، ترك وجودها وسواد الفقر علامات شاهدة على مصاعب العيش، وكثافة السكن في المناطق الشعبية، وأزقة حافظت على سطوحها ترابية حتى هذه الألفية الثالثة من الزمان، ومع هذا وكل ضغوط الفقر والحياة بقيَّ الأهل على طيبتهم، قليلو الشكوى، حتى ترى في التجوال بائعاً، لا يلح كثيراً لإيقاع السائل في شراك الشراء، وشحاذاً يترك الماشي حال الامتناع، وترى في وسط المدينة سوق الأحد عامراً، معلم تسَوّق يفتخر الأهل بعدّه الأكبر في أفريقيا، أفقي يمتد على مساحة واسعة ذا عشر أبواب، نشأ من )بسطيات( تعرض احتياجات البائع والشاري، القديم منها والجديد، ليتطور وينمو حتى بات سوقاً، مسقفاً بمحال تعرض الخضروات والفواكه والعطارة، والأثاث، وزيوت الطبخ، والتجميل، وقفاطين مطرزة يدوياً تعيد الشاري الى حواف التاريخ مئات السنين، ومطاعم شعبية، قدْمَ الأول منها فطوراً مده على طاولة خشبية أومليط طماطيشا (أومليت) والبريوات (الفطائر) ختمها بالسفة (شعرية باللوز والسكر)، قريباً منه شوارع امتلأت بالبسطيات، ومجمعات سكنية من حولها مكتظة، بعضها مغلقة الجدران حداً يجد الهواء في التسلل الى غرفها مصاعب شاقة، وبعيداً عنه شوارع من نوع خاص هي الأرقى، بنيت على حافاتها قصور ومجمعات سكنية، تتوفر فيها كل المستلزمات، يقولون عن مدينتهم منكوبة، ضربها الزلزال أول مرة عام (١٧٣١)، دمر جزءاً كبيراً منها وأمات الكثير، وعاود ضربها ثانية بقسوة وسبق إصرار عام (١٩٦٠) دمر تسعون بالمائة من أبنيتها الرابضة على السفح، وأتمت الدولة العشرة الباقية لتفادي تساقطها المحتوم، فعدت المدينة القديمة زائلة تماماً، لكن بنائها قد أعيد في السهل الكائن بين البحر والجبل، وأبقيت أطلال القديمة منتزهاً مدرجاً لخليط من الأشجار والنخيل، احتراماً لأرواح آلاف الضحايا بقت جثامينهم مدفونة تحت الأنقاض، مرروا من فوقه قطاراً معلقاً (تلفريك)، تنقل عرباته المثبتة فوق سلك معدني، الراغبون في التمتع بالنظر من الأعلى، والساعون الى التبرك في زيارة سريعة لضريح الولي الصالح سيدي بو قنديل.
توقفت العربة ذات اللون الأزرق قريباً من قبة الضريح البيضاء، جوار ساحة مستوية استقر على وسطها والجانبين باعة لبعض الصناعات اليدوية، والمنتجات الشعبية، وأصحاب جمال وبعض خيول لإركاب الهواة، قال العم أنس في سياق الترويج الى بضاعته حلىً معدنية أن جده الرابع بحاراً عراقياً من البصرة استوطن المدينة، تزوج منها، ومات فيها معروفاً بتقواه، وقال في إشارة الى الضريح لقد هَدْمه الزلزال، وأعادت الدولة بناءه كما هو، اكراماً له ولياً ينقل عن زمنه الرواة كثر السهر على حماية البحارة وهم يسترشدون بأضواء قناديله المضاءة ليلاً، وينقلون عن دور له مشهود في الجهاد ضد الاستعمار البرتغالي إبان حكمه أغادير، من موقعه بانت المدينة، وأجزاء من الساحل، وميناء الصيد والقاعدة البحرية لوحة يحف جوانبها الضباب، وبانت قطع غيوم انفصلت عن كتلتها الآتية من المحيط تحلق تحت القمة متجهة الى مدينة يختلط فيها الجديد بالقديم، وتختلف فيها الشوارع، ويتباين العيش بين أغنيائها والفقراء، تجاهد أن تلحق بالركب لتكون سياحية، جهاداً ليس هيناً، وتحقيق غاياته ليس بالأمر اليسير.

        

                                     يوم الحنّة

كان الطقس في أرجاء أغادير خريفي منعش، وكانت الشمس قد أشرقت من بين الجبال المحيطة بالمدينة، مدت خيوط أشعتها ناحية البحر، وساحل كثرت على طوله فنادق بعدة نجوم، ومطاعم شرقية تجاورها غربية ومقاه، منحته فرص وصف بأنه جميل، قصده نهار الأحد، العطلة الأسبوعية آلاف القادمين من الأرجاء، وآخرين من أوربا القريبة، نصب البعض منهم خيماً شخصية قريباً من الماء بعد انحساره عشرات الأمتار بفعل الجزر، ليزيد طوعاً مساحة الرمل ذا اللون الترابي المائل قليلاً الى الصفرة، واستأجر البعض الآخر شماس لحماية البشرة الناعمة من الشمس، فاصبح البلاج بعد الظهر، وكأنه في احتفال يتزاحم وسطه المشاركون، نزل الكثير من المشاركين الى الماء بقصد السباحة في مياه دافئة نظيفة، بعضهم نسوة نزلت بملابسها التقليدية، وبعضاً آخراً بملابس السباحة (المايوهات) وصبية راحوا يتنقلون بين السباحة غوصاً وبين اللعب فرقاً لكرة القدم، يتجول بينهم وعلى طول البلاج بائع قهوة وآخر للعصائر يلف المكان، ومثلهم آخراً يحمل سلة فواكه مذاقها حلو من كل الأصناف، وثالث يعرضُ لعب بحرية لإغراء الأطفال، آخرهم امرأة بلغت أواسط العمر، حافظت على نشاطها، مرت قريباً بعد الظهر، نَقْاشة حناء محترفة، أتقنت صنعتها فناً حسب الطلب، رسوماً على الأكفة الناعمة، والأذرع اليافعة، وكعوب زادها الرمل نعومة، كانت هذه السيدة ومن سبقها في التجوال بقصد الارتزاق فنانون في الدعاية لبضاعتهم، يتكلمون عدة لغات ببعض مفردات، وتعابير تقضي الحاجة الى التصريف، لا يلحون كثيراً، كأنهم يحافظون على ذات لا تشعرهم بالدونية مقارنة مع أشقاء لهم في بلدان عربية تسعى هي الأخرى لأن تكون سياحية.

كانت السباحة في هذا المحيط هنا، والمشي حفياً على رماله الناعمة قد استنزفا جل الوقت، وما بقيَّ منه أمسية أقامتها عائلة العروس لتعارف العائلتين، طقس من طقوس الزواج الامازيغي، حضرها الأقربون من الجهتين، تخللتها موسيقى وأغان من كلا البلدين، وعشاء على مراحل دام أكثر من ساعتين، بدأ حليباً يقدم مع التمر واللوز المطحون بعد الاستقبال، ومن بعده الأتاي (الشاي الأخضر) باتت تسكبه والدة العروس بطريقة ترفع بها الابريق عالياً، لينزل الناتج في قدح صغير مشروطاً بتكوين الرغوة أساساً لهذا النوع من الشاي، أحضروا من بعده الوجبة الأولى مشويات، ضن الجمع العراقي بعد اتمامها، انتهاء مراسم العشاء، ضحكت الأم مرحاً، قالت مازال العشاء قائماً، وقال العريس فاتني التنبيه الى أن العشاء هنا وجبات، يمكن التعرف على أعدادها من عدد المفارش، شفافة توضع فوق الطاولة المعدة للطعام، فتوجه أبا علي لا إرادياً الى تلمسها بأطراف أصابعه، بان الباقي اثنتان، لم تتأخر الوجبة الثانية، من الكسكس، إناء من الخزف الأزرق، يقيم فوق إناء آخر توزعت على محيطه المقبلات منوعة، عند رفعهما بعد الانتهاء رفع المفرش الثاني، لتأتي الوجبة الثالثة أطباق فاكهة متنوعة سيدها الرقي المغربي المشهور بحلاوته والبطيخ، عندها اقتربت الساعة الثانية عشر ليلاً، عاد الجميع الى سكنهم، قال أبا علي انها مناسبة لإحياء تعلولة عراقية افتقدناها نحن المهاجرين للعيش في أوطان أخرى، فكانت سهرة لأربعة عوائل عراقية، وثلاثة أجيال امتدت الى الثالثة بعد انتصاف الليل، راح فيها الحديث بعيداً الى بغداد وبابل، وأيام زمان، وصفاء النوايا في ذاك الزمان، ومعاناة الغربة في هذا الزمان، نام من بعدها غالب الشباب جزءاً من نهار اليوم التالي المتفق عليه، غداء في بيت العروس، انسحب بعد انتهاءه الرجال، ليتركوا المجال الى النسوة أساساً لإقامة الحنّة، تقليدٌ من تقاليد العرس يتشابه في إقامتهما المجتمعان المغربي والعراقي، حضرت في بدايته، النقاشة شابة في مقتبل العمر، ومعدات تحملها مساعدتان كذلك في سن الشباب، بدأت النقش بسملة من جانب اليمين، ارتفعت من بعدها وصلات غناء وزغاريد، تناولت يد الضيّفة الأولى على اليمين، قلبتها كمن يقرأ الكف، وضعتها على قطعة قماش مثبتة على الفخذ، بدأت النقش على مهل، رسوم عرضتها من صور تحملها إحدى المساعدات، انتقلت بها من الأيادي الى الأقدام، ومن امرأة الى أخرى، وهكذا استمرت في عملها حتى الغروب، ترك الجميع أماكنهم في البيت، خرجوا في جوقة استقبال الهدايا القادمة خصيصاً من أقارب العروس، جاءت محملة على عربة يجرها حصان، تسير خلفها نسوة، تصفق وتزغرد، ومن خلفهن اصطفت فرقة شعبية تنشد موسيقى فرح أمازيغية، جالت الجوقة في الحي، رقصت أمام الدار حيث الاستقبال الودود من عائلة العريس، دخلوا من بعدها معاً الى الدار، لتبدأ حفلة أغان ورقص وعشاء استمر الى الساعة الرابعة صباحاً.
يوم الزفاف
تُوِجَتْ الأيام الثلاثة الماضية بأنشطتها، وجميع فعالياتها يوماً رابعاً هو الزفاف، مختلفة طقوسه الأمازيغية في أغادير، عنها في العراق، بدأت باستقبال الضيوف، ولم تنتهي بوصول العروسين، مكان الحفل قاعة اسْتُئجِرت فخمة، محفورة أركان سقوفها نقوشاً، مغربية جميلة، تتدلى من أعلاها ثريات بمصابيح بيضاء، تزيدها جمالاً وبهجة، اصطف على جانبي ممر لها مفروش بالسجاد الأحمر أفراد العائلة، شرعوا في الاستقبال الممنهج للضيوف قريباً من الساعة العاشرة مساءً، غالبية الضيوف من جهة العروس، قلة هم التابعين الى العريس، قد يتجاوزون أصابع اليد بقليل، وصلوا المغرب من أمريكا، وبلدان غربية يعيشون فيها مغتربين، حتمت أحكام التأشيرات المطلوبة قلة الحضور.
صار الضيوف يتوافدون تباعاً، معظمهم نساء، مع شروع فرقة مغربية، ومطرب لها عزفاً وغناءً حتى وصول العريسان قبل انتصاف الليل بقليل. وقفا عند الممر، تلقفتهما مجموعة اللبيسة، أربعة نسوة بزي موحد، أضافا بعض اللمسات على بدلة للعروس يغلب عليها اللون الأخضر، أجلسوها والتاج على رأسها في العمارية (الهودج)، غطيَّت وغالب الجسم بوشاح ذهبي شفاف. تقدم منها أربعة شباب محترفون بلباس شعبي، حملوها على أكتافهم بنسق عال المستوى، ساروا بطيئاً على موسيقى قوامها الطبل والمزمار، تخللوا صفوف الطاولات من وسط القاعة، حتى آخر الركن الأيسر، توقفوا بمواجهة (الكوشة) المعدة باحتراف، مكاناً لجلوس العريسين، داروا بها الى جميع الجهات، مع كم من الأدعية ترددها جوقة شعبية مصاحبة، ونسوة قريبات تجمهرن للرقص والتصوير، أنزلوها ببطء طقوسي عند الحافة، مشوا بها على مهل حتى المكان المخصص للجلوس، بانتظار العريس، وهو باق في حال الوقوف عند الممر، حال وصولها اصطحبته العائلة، والأصدقاء في وقع زفاف مشياً بطيئاً على أنغام موسيقى وبعض أغان عراقية، توقف في المكان الذي وقفت فيه العروس، ثم تقدم صوبها بتأن، رفع البرقع من على وجهها الجميل، قبَّلَ جبينها، وأخذ له مكاناً الى جانبها فزاد حماس الفرقة، وعلا صوت المغني في شدو أغان جملها الموسيقية واضحة، ومفردات لم يفهم منها سوى بعض كلمات تمر عابرة بينها حبيبي.
خَفَتَت أصوات الموسيقى قليلاً، فتقدمت اللبيسات، اصطحبن العروس الى خارج القاعة غابت لنصف ساعة وأكثر بقليل لتعاد، بحلة جديدة يغلب عليها اللون البيجي، وقد وضعت في عمارية من نوع آخر يحملها الشباب الأربعة، جالوا بها بين الطاولات، أعادوها في نهاية المطاف الى مكان الجلوس جانب عريسها، لتعيد الموسيقى نشاطها صخباً، هكذا ترغبه الأجيال الجديد، وهكذا استمرت حتى الغيبة الثالثة للعروس، والحلة الجديدة بدلة يغلب عليها اللون الأزرق الفاتح، عندها تقدمت والدة العروس، أشرت الى طاولة جانبية، قالت مخصصة مناصفة لعشاء مشاركة للقريبين من أهل العروسين، عشر كراس وضعت على الجانبين، واثنين في المقدمة مخصصة حصراً للعروسين، زادتها أربع أخرى، ولما شعرت حرج عدم الكفاية، عادت واستثنت المناصفة، قالت بلطف ليتفضل ضيوفنا أهل العريس، وستمثل هي عائلة العروس، وقد مثلتها بقدر عال من الود والاحترام، أشرت بيدها اليمين في تمام الساعة الثالثة، فتقدم شخصان بملابس بيضاء يحملان أطباق الوجبة الأولى بسطيلة (عجينة الكاهي) بمنتجات البحر، أعقباها بالثانية طاجين لحم الخروف، لم ينسوا الثالثة وجبة فواكه طازجة، ولم تنس الفرقة بعد تناولها العشاء عودة نشطة الى جولات في الغناء المغربي، أعطت العراق فرصة لثلاث أغان بينها واحدة لحسام الرسام (ألف مبروك)، تعالت طوالها أصوات القلة العراقية وزغاريد بناتها، مصحوبة بتعاطف شبابي مغربي ضاعف وتيرة الحماس عند ذكر العراق على أرض أغادير آخر بقعة من أرض أمة العرب كانت ممتدة الى المحيط.
أبدلت العروس حلتها للمرة الخامسة بدلة بيضاء، دخلت القاعة بطريقة تختلف عن التي سبقتها، وأعلنت الأم بالساعة السادسة صباحاً عن مفاجئة تحتم ارتداء جميع الحضور من نسوة أهل العريس الثياب المغربية التقليدية، والمشاركة في رقصة أمازيغية، وصلت من بعدها وفي تمام الساعة الثامنة صباحاً (كيكة) العرس، قصها العروسان، خاتمة للحفل، واطفئت من بعدها الأنوار في إعلان لانتهائه، وبداية حياة جديدة وتمنيات أن تكون سعيدة.
……

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

663 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع