صلالة جوهرة الجنوب العربي
إجازتي هذه السنة كانت في مدينة صلالة جوهرة الجنوب العربي عاصمة ولاية ظفار ثالث أكبر مدن سلطنة عمان من حيث عدد السكان , ومعنى كلمة صلالة قد يكون مشتق من كلمة الصلصال وهو اديم الأرض او من صليل السيوف أي رنين السيوف عند القتال وهو الأرجح لكثرة استعمال السيوف من قبل سكان صلالة لغاية اليوم ولتشابه الطابع الحربي للاسم مع المدن القريبة من صلالة وهي مدينتي مرباط التي تعني مرباط الخيل ومدينة طاقة وتعني أيضا القوة والتسميات الثلاث يغلب عليها الطابع الحربي كما ذكرت وهو طابع القوة والشجاعة التي يتمتع به سكان محافظة ظفار وحتى كلمة ظفارنفسها مشتقة من كلمة الظفر أي النصر .
تعتبر اللغة العربية هي اللغة الأولى المستعملة في صلالة لكن هناك لغات عربية محلية اقدم من العربية الحالية التي نتكلم بها مازالت مستعملة مثل اللغة الشحرية وهي لغة سكان الجبال من قبائل الشحري واللغة المهرية وهي لغة قبائل المهرة العمانية واليمنية ولغة ثالثة يتكلم بها شرق ظفار ولغة رابعة يتكلم بها اقلية ما بين ظفار وسواحل اليمن الجنوبية ومازالت كل مناطق مدينة صلالة من وديان وجبال وقرى تستعمل الأسماء باللغة الشحرية مثل وادي دربات وعين رزات وعين جرزير وغيرها , وان اغلب حروف اللغة الشحرية حروف عربية لكن هناك حروف شحرية غير موجودة في اللغة العربية او العكس حروف عربية غير موجودة في تلك اللغة وهناك حروف تلفظ مع حروف أخرى لإنتاج حرف مركب من حرفين ومنها حروف الضاد والظاء وعندما تسمع تلك اللغات لا تفهم منها شيء لكنك تشعر ان هناك حروف عربية كثيرة فيها , وقد تعلّم سكان جبال صلالة اللغة العربية عند دخولهم المدارس وبعض كبار السن الذين يعيشون في الجبال لم يحالفهم الحظ بدخول المدارس ما يزالون يتكلمون اللغة الشحرية ويجهلون اللغة العربية.
تتمتع جغرافية مدينة صلالة بثلاث ميزات نادرة تعطيها الأولوية بين كل مدن الجنوب العربي تقريبا , ففيها البحر والجبل والصحراء في ارض واحدة ، فسواحلها التي تبدأ من حدود اليمن وتمتد الى العمق العماني مازالت سواحلا بكرا لم يتم استغلالها لغاية اليوم وفيها ثروات سمكية هائلة وبأنواع مختلفة من بحر العرب حيث اجود أنواع السمك لما يحتويه من كمية هائلة من مادة اليود التي يحتاجها الانسان طول حياته , وجبالها الشاهقة التي يبلغ اعلى قمة فيها جبل سمحان 2000 متر فوق سطح البحر والذي يعتبر موطنا للعديد من الحيوانات البرية وخصوصا النمر العربي وفيها من الوديان العميقة ما يصل الى 1000 متر تحت سطح البحر , وفيها الصحراء التي تعتبر بداية الجزء العماني من الربع الخالي , ومدينة صلالة يعرفها العرب من خلال مهرجان خريف صلالة الذي يكون موعده في الاشهر السادس والسابع والثامن من كل سنة حيث تنخفض درجات الحرارة ويبدأ موسم سقوط الامطار وسريان الشلالات والوديان وتشهد المدينة اقبالا سياحيا كبيرا من دول الخليج العربي لمصادفة تلك الأشهر موسم الصيف الحار في الخليج العربي ويستفيد سكان صلالة من تلك الفترة لتنمية اقتصادهم.
شجرة النارجيل التي نطلق عليها في المشرق العربي اشجار جوز الهند تنتشر في مدينة صلالة بكثرة ويستفيد منها السكان في الغذاء وبعض الصناعات التقليدية , والشجرة الواحدة من النارجيل تثمر طول السنة وبدون تدخل الانسان في عملية التلقيح كحال شجرة نخيل التمر الذي يجب تلقيحه يدويا ويمكننا مشاهدة شجرة نارجيل واحدة في نفس الوقت فيها زهور وثمار صغيرة جدا وثمار متوسط و وثمار كاملة النضوج وهذا يجعل تلك الشجرة المباركة تعطي خيرها طول اشهر السنة والشجرة تلقح نفسها بنفسها, ولا تعيش أشجار نخيل التمر في صلالة لان موسم نضوج التمر هو الأشهر التي تصادف الخريف حيث الامطار وبرودة الجو لذلك فان نخيل التمر لا يتمكن من التلقيح او النمو في الأجواء الممطرة.
ان سقوط الامطار على صلالة في تلك الاشهر من السنة بسبب جبالها الشاهقة التي تصد تيارات الهواء الساخن والبارد القادمة من المحيط الهندي وبحر العرب فتتحول الى امطار غزيرة وتنخفض درجات الحرارة , واسم النرجيلة المستعملة اليوم في التدخين قد جاء من اسم نخل النارجيل حيث استُعمل ثمرة النارجيل ( ثمرة جوز الهند ) في تصنيع اله التدخين المعروفة بالارجيلة او الاركيله في بلاد الشام والنرجيلة في العراق ودول الخليج العربي او الجوزة في مصر ثم تطورت صناعة الاركيلة الى كرة من الفخار مازالت كبار السن يستعملونها في الخليج العربي واليوم يتم تصنيع النرجيلة من الزجاج , اما أشجار نخيل التمر فتعيش في صحراء صلالة والتي تبعد 170 كيلومتر باتجاه الربع الخالي , وتكثر في صلالة كذلك أشجار الباباي اللذيذة واشجار موز صلالة الصغير الحجم والحلو المذاق, وفي جبال صلالة توجد كذلك عشرات الفواكه النادرة او الغير معروفة في المشرق العربي وفي المقابل هناك فواكه لم يعرفها سكان صلالة الا في الثمانينات مثل أشجار التين الذي يعيش في المشرق العربي وحوض البحر الأبيض المتوسط، حيث تم نقل أشجار التين الى صلالة في الوقت الذي كان السكان يعرفون التين البري الذي ينبت بشكل طبيعي في الجبال،
والثروة الحيوانية في صلالة متنوعة بين الابل الذي يعيش في الجبال والسواحل والصحراء وهناك اعداد كبيرة من البقر الذي يعيش في الغالب في الجبال والسهول وفي كل تضاريس صلالة يعيش الماعز العربي الجميل الألوان والصغير الحجم ومعظم حيوانات صلالة تدر كميات كبيرة من الحليب وبجودة عالية جدا بسبب نوع الغذاء الطبيعي التي تعيش عليه , وقد اثر وصول الاعلاف المستوردة سلبيا على الابل هناك وغيّر من سلوكياتها, فمثلا قبل دخول الاعلاف المصنعة الى صلالة كانت الابل لا تأكل سوى الأشجار والنباتات وبعد تناولها الاعلاف المصنعة قامت بأكل كل شيء على الأرض حتى أكياس النايلون التي يرميها البعض على الأرض ومشكلة اكل الابل لأكياس النايلون منتشرة بكثرة في كل دول الخليج والمملكة العربية السعودية وقد أدت الى خسائر كبيرة في الابل, وعالميا فان ابل صلالة هي اجود أنواع الابل والأكثر انتاجا للحليب في العالم وتعتبر جزء مهم من حياة السكان فعند ولادة أي حيوان منها يتم اطلاق اسم خاص عليه وعندما يطلب منها مالكها الحضور للأكل او للحلب او للعودة للبيت يناديها باسمها فتاتي اليه .
خلال زيارتي الى صلالة تذوقت حليب الابل في زيارة الى جبال صلالة بعد حلبه مباشرة من الناقة زحامة وهي ناقة جميلة الشكل لونها بني فاتح وكان الحليب حلو المذاق لان ابن الناقة زحامة المعروف ب( الفلو) كان اقل من ستة اشهر فكلما تقدم الفلو بالعمر تحول طعم الحليب الى ان يصبح طعم الحليب قريب الى الملوحة عند بلوغ الفلو عامه الثاني حيث يحتاج جسمه الى كمية اكبر من الاملاح فسبحان الله الذي خلق كل شيء ووضعه في ميزان , وقد شربت لترين من حليب الابل ولم يحدث أي تحسس لدي علما باني أصاب بالإسهال الشديد والمغص بعد دقائق من شرب حليب الابقار, وفي صلالة يتم ذبح معظم الذكور عند بلوغها سنتين او ثلاثة والإبقاء على ذكر واحد لكل قطيع من الاناث ويباع لحم الابل في صلالة طازج او يباع مطبوخ في المطاعم الشعبي وطريقة طبخ ذلك اللحم من قبل السكان بسيطة وبدون إضافة أي توابل حيث يسلق بالماء ثم يقلى اللحم بنفس دهن الابل لذلك لا تجد أي زفره في اللحم وطعمه لذيذ جدا.
صلالة قد حباها الله بكميات كبيرة من عيون الماء التي تنبع من الجبال وتصب في البحر ومنها ما هو موسمي الجريان ومنها ما هو دائم وأكبر عيون الماء دائمة الجريان هي عيون وادي دربات ولم تتوقف تلك العيون منذ عواصف تسونامي سنة 2017 التي ضربت سواحل وجبال صلالة عن الجريان لحظة واحدة وطول العام تهب رياح على منطقة العين في اعلى الجبل مما يؤدي الى خفض درجة الحرارة وتجري العيون حتى تصبح بحيرة واسعة تتحول الى نهر جاري.
أشجار اللبُان التي تعتبر من اهم الثروات الوطنية العمانية تأخذ حيزا كبيرا في حياة سكان صلالة واللبان معروف في صلالة منذ عصور ما قبل التاريخ حيث كان يتم تصديره الى مصر الفرعونية ومدن اشور وبابل ثم بعدها الى روما وشرقا وصلت تجارة اللبان الى الصين حيث استعمله الانسان في أماكن العبادة وفي الادوية المختلفة والسحر واشجاره منتشرة في مناطق واسعة في ظفار ويستعمل سكان ظفار اللبان في البخور والغذاء والأدوية وعندما يتم نقل أشجار اللبان من منطقة الى أخرى يطلق على ثمره بعد ذلك اسم المكان الجديد الذي تم نقل شجرة اللبان اليه لأنها سوف تكتسب مذاق وروح ونكهة المنطقة الجديدة التي تم نقلها اليه , واجود أنواع اللبان هو اللبان الحوجري ذو اللون الأخضر والرائحة النفاذة وذلك لقله الرطوبة في الجو خلال فترة النضوج ويستعمل في الادوية حصريا وفي تقوية نظام المناعة وهو اغلى أنواع اللبان حيث يتجاوز الكيلوغرام الواحد منه أربعين ريالا عمانيا وهو قليل جدا في الأسواق وفي الغالب فان اللبان الأبيض اللون متوفر بكثرة ويستعمل في الادوية ومواد التجميل والصابون وهناك أنواع من اللبان الغامق اللون بتدرجات تصل الى اللون الأسود والتي تستعمل للبخور العادي او البخور الصناعي السائل والمستعمل في تعطير أجواء الغرف وصالات الفنادق حيث يستعمل في سلطنة عمان اليوم ماكنات تعطير كهربائية تنفث بخار اللبان ولتعقيم الايدي استعملت بكثرة في الأماكن العامة خلال فترة وباء كورونا بدلا عن المعقمات الكيمياوية المعروفة , واللبان لا يؤكل بتاتا لأنه قد يسبب انسداد في القولون للأشخاص الذين يعانون من مشاكل القولون ويتم اذابة اللبان الأخضر او الأبيض بالماء لمدة يوم كامل وشرب الماء الذي يصبح ابيض كالحليب على الريق لتقوية جهاز المناعة وللمضمضة لتقوية اللثة وإزالة العفن او الرائحة من الفم ويستعل كذلك كعلكة .
صحراء الربع الخالي في صلالة حيث التضاريس المتنوعة الجميلة جدا قد تم استغلالها في إقامة مخيمات سياحية بمستوى جيد حيث قضينا فيها يوما كاملا في احدى المخيمات الثلاثة الموجودة هناك وبدأ يومنا برحلة بالسيارة من الفندق وزرنا في طريقنا المدينة المفقودة ( وبار ) ثم اتجهنا نحو العمق اكثر في الربع الخالي وتمتعنا بمشاهدة غروب الشمس في جو رومانسي حيث مشينا على التلال الرملية الممتدة على مد البصر في صحراء الربع الخالي الذي يبعد عن مركز مدينة صلالة ساعتين تقريبا بالسيارة وبعد تناولنا العشاء الذي كان لحم الابل سيد المائدة بدأت سهرتنا في المخيم في سماء تزدحم فيها النجوم في احدى وكان المخيم الذي يضم خمسين خيمة نظيفا جدا يتوفر فيه قاعات ومرافق صحية نظيفة مبنية من الحجر إضافة الى مطبخ وغرف لاستقبال الضيوف , وبعد تناول العشاء جلسنا حول النار اربع ساعات تقريبا وقد احيا ليلتنا شاب من صلالة عزف على العود الحانا عمانية جميلة وانخفضت درجة الحرارة قبل منتصف الليل لكن الخيمة كانت دافئة جدا والفراش كان وثيرا نظيفا وقد تم تغليف الخيمة بالنايلون للمحافظة على درجة الحرارة وعدم السماح للرمال بالدخول اليها وفي الصباح وقبل تناول الإفطار تمتعنا بأول شروق الشمس وبداية يوم جديد ثم تم اعادتنا الى الفندق بنفس السيارة بعد ان حملنا معنا ذكريات اجمل ليلة في الصحراء.
المدن القريبة من صلالة التي زرتها خلال تلك الاجازة هي مديني طاقة ومرباط ومدينة طاقة وتعني القوة او الفتحة او الباب (الطاقة) وهي باب مفتوح على البحر في ساحل رملي مقوس يعطي للناظر شحنة من التفاؤل والايجابية وفيها حصن تاريخي على البحر وهو من أهم الآثار التاريخية في الولاية إذ يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر ميلادي وقد كان مقراً للإدارة المحلية في عهد السلطان تيمور بن فيصل ويتميز حصن طاقة بألوانه الجميلة وطرازه المعماري وهو يطل على ساحل البحر من جهة وعلى مدينة طاقة القديمة واسواقها من جهتي الغرب والجنوب.
في مدينة طاقة دفنت السيدة الجليلة ميزون بنت احمد بن علي المعشني والده السلطان قابوس بن سعيد رحمهما الله وقد دفنت مع شقيقتها واشقائها في مقبرة بسيطة لا تزيد مساحتها عن 750 متر مربع يمكن لاي شخص دخول تلك المقبرة التي لا يوجد فيها باب وتقع في احدى الشارع الرئيسي للمدينة وتعبر تلك المقبرة البسيطة بشكل صادق عن اصالة عائلة السلطان واصالة الشعب العماني وتمسكهم ببساطة وزهد الدين الإسلامي الحنيف في دفن الموتى بعيدا عن المظاهر المادية.
صلالة جوهرة الجنوب العربي المدينة الغنية بالثروات الطبيعية بحاجة الى استثمارات عربية لبناء الفنادق والمنتجعات على سواحلها العذراء وجبالها الخضراء والى مراكز أبحاث لتطوير منتجاتها المختلفة كاللبان واشجار النارجيل والباباي واستثمار الثروة الحيوانية الهائلة فيها وهذه دعوة موجهة الى كافة الجامعات ومراكز الأبحاث العربية للمساهمة في استكشاف عالم الجنوب العربي وتطويره وكذلك دعوة الى المستثمرين العرب بشكل عام والخليجيين بشكل خاص لاستغلال الثروات الحيوانية والسمكية والطبيعية والسياحية وذلك لوضع صلالة في مكانها الصحيح على خارطة السياحة العالمية واعادتها كمركز عالمي لتجارة اللبان من خلال ادخال اللبان الى عالم الادوية ومستحضرات التجميل وصناعة معاجين الاسنان والصابون وتأسيس شركات كبرى لصيد الأسماك تجوب بحر العرب وانشاء مصانع لتعليب الأسماك و تصديها مجمدة ولتصنيع الاعلاف الحيوانية من صغار الأسماك , ان اهم عامل من عوامل نجاح أي استثمار في العالم هو توفر الامن والقوانين التي تحمي المستثمر وتلك العوامل متوفرة في سلطنة عمان وعلى سبيل المثال خلال وجودي في مدينة صلالة الأسبوع الماضي صدرت قوانين بتخفيض وإلغاء الكثير من الرسوم والضرائب في السلطة لتشجيع الاستثمار ودفع عجلة الاقتصاد للأمام .
وأخيرا فان السياحة في صلالة ليس فقط في أشهر الخريف الثلاثة وانما طول أشهر السنة التي يكون الجو فيها معتدل.
نموذج أغنيات باللغة الشحرية
https://www.youtube.com/watch?v=eC7-uAkLS3U
https://www.youtube.com/watch?v=8yjuwIwvd0Q
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
3856 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع