زينب حفني
من منّا لا تُشكّل الأم علامة بارزة في حياته؟ لقد لفت نظري عنوان رواية الروائي المغربي القدير الطاهر بنجلّون: «عندما تترنّح ذاكرة أمي»، فاقتنيتها على الفور.
لا شيء في الدنيا يُغنينا عن حب أمهاتنا، حتّى بعد أن نكبر ويُصبح لنا عالمنا الخاص، تظلُّ الأم الشجرة الوارفة التي تُظلل حياتنا بحبها النقي الخالي من شوائب المصالح.
كل من يقرأ رواية «بنجلّون» لا بد أن تدمع عيناه. الرواية مترجمة عن الفرنسيّة للعربيّة بمفردات أخّاذة. وتفاصيلها تتحدّث عن سيرة حياة أم بنجلّون، وهو ما دفعه لكتابة النص بضمير المتكلم مما جعل النص ينبض بالحياة. وقد مزج «بنجلون» في روايته بين تفاصيل ماضي أمه بزيجاتها الثلاث يوم كانت شابة جميلة، وبين حاضرها حين بدأت تنزلق نحو هوّة الشيخوخة والمرض إلى لحظات احتضارها وموتها. فيقول في مستهل الرواية «تحولت أمي منذ مرضها إلى كائن صغير ذي ذاكرة مترنحة. فهي تُنادي أفراد عائلتها الذين ماتوا من زمن بعيد..».
يقول في الفصل الثالث:«.. ضعف بصرها، لكن سمعها سليم. تعرَّفت على الأذان في زقزقة عصفور دوري. قالت: إنّه يُكبّر للصلاة. لم تعاكسها أختي، مؤكدة أن الطائر مَلَك كريم نزل من السماء ليُصلي معهما». وفي الفصل نفسه يقول:
« تتحدّث أمي دائماً عن الموت بهدوء وصفاء. فإيمانها بالله جعلها لا تخاف من الموت.. يا ولدي.. أحتاج إلى المال. إياكَ أن تنسى ما قلته لك الآن: يجب أن تكون جنازتي احتفالاً كبيراً..».
يقول في الفصل الرابع:« كانت أمي دائماً قصيرة القامة، فكان والدي يسخر منها بسبب ذلك. اليوم لم يعد قصر قامتها يُزعجها». وفي موضع آخر يقول:« ظلَّ يستحوذ على أمي طوال حياتها وسواس «دارها». أن تجد نفسها غير مستقرة تتقاذفها المنازل والمدن، فتصبح عبئاً على أبنائها وزوجاتهم».
يقول في الفصل السادس:« ما اسم هذا المرض؟ الزهايمر؟ أحياناً تمرُّ أمي بلحظات صحو وانسجام كاملين..». وتقول:« لقد فقدتُ ذاكرتي حدّتها وتوهجها. وأصبح رأسي مع تقدمي في السن صغيراً لا يقوى على حفظ كل شيء..».
يقول في نهاية الفصل الثالث عشر:« كانت فاس وقتئذ تُعاني من آثار الحرب العالميّة الثانية، حيث كان الناس يحصلون على نصيبهم الزهيد من الزيت والسكر والطحين مقابل قسائم مقننة بصرامة.. قبل نهاية الحرب بأسابيع قليلة، وُلدتُ أنا».
يقول في نهاية الفصل السادس والثلاثين:« سكرة موتها كانت بطيئة هادئة. شرع جسدها يخور شيئاً فشيئاً..». وفي موضع آخر يقول:« ينتابني حزن فادح، لأنَّ صورة أمي تكون قد توارت عن عينيَّ. سأكون الطفل الحزين الذي تصعب مواساته..».
يقول في الفصل السابع والثلاثين:« حين عدنا إلى الدار، واجهنا فراغ خانق.. ها قد أصبحت أمي عدماً بين عشيّة وضحاها. أبداً لن أعود إليها. - يقصد مدينة طنجة- كما لن أزور القبر أبداً.. فليست أمي من وُوريَ جسدها في الثرى. إن أمي هنا، أسمعها تضحك وتُصلّي..».
ما يُميّز هذا الرواية التي تأخذ منحى سيرة ذاتية، أنها جسّدت عمق العلاقة التي ربطت هذه الأم بأبنائها وعلى الأخص ابنها «بنجلّون»، وكيف أثّر موتها عليه بتسطيره رواية كاملة عنها. ومن جانب ثانٍ بيّنت لحظات الضعف الإنساني التي تلحق بالمرء امرأة كانت أم رجلاً حين يذوى الشباب ويذبل الجسد ويقترب العمر من خط النهاية. ومن جانب ثالث وهو الأهم من وجهة نظري، أن هذه الرواية تعكس الحالة الاجتماعية التي كانت موجودة بالمغرب إبّان حقب معينة، والطريقة التي كانت تتبعها الأسر الفاسيّة في تزويج بناتها..رواية تستحقُّ أن تُقرأ.
611 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع