عام دراسي جديد وآمال متجددة ولكن ... تلك الأيام نداولها بين الناس
أطل العام الدراسي 1953- 1954 وسط آمال كبيرة في سنة دراسية تُشبه سابقاتها، وأن كانت أحداث الصيف الماضي ما تزال عالقةً في البال وتجدد الأحزان، كانت مدرستنا تُقيم بمناسبة عيد الميلاد ورأس العام الميلادي حفلة كبرى بالمناسبة، يحضرها من الطلبة فقط الذين يشاركون في فعالياتها، أما سائر الطلبة فيحظر عليهم الحضور، وتوجه الدعوات إلى ذوي الطلبة وأولياء أمورهم، كانت في المدرسة قاعة فعاليات تسع لحوالي 500 مقعد، ونسمع عن فعالياتها التي تحكي قصة ميلاد المسيح عليه السلام وما يتعرض له من خطط لقتله، وبعد نهاية العطلة يتم عرض فلم على الطلبة عن تلك الاحتفالية.
اشترى عمي عبد الرحمن سيارة من نوع فوكسهول وهي سيارةٌ بريطانية ربما استقبلتها بترحاب محدود بسبب ما كنت أسمعه ممن ألتقيهم من سمعة رديئة للسيارات البريطانية، باستثناء سيارات النخب ذات المستوى المالي العالي، كان هناك إجماع على تفضيل السيارات الألمانية وخاصة سيارة المرسيدس، ثم السيارات الأمريكية على غيرها، على العموم في أحد الأيام قالت جدتي لعمي عبد الرحمن رحمهما الله، والله يا ابني اشتقت لشقيقتك أم عدنان وأتمنى أن تأخذنا إليهم وخاصة أريد أن تعرف ابن أخيها نزار وهو يتعرف عليها وعلى أبناء عمته، قال لها إن نزار عنده دوام في المدرسة يوم الجمعة، وبالتالي يجب أن يحصل على إجازة أو أنا من أحصل على إجازة يوم السبت، أعدك بذلك.كان شباك العاقول
عمتي أم عدنان هي زوجة ضابط الشرطة عبد اللطيف سالم السامرائي رحمهما الله، وكان يشغل في ذلك الوقت وظيفة مدير شرطة لواء الرمادي "محافظة الأنبار" وهو ابن عم أبيها، وقلما تترك بيتها ورعاية أبنائها، فأنا في بغداد منذ أكثر من سنتين ولم يصادف أن جاءت إلينا ولو لمرة واحدة، كنت قد سمعت عنها من أبي وجدتي، وهي الشقيقة الأكبر من أبي ربما بسنة أو سنتين، وكانت منصرفة بكل حواسها لتربية أولادها ولبيتها الذي يعيش جواً انضباطياً حازماً بحكم الشخصية المنضبطة للعم أبي عدنان.
جاء يوم السبت بعد عدة أسابيع وأبلغ عمي عبد الرحمن جدتي بالاستعداد للسفر في اليوم التالي، كانت السيارة تقطع بنا طريقا موحشا بين بغداد والرمادي، فلا شجرة تسر النظر ولا بناء يُسعد الناظر، تمتد الصحراء على جانبيه إلى مسافات بعيدة، وصلنا البيت بعد سفرة ظننتها طويلة جدا، وجدنا عمتي في البيت مع صباح فقط، كان الصيف حارا وكأن الرمادي مغناطيس يجلب رياح الهجيرة من الصحراء المحيطة بمركز اللواء، دخلنا البيت بفرح ورحبت بنا عمتي بحرارة عالية، كان سالم وهو من مواليد 1947 وصباح من مواليد 1949، صباح هو الوحيد الذي لم يدخل المدرسة بعد، كانت عمتي التي على ما أظن رأتني أول مرة فرحت بأنني أقف أمامها الآن بطولي وعرضي، وراحت تملأ كثيرا من الفراغات في سجل ذاكرتها عني وكيف شفيت من الخرس، كانت تعبر لي عن فرحها الغامر أنها رأتني أول مرة، كانت لها ثلاث بنات اثنتان منهن أكبر مني سنا هما هيفاء وهناء والصغرى أصغر مني بحوالي سنتين هي نداء رحم الله من توفي وحفظ الله من بقيَ على قيد الحياة، كن ما زلن في المدرسة، وعندما عاد عدنان الله يرحمه من المدرسة رحب بي بحرارة ولكنني وجدته هادئ الطبع أكثر مما ينبغي لشاب مثله في الدراسة المتوسطة، كما عادت شقيقاته الثلاث أيضا فأخبرتهن عمتي عن الزائر الغريب الذي اقتحم على البيت عالمه الخاص، فشاركن عمتي فرحتها، وراح كل منا يقص شيئا من حياته الدراسية ومدى تقدمه فيها، وكل منا يباهي بأن مدرسته هي الأفضل، وكأنه مالكها.
كان شباك العاقول الذي يستخدمه العراقيون لتحسين الجو من فرط الحرارة ما زال قائما في مكانه على الرغم من انقضاء شهور الصيف الرسمية الثلاثة، والحق إنني لمست الفرق بين الجو داخل المنزل وخارجه، وعندما جاء عمي أبو عدنان رحب بنا ولم يفاجئ بوجودي فقد سبق أن زارنا أكثر من مرة في بغداد وعرفني جيدا، عمتي أم عدنان عاتبت جدتي على عدم إعطائهم خبرا قبل زيارتهم كي تعد لنا وليمة مناسبة وخاصة أنني أرى نزار لأول مرة، شعرت بكثير من الاعتداد بنفسي عند جملتها الأخيرة.
بعد أن تناولنا الغداء وتحميلي بالهدايا عدنا إلى بغداد، وأنا أحمل في ذهني ذكريات جميلة وصورا محببة في أن يكون لأي طفل أو فتى من أقاربه يحبهم ويحبونه، وبعد مدة قصيرة تم نقل "عمي أبو عدنان" إلى وظيفة مدير شرطة السكك في بغداد، فأصبح التواصل معهم متاحا يوميا، وتم تسجيل كلا من عدنان وسالم في مدرسة دار السلام، قبل أن أصاب بخيبة أمل عندما تم نقل أبي عدنان إلى وظيفة مدير شرطة لواء العمارة ومن هناك إلى مدير شرطة لواء ديالى، إلى استقر ثانية في وظيفة بمديرية التحقيقات الجنائية، ثم أحيل على التقاعد بعد خدمة طويلة في سلك الشرطة.
اللواء الركن / عمر علي
كانت لي عمة أخرى هي أم عامر وهي زوجة ضابط في الجيش العراقي هو المرحوم شاكر محمود السامرائي رحمهما الله وهو ابن خالتها المرحومة الحاجة سارة، وكان قد شارك في معركة جنين 1948 مع القائد عمر علي الله يرحمه، حتى أنه أطلق على ابنته اسم جِنان تيمنا بمعركة جنين، وكان يقيم في عقرة بحكم وجود وحدته العسكرية، ثم نُقل إلى بغداد عام 1954 وسكن في منطقة بغداد الجديدة وعمل في وزارة الدفاع ثم عندما أصبح الزعيم عمر علي آمراً للكلية العسكرية سحب أبا عامر مساعدا له ثم تقلب بين وظائف عسكرية ومدنية عديدة فبعد 14 تموز 1958 أصبح مديرا لتجنيد الحلة، ثم أحيل على التقاعد عام 1959 بسبب ميوله القومية، وبعد 8 شباط 1963 أصبح أمرا للواء الأول الذي حرر جبل بيرس وسر عقرة من سيطرة الحركة الكردية، ثم متصرفا للواء الموصل وبعدها متصرفا للواء العمارة وأخيرا متصرفا للواء الرمادي حتى عام 1968، ابنهما الكبير عامر يصغرني بسنة ونصف ولكنه كان متقدما علي في المدرسة صفاً واحداً بسبب المرض الذي كان يعيقني عن التسجيل في المدرسة، كان طالباً في مدرسة عادل الأهلية في الكرادة الشرقية،
وكنت أنا وهو ندخل في مباراة عن أفضلية دار السلام أو مدرسة مدام عادل، من دون أن نتوصل إلى حل وسط أو قبول أي منا بأن ينتقص من مكانة مدرسته وكأن الأمر شأن عائلي، وعقدت بيني وبينه علاقة صداقة متينة أيضا، ولهما عدة أولاد ذكور هم رعد وهيثم ومحمد وناصر والشهيد خالد الذي اغتالته المليشيات الموالية لإيران رحمه الله، وإناث هن شذى وقرطبة وإسراء.
بعد عدة أسابيع من عودتي من الرمادي وتعرفي على عمتي أم عدنان رحمها الله، وعرفت أولادها باستثناء رعد الذي وُلد فيما بعد، وعندما كنت أنا أتهيأ للذهاب إلى المدرسة وبعد أن أعدّتْ جدتي طعام الفطور المتكون من القيمر العراقي الشهير والخبز الساخن، طلبتْ مني "كتلي" الماء الفائر لتصب لي الشاي، فسقط من يدي، وأحرق قدمي اليمنى بحيث سلخ الجلد سلخا كاملا، وحاولتْ جدتي أن تخلع لي جواربي التي ساهمت في إلحاق الأذى بي، ولكن الجواريب عندما انتزعت كانت قد سحبت معها جزءً كبيرا من جلد قدمي، فهرع عمي شامل بعد أن سمع الصخب، فجاء لي بالدواء ولكن كان السيف قد سبق العذل، وبقيتُ أعاني من صعوبة في المشي لأكثر من شهر وما زالت آثار الحرق في قدمي إلى الآن، حتى أنني عندما كنت أذهب إلى المدرسة أو أعود منها إلى البيت، كنت أجلس على الرصيف مرات عدة بحيث أقطع الطريق بأكثر من ضعفي الوقت الأصلي.
مع دخول عام 1954 بدأت كرادة مريم تشهد حركة غير معتادة في الأرض الخالية من أي بناء والتي كان شباب كرادة مريم يتجمعون فيها للقيام بفعاليات رياضية وخاصة كرة القدم وهي التي شجعت على تأسيس أكثر من فريق شعبي لكرة القدم تتنافس فيما بينها، جاءت فرق المسح لتخلق حالة ارباك بين شباب المنطقة، وتقع هذه الأرض مقابل جامع الشاوي.
لم نتبين ما حصل وماذا يجري ولكن الشباب الذين أصيبوا بالإحباط من منعهم من الاقتراب من ساحتهم ألحوا في أسئلتهم عما يُبيت لهذه المنطقة، وأخيرا قال المهندسون بأن الاختيار قد وقع على هذه الأرض الخلاء لإقامة معرض بغداد التجاري الصناعي الزراعي وكان ذلك سببا في تضارب المشاعر عن طبيعة هذا المشروع وعما إذا كان دائما أم مؤقتا ولكن بعض الأصدقاء الذين كانت فرص سفرهم إلى خارج العراق قد مكّنتهم من روية معارض مماثلة أخبرونا بأن الأمر لا يزيد عن شهر فقط، لكن مكسبا فوريا تحقق التي لكرادة مريم، فالشارع الفاصل بين ساحة الملك فيصل والساحة المقابلة لجسر الملكة عالية تحت الإنشاء، قد بدأت عمليات تبليطه بهمة عالية ولأول مرة أشاهد مكان رصف مواد التبليط التي تأتي سيارات شركة ومبي البريطانية من أماكن أخرى وتضعها في فوهة عربة رصف المواد، ولكنني لأول مرة أيضا أرى شيئا فمه من الخلف، وبعد إنجاز عدة أمتار تأتي حادلات ويبدو أنها ثقيلة الوزن ومع حركتها ينزل الماء من فتحات على عجلتيها الحديديتين والتي يزيد عرض الواحدة منها على متر، ويبلغ قطرها حوالي مترين،
ولم يستغرق التبليط مدة طويلة حتى بدأ باص مصلحة نقل الركاب رقم "15" وبحافلات AEC بطابقين وبلونها الأحمر تشتغل على خط كرادة مريم، أصبت بذهول عن هذا المستوى الذي بلغته الدول الأخرى من التطور الذي لم نصل إلى جزء يسير منه، قال لي صديق هذا الباص بريطاني الصنع وهو البلد الذي ينتمي إليه جيمس واط مخترع الماكنة البخارية والذي كان الفضل لاختراعه في صنع المحركات اللاحقة.
انتهت السنة الدراسية على ما توقعت وكنت متفوقا فيها، ثم أُدخلت دورة في العطلة الصيفية أيضاً، ثم حلّ يوم افتتاح المعرض التجاري الصناعي الزراعي، إذ قصّ الملك فيصل رحمه الله شريط الافتتاح وكان يرافقه العشرات من المسؤولين وضيوف العراق من المدعوين لحضور هذه الفعالية الجديدة على الساحة العراقية وأعضاء السلك الدبلوماسي في بغداد، وقد أثار دهشتي وجود بث تلفزيوني داخل منطقة المعرض لجناح شركة باي البريطانية كحالة مثيرة إلى أبعد الحدود لقروي ما زال محملا بأثقال طويبة وتصوراتها وسؤال المعلم عن جيمس واط الذي عرفت إجابته بعد ثلاث سنوات، أخذني عمي شامل معه في إحدى الزيارات ودخلنا جناح جمهورية الصين الوطنية "فرموزا أو تايوان" ورأيت صناعة المعدات والمكائن والأجهزة الكهربائية، وأهم ما رأيته في مجال الصناعات الكهربائية،
مروحة منضدّية مع خاصية دورانها إلى الجهات الأربع من دون توقف، حاولت أن أبحث عن السلك الذي يوصل إليها الكهرباء فلم أعثر له على وجود، كانت المروحة محل فضول كثيرين، قال المرشد الواقف عندها ، لو أنها ترتبط بسلك ما تمكنت من الدوران بـ360 درجة، فالكهرباء تصلها عن طريق "صجم"، قلت لعمي رحمه الله لنشتريها، ولكن لوحة رُفعت فوقها تقول تم بيعها، أحبطت آمالي فقد أحببتها كثيرا، كما أُقيم سرك هوائي في المعرض، من بين فعالياته، أن برجا لا يقل ارتفاعه عن 15 مترا قد أقيم في أحدى ساحات المعرض وعلى مقربة منه حفرة صغيرة مُلأت بالماء، وبعد استعدادات وتحضيرات لشد الانتباه إلى الفعالية يأتي رجل مغامر في العقد الثالث من عمره، وعند وصوله إلى أطراف البركة وقرب سلم البرج يبدأ بإلقاء خطاب باللغة الانكليزية يتحدث فيها عن مغامرته وهو يحمل زجاجة فيها بنزين، ثم يبدأ بارتقاء البرج، وبعد أن يصل إلى منصة في أعلى البرج يبدأ برش البنزين على جسده ثم يغطي رأسه بغطاء من مواد غير قابلة للاشتعال هي وسائر البدلة التي يرتديها، عند ذاك يُلقى قليل من البنزين فوق بركة الماء وتُضرم فيها النيران، وكذلك يفعل المغامر في أعلى البرج إذ يضرم النار في نفسه، وبعد برهة وجيزة يُقدر فيها أن البنزين قد نفد، يُلقي بنفسه من أعلى البرج إلى البركة وعندما تكون النيران قد انطفأت من تلقاء نفسها، فيخرج من البركة رافعا بيديه إلى الأعلى ثم يكشف عن وجهه وليحيي جمهور المشاهدين الذين أفزعتهم هذه اللعبة المجنونة، لا أحد يعرف عمق بركة الماء التي ألقى بها نفسه، ولكنها قطعا عميقة ومدروسة العمق، كان الناس يرددون، هذا حساب "أبو ناجي لا تخافون عليهم"، كل شيء حسبوه بدقة، هل تتوقعون أنم يضحون بمواطن انكليزي من أجل الترفيه عن العراقيين، ومن المعدات التي أعجبتني مضخة ماء من نوع رستن تضخ الماء إلى حوض ليس واسعا أو عميقا، ولكن الحوض لا يريد أن يمتلأ، بحكم خلفيتي القروية حركت هذه المضخة فضولي، وإذا بها تسحب الماء عبر مسلك لا يُرى بسهولة ثم تضخه إليه ولهذا لا يمتلئ.
ولعدة مرات زرت المعرض مرة أخرى اصطحبني عمي أحمد رحمه الله وأخرى ذهبت مع أصغر أعمامي غازي رحمه الله الذي لا يكبرني كثيرا وكنت في كل مرة أرى أشياء جديدة في المعرض الذي لم يسبق لي أن رأيت شيئا مثله في حياتي السابقة، ولعل تدفق عشرات الآلاف من الزوار هو الذي كان يضفي عليه رونقا وألقا يشدّ إليه الأنظار واهتمام العراقيين.
عرضت شركة باي على الحكومة العراقية نصبَ محطة تلفزيون في بغداد، قيل في حينها أن العرض مجانّي وقيل كلام آخر، كما قامت الشركة بتوزيع أجهزة التلفزيون على مقاهٍ في بغداد في خطوة انكليزية ذكية لاحتكار السوق العراقية وحصر مشتريات جهاز التلفزيون في ماركة واحدة في مجتمع يتأثر بوقع الصدمة الأولى، ولنأخذ مثالاً على ذلك:
فعند حديث أي عراقي عن معاجين الأسنان سيقول كولينوس،
وعند الحديث عن مساحيق تنظيف الملابس سيقول تايد
وعند الحديث عن المناديل الورقية سيقول كلينكس، وبهذه الخطوة حققت شركة باي احتكارا للسوق العراقية عالية القيمة والقدرة الشرائية، ربما قامت الشركة بحساب كلفة الشحن من بغداد إلى لندن بالطائرة، أو من بغداد إلى البصرة عبر الطريق البري ثم من البصرة إلى الميناء البريطاني الذي تريد الشركة إيصال معداتها إليه، فوجدت أن "البطانة أغلى من الوجه" كما يقول المثل البغدادي، وبالفعل بدأت باي بتنفيذ مشروع تلفزيون بغداد ودربت كوادر عراقية من المهندسين والفنيين الذين وقع عليهم العبء الأكبر في إدارة أول محطة تلفزيون في الوطن العربي والشرق الأوسط، وقد افتتح الملك فيصل رحمه الله محطة التلفزيون في 2 أيار 1956 والذي يصادف عيد ميلاد الملك الواحد والعشرين.
وعلى المستوى العائلي في سنة 1954 تزوج عمي شامل كريمة خاله الحاج جاسم السامرائي كما تزوج عمي عبد الرحمن كريمة المربي الفاضل الذي خرّج أجيالاً كثيرة من أبناء سامراء، الأستاذ عبد الحميد عبد الوهاب البدري الأخ الأكبر غير الشقيق للدكتور عبد اللطيف البدري وطبيب الأسنان الدكتور علي البدري والأستاذ صفاء البدري رحمهم الله جميعاً والشيخ عبد الوهاب البدري أحد كبار علماء الدين الإسلامي في مدينة سامراء، كانت أيام سنة 1954 مليئة بالبشر والأفراح في بيتنا القديم، الذي شهد أحداثا مفصلية في حياتنا، وفي عام 1955 أيضا صار عندي شقيق هو مأمون بعد أربع بنات واحدة توفاها الله والثلاث بقين على قيد الحياة، وبذلك انتزع أخي مأمون حب أبي على حساب شقيقاتي وكان يسميه المأمون وأحيانا يدلعه بعبارات افتقدتها أنا منه كما افتقدتها شقيقاتي الثلاث، وفي بغداد رُزق عمي شامل بابنته البكر وأسماها أندلس لتعكس مدى تعلقه بتاريخ الآباء والأجداد العظام وما بنوه من حضارة إنسانية، أما عمي عبد الرحمن فقد رُزق ببنت أيضا ولكنه توجه في اختيار اسمها نحو الحضارة العباسية فأسماها سامراء.
ولكن عام 1955 حفل بأحداث من صنف آخر، إذ انتقل والدي إلى موطنه الأصلي مدينة سامراء بعد غربة اقتربت من عشرين سنة، وكذلك فعل جدي بدر وخالي فرحان وإسماعيل، وجميع الفلاحين السوامرة الذين استقدمهم الحاج جاسم ليفلحوا أرض طويبة الشاسعة، وذلك بسبب مشكلة عشائرية نشبت في المنطقة قبل سنتين ولكن مضاعفاتها بدأت تطفو على السطح بحكم تقاليد الثأر والثأر المقابل لدى معظم عشائر العراق سقط نتيجة ذلك كثير من الضحايا، وتبدأ القصة عندما قُتل مزروعي بعد أن اعتدى بضربة على رأس الحاج إبراهيم وهو الأخ الأصغر للحاج جاسم وهو مشغول في تقليب بعض الملفات أمامه فأسال دمه وتم نقله إلى المستوصف حيث تولى عبد الكريم العلوش خياطة جرحه كما فعل معي قبل أكثر من سنتين، فما كان من هذا الشخص إلا يهوي بكل قوة بـ"الكرطة" على رأس أبي طارق "الحاج إبراهيم"، وهاج الناس عندما رأوا أحد رموزهم يضرب بهذه الطريقة الوحشية، فاستل أحد الذين حضروا المشهد الحزين، سلاحه الناري ففتح النار على من أراد قتل الحاج إبراهيم، والكرطة سلاح أبيض يبلغ طوله نحو ذراع، ينتهي بقطعة من الحديد، وكانت النتيجة أن يُتهم ابن عمة أمي وزوج خالتي الحاج دحام الفاضل "أبو أركان" رحمه الله، بالحادثة وحُكم عليه بالسجن لعدة سنوات وهو لم يكن بالأصل موجودا في طويبة يوم وقوع الحادث، وبقي منطق الثأر هو السائد في الريف العراقي حتى اليوم مع ما بُذل من جهود حثيثة لوضع حد له، بل ربما انتقل منطق الثأر إلى المدينة العراقية بدلا من حصر نطاقه في الريف نتيجة عجز السلطات، بما فيها أكثر نظم الحكم قوة واستقرارا في العراق من حسره في نطاق ضيق، ولكنه لم يمت، ويبدو أن مقولة "الما يأخذ الثأر عار"، ظلت تفرض نفسها على المجتمع العراقي حتى انتقل من الأفراد إلى الجماعات بما فيها الحركات السياسية، ولنقلب تاريخ العراق السياسي منذ 1958 وحتى اليوم باستثناء فترات قصيرة، كان يحركه داينمو الثأر والثأر المقابل، استنادا إلى منطق الثأر المربع، فراحت ضحية هذا المنطق أرواح بريئة كثيرة لا شأن لها بالنزاعات.
بدأت الهجرة من طويبة نحو سامراء خاصة، وبعضهم هاجر إلى مناطق أخرى مثل الصعيوية أو الطريشة أو الجلام من أطراف سامراء وريفها، وكانت الهجرة منظمة هادئة على الأقل تَمكن الناس من أخذ متاعهم معهم من دون تهديد أو ترويع للسكان، كما حصل بعد عام 2014 في المناطق نفسها عندما قادت المليشيات أكبر الجرائم، وصادرت ممتلكات العراقيين بعد أكثر من ستين عاما من الهجرة الطوعية لسكان طويبة، وأُسكن غرباءُ في مساكنهم وتم اغتصاب بساتينهم وسلب مواشيهم، هذا كله حصل في ناحية يثرب وعشرات المدن العراقية.
كان على أبي أن يستعد لإعادة تأهيل منزل جدي حسون رحمه الله للسكن فيه والواقع في منطقة البو رحمان على بعد ربما لا يزيد عن خمسين مترا من بوابة علي الهادي، أما جدي بدر فقد اشترى منزلاً في المنطقة نفسها وإن كان يبعد أكثر من كيلو متر عن بيت والدي رحمه الله.
الخطوة التالية هي البحث عن عمل جديد للوالد هو وخالي فرحان فاشتركا في مشروع تجاري واحد وهو محل متنوع البضاعة وكان أشبه بسوبر ماركت مصغر وأسمياه "معرض العامل"، ولكن هذه الشراكة لم تستمر طويلا، واستقل أبي بمحل خاص به وكذلك فعل خالي فرحان، إلى أن قرر عمي شامل بناء عمارة في منزل جدي حسون الكبير والقريب من المرقد، وفعلا تم بناء أول عمارة في سامراء وتألفت من ثلاث طوابق وأُنجز البناء عام 1960، ثم اتخذ والدي من الطابقين العلويين في العمارة كفندق أطلق عليه اسم سرّ من رأى، وبذلك تنقل والدي من مهنة إلى أخرى في غضون فترة وجيزة، ولكن المهنة الأخيرة هي التي استقر عليها حتى آخر عمره رحمه الله.
وفي أحد أيام الصيف من عام 1955، قرر عمي عبد الرحمن السفر إلى سامراء لأخذ زوجته أم عوف الله يرحمها إلى أسرتها لأنها لم ترهم منذ عدة شهور، قال لي تهيأ للسفر معنا وقال سيأتي معنا أحمد اليبراغ وميسون شقيقة أم عوف، رحمهم الله جميعا، أخذنا السيارة وانطلقت بنا، كنت أنا والست ميسون وأحمد اليبراغ وهو أحد أقاربنا وصديق لعمي عبد الرحمن نجلس في المقعد الخلفي، وكانت أم عوف تجلس بجنب عمي عبد الرحمن، عندما وصلنا منطقة الطارمية نظرت إلى عداد السيارة فقلت لأحمد اليبراغ أنظر عمو سرعة السيارة الآن 120 كليو مترا، ثم دارت بنا الدنيا ولم أعد أر شيئا، فقد انقلبت سيارة الفوكسهول البريطانية الصنع والتي لم أحبها أبدا، عدة مرات على نفسها حتى استقرت وكانت اطاراتها إلى الأعلى، إن كان بها شيء على حاله السابق، قيل لي إننا لم نعثر عليك فيبدو أن قوة انقلاب السيارة قد قذفت بك إلى مسافة بعيدة، ونتيجة الوضع الصحي المتردي لأم عوف التي أصيبت إصابة بالغة في رأسها، فقد فكروا بتركي والذهاب بأم عوف إلى مستشفى الكاظمية الملكي، ولكن راعياً كان ماراً في المنطقة نادى عليهم، هذا واحد ميت أو جريح، فهبّ عمي عبد الرحمن لالتقاطي من بين الأشواك ووضعني في سيارة أحد المواطنين الخيّرين الذي تبرع بسيارته لنقلنا إلى المستشفى، كنت أصحو ثم أروح في غيبوبة، ولم أحس إلا وأنا في غرفة في المستشفى، كان وجهي مغطى بضمادات حتى أختفى رأسي وراء ضماد ودم، كانت هناك مرآة عندما رأيت نفسي شعرت بهول الفاجعة التي حلت بي، عندها فقط انتبهتُ إلى المرحوم أمين شاكر محمود وهو ابن خالة أبي وأمي وهو يطلب العون من أجل إخراج المرآة خارج الغرفة كي لا أرى ما حل بي، وفي اليوم التالي وقد استرددتُ وعيي جزئيا وجدت نفسي في صالة العمليات، وعمي شامل يتحدث بعصبية واضحة باللغة الانكليزية مع طبيب عرفت فيما بعد أنه ألماني الجنسية، لأن الطبيب بعد أن أجري عملية لتجبير الكسور المركبة بكلتا يدي ورجليّ اكتشف بعد أن أخذ الأشعة أنه ارتكب خطأ عند تجبير يدي اليمنى وأنه يجب أن يفتح الجبس ويعيد التجبير مرة أخرى، مما أغضب عمي شامل الذي كان طبيباً في هذه المستشفى حتى وقت قريب وهذا ما جعله يطّلع على مراحل العلاج، وبقيت أنا في مستشفى الكاظمية الملكي شهرين تقريبا، أما أم عوف فقد تم نقلها إلى مستشفى "المجيدية" الملكي قسم دار التمريض الخاص بسبب احتياجها إلى مراقبة دقيقة على مدار الساعة، وهذه المستشفى هي التي تحولت في سبعينيات القرن الماضي إلى مدينة الطب العملاقة، على العموم أذكر اليوم الأول عندما خرجت من صالة العمليات وكنت في الصورة المفزعة التي كنت عليها أنني في لحظة خاطفة من صحوة أنني رأيت أمي وقد شاهدتني بتلك الصورة المؤلمة، فصرختْ بصوت عالٍ هل مات نزار؟ ثم مزقت ثيابها وهي تبكي بمرارة وحرقة لم أكن أتصور كيف وصل أبي وأمي إلى بغداد بهذه السرعة، كان كثير من الأقارب قد تجمعوا في المستشفى لغرض الاطمئنان علينا، أما عمي عبد الرحمن وأحمد اليبراغ فلم يلحق بهما أذى، وأصيبت الست ميسون إصابة بالغة في ظهرها.
ولم أعدّ أرى أمي في المستشفى لأنهم منعوها من زيارتي بسبب ما تتركه من آثار نفسية عكسية على وضعي الصحي من جهة وضجيج في المستشفى، ثم خرجت من المستشفى بعد أن امتلكت المقدرة على المشي أو تحريك يديَ ولكن بصعوبة بالغة، وعندما وصلنا إلى بيتنا في كرادة مريم "أبي وأنا" فرحتْ أمي كثيرا وكادت أن تهلهل، ولكن وضع أم عوف والست ميسون الصحي منعها من ذلك.
بعد أن اطمأن أبي وأمي على التحسن السريع الذي أحققه، قالت لي أمي لقد تركنا أخاك الصغير مأمون وأخواتك لوحدهم والآن سنتركك ونغادر إلى سامراء على أمل العودة قريبا إلى بغداد وهذا ما حصل، وعندما أصبح بامكاني التحرك بصورة مُرضية طلب مني عمي عبد الرحمن أن أذهب إلى المستشفى لأجلس مع أم عوف عدة ساعات حتى يأتي هو، كانت المخاوف من أن أصابتها في الرأس وقد كُسرت جمجمُتها مما جعل الأطباء يتوقعون أصابتها بفقدان البصر أو السمع أو النطق أو الشم، وقالوا نرجو أن يقتصر الأمر على فقدان الشم لأنه أهون الشرور، عندما كنت أذهب إليها في المستشفى كنت أراقب قدرتها على الرؤية والسمع فقط أما النطق فلم تتمكن من التحدث ولو بكلمة واحدة، وفي نهاية المطاف فقدتْ قدرتها على الشم فقط وبعد عدة شهور خرجت من المستشفى بصحة جيدة على العموم.
وفي العام نفسه تم جلب جدتي لأمي من سامراء لعرضها على الأطباء وجاءت معها أمي أيضا، ونتيجة الفحوصات المستمرة، تأكدت إصابتها بسرطان المعدة، وكان دوري معها أيضا في مراقبة احتياجاتها في المستشفى، ولكن الأطباء أخبروا عمي بأن وضعها الصحي في حالة تدهور مستمر وأن العلاج لم يعد ينفعها، وكل ما يمكن أن يفعلوه هو إعطائها المسكنات لتهدئة آلامها لا أكثر، وبعد عدة أسابيع من ذلك توفيت رحمها الله.
كان بيتنا في كرادة مريم مثابة مريحة لكل الأقارب القادمين من سامراء على صغر مساحته لكن مساحة الترحيب لا حدود لها وبسبب شعور الجميع بأنهم مرحبٌ بهم في أي وقت من دون استئذان فإنهم يأتون من دون حرج، ولهذا فإن خالي إسماعيل عندما أستدعي للخدمة العسكرية، حل في بيتنا لمدة ثلاثة شهور وسط ترحاب عال من جدتي أي خالته الكبرى وكان معسكر التدريب في الوشاش، وعندما حان وقت الرحيل ودعته جدتي بالدموع داعية له بالخير والتوفيق في حياته المدنية.
399 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع