1- أستقبال فاتر فى مطار " نوفيكوفو "
حفلت زيارة رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى الى موسكو مؤخراً بعدة مفارقات ملفتتة للنظر . أولى هذه المفارقات هى المستوى الذى أستقبل به المالكى و أعضاء الوفد العراقى المرافق له فى مطار " نوفيكوفو " فى العاصمة موسكو ، و الذى أقتصر على أحد نواب وزير الخارجية الروسى و السفير العراقى فى موسكو و عدد من موظفى السفارة .
وهذه سابقة غريبة لم تحدث مع أى رئيس وزراء أجنبى آخر زار موسكو بدعوة رسمية ، حيث جرت العادة على أستقبال رؤساء الحكومات الأجانب من قبل نظيرهم الروسى أو نائبه الأول فى الأقل . و ليس من الواضح ان كان السيد المالكى أو أحد أعضاء الوفد ، قد أحتج على هذا المستوى المتدنى أو أبدى أمتعاضه لدى الجانب الروسى ,و لو كان أى رئيس آخر مكان المالكى لشعر بالحرج الشديد و عاد أدراجه الى بلده. و على اية حال فأن المالكى لا يمثل نفسه فقط ، بل يمثل العراق فى الخارج مهما كان رأينا فى سياساته الداخلية و الخارجية . و لم بقتصر التعامل اللاودى مع المالكى على الطريقة التى أستقبل بها فى المطار ، بل شمل أيضاً لقائه بالقادة الروس ، فقد أضطر المالكى الى الأنتظار يومين كاملين قبل أن يحظى بمقابلة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين . مما يدل على ان ما جرى فى المطار لم يكن عفوياً . و هنا يمكن للمرء ان يتساءل ان كان ثمة تنسيق مسبق بين الجانبين العراقى و الروسى على جدول الزيارة على نحو مفصل و بضمنه مستوى الأستقبال و مواعيد مقابلة قادة الكرملين .
2 - تغطية أعلامية روسية هامشية:
و المفارقة الثانية تتمثل فى تجاهل وسائل الأعلام الروسية لزيارة رئيس الحكومة العراقية فى اليوم الأول من الزيارة . حيث لم تشر اليها القنوات الفضائية الروسية فى نشراتها الرئيسية فى مساء ذلك اليوم ما عدا قناة " روسيا اليوم" الناطقة باللغة العربية . و ظل هذا الصمت الأعلامى مستمرا حتى مساء اليوم التالى و لحين مقابلة المالكى لرئيس الوزراء الروسى " ديميترى ميدفيديف ". حيث بدأت بعض وكالات الأنباء الروسية ببث خبر صغير عن الزيارة على نحو مقتضب ، كما نشرت بعض الصحف الموسكوفية الخبر فى الصفحات الداخلية و ضمن أخبار متفرقة ، مع التركيز على كلمات "ميدفيديف " عن أستعداد موسكو لتعزيز التعاون بين الجانبين فى المجالات العسكرية و الأقتصادية .
و تجدر الأشارة هنا الى أن روسيا كانت ضد التدخل الأميركى فى العراق لأسقاط نظام صدام حسين ، كما هى اليوم ضد أسقاط نظام بشار الأسد . و على مدى السنوات التى أعقبت سقوط النظام الصدامى فى العراق ، كانت التقارير التى تقدمها مراكز الأبحاث الأستراتيجية الروسية الى صناع القرار فى الكرملين تؤكد ، أن الحكومات العراقية المتعاقبة تأتمر بأوامر البيت الأبيض ، و نحن لا نناقش هنا هذا الرأى و لكن نقرر حقيقة الموقف الروسى من عراق ما بعد صدام . و هذا يفسر لنا الصمت الأعلامى فى اليوم الأول للزيارة و التغطية الهامشية لها فى اليومين التاليين ، حيث لم يكن بوسع الكرملين أن يرحب و يذيع على نطاق واسع خبر
وصول من أتهمته وسائل الأعلام و معاهد الأبحاث الروسية بالخضوع لأرادة واشنطن .
كما ان صورة عراق المالكى فى الأعلام الروسى و فى أذهان الروس عموماً ، صورة مرعبة و مركبة من مزيج من الصراع الطائفى و الأرهاب الدموى و الفساد و غياب سلطة القانون و التصفية الجسدية للخصوم السياسيين . و كان أحد المحللين السياسيين الروس قد قال معلقاَ على الأزمة السياسية الحالية فى العراق ، أن مشكلة العراق الرئيسية اليوم هى عدم القدرة عل أنتزاع الحكم من يد ستالين العراق .
.
لذا لم يكن من المتوقع أن يلقى رئيس الوزراء العراقى استقبالاً حافلاً فى موسكو على المستويين الرسمى و الشعبى مهما قدم من مغريات الى القيادة الروسية ، لأن ذلك كان سيشكل انقلاباً مفاجئاً فى الموقف الروسى من عراق المالكى . و أحراجاً كبيرأ للكرملين أمام الرأى العام الروسى . و هذا يفسر لنا نوع الأستقبال الذى جرى فى المطار و التغطية الأعلامية الهامشية للزيارة .
3 –أسلحة هجومية صالحة للأستخدام الجبلى و الصحراوى :
ولعل المفارقة الأهم و الأخطر هى ان أول تصريح أطلقه المالكى بعد أن وطأت قدماه أرض مطار " نوفيكوفو " فى موسكو ، كان تأكيده " أن العراق بحاجة الى أسلحة صالحة للأستعمال فى المعارك الجبلية و الصحراوية." أى بتعبير آخر ضد الكرد فى الجبال و ضد السنة فى المناطق الصحراوية من الأنبار أو ضد النظام القادم ، الذى سيتولى الحكم فى سوريا بعد سقوط النظام الحالى . جاء هذا التصريح الخطير رداً على سؤال لمندوب وكالة " ريا نوفستى " للأنباء . و شكل مفاجأة حقيقية ، لأن المالكى كان قد صرح مراراً، قبيل زيارته لموسكو ، ان حكومته تسعى الى الحصول على أسلحة دفاعية و لا تنوى شراء أسلحة هجومية ، و أن تسليح الجيش العراقى هو من اجل الدفاع عن العراق و ليس من اجل أشعال فتيل الحرب الداخلية . و لكن المالكى فضح نواياه الحقيقية بنفسه ، و لا ندرى أن كان ذلك زلة لسان أم الثقة المفرطة بالنفس أو نشوة أنتصار على معظم خصومه السياسيين, حيث لم يعد أمامه بعد اليوم من عائق لتأسيس دكتاتورية جديدة سوى أقليم كردستان .
صفقة الأسلحة العراقية – الروسية الجديدة هى أسلحة هجومية حصراً ، و بهذا الصدد قالت جريدة " فيدومستى " المقربة من الكرملين ، ان قيمة صفقة الأسلحة الروسية تبلغ (4،3)
مليار دولار و تشمل شراء طائرات و مروحيات مقاتلة و دبابات و منظومات صواريخ و غيرها من الأسلحة الحديثة ..
و على الصعيد نفسه ، أكد سيرغي تشيميزوف، رئيس شركة "روستكنولوجيا" التي تتبع لها شركة "روس أوبورون أكسبروت" التي تتولى تصدير الأسلحة الروسية، لصحيفة "كوميرسانت" أنه تم توقيع صفقة أسلحة للعراق في شهر آب/أغسطس من العام الجاري أثناء زيارة الوفد العسكرى العراقى برئاسة وزير الدفاع العراقى بالوكالة سعدون الدليمى الى روسيا . بعد ان قام الوفد بزيارات ميدانية الى منشآت التصنيع العسكرى ، و قد أستغرقت تلك الزيارات و المباحثات التى اجراها الوفد العسكرى مع الروس أكثر من شهر واحد .
وقالت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" ، إن العراق سيحصل على أسلحة روسية بما فيها الراجمات الصاروخية و المدفعية المضادة للطائرات والمروحيات المقاتلة تقدر قيمتها بـ4.2 مليار دولار. وأكثر من هذا، يمكن أن يشتري العراق مقاتلات "ميغ" وطائرات "سوخوي" وكذلك دبابات ومدرعات. وستضع هذه الصفقات العراق في مصاف أهم شركاء روسيا في ميدان التسليح إلى جانب الجزائر وفنزويلا.
و قد صرح المالكى قبيل مغادرته لموسكو ان مباحثات مكثفة تجرى الآن بين الجانبين لعقد صفقات أسلحة جديدة .
و لا يخفى على أحد ان موسكو متلهفة لأستعادة نفوذها و مكانتها فى الشرق الأوسط و بخاصة فى العراق و لا تفرض شروطا على بيع الاسلحة كما تفرضها الولايات المتحدة الأميركية و العديد من بلدان حلف الناتو" و فى مقدمة هذه الشروط ان تكون الاسلحه المباعه دفاعية وليست هجومية، وتقديم المشتري تعهدات بعدم أستخدامها فى النزاعات الداخلية.
و الطريف فى الأمر أن النائب عن ائتلاف دولة القانون عباس البياتي أدلى بتصريح صحفى عشية زيارة المالكى لموسكو يقول فيه " أن التعاقدات العسكرية التي سيتعاقد عليها رئيس الوزراء نوري المالكي مع روسيا هي تعاقدات لوجستية بسيطة " و أشك كثيراُ ان كان السيد النائب يعرف حقاً معنى مصطلح "الــ(لوجستى )
4ـ محور موسكو- طهران- بغداد لأنقاذ نظام الأسد :
و المفارقة الرابعة هى التناقض بين أقوال المالكى و أفعاله ، حيث أكد فى مناسبات عديدة ، أن العراق يقف على " الحياد " فى الصراع الدائر الآن فى سوريا بين النظام الأسدى و معارضيه . و هذا أدعاء مناقض للواقع تماما ً ، فقد أثبتت الأحداث أن حكومة المالكى قد رمت بثقلها الى جانب النظام الأسدى ، و ان العراق أصبح اليوم ضمن محور ( طهران – موسكو ) و ظهيرأً للنظام السورى على شتى الأصعدة و ممراً لأيصال الدعم العسكرى الأيرانى الى النظام السورى جواً و براً تنفيذاً للأتفاق الأستراتيجى ( السرى ) الموقع بين بغداد و طهران خلال زيارة المالكى الأخيرة لطهران قبل بضعة أشهر و الذى ينص على الدعم المتعدد الأوجه للنظام السورى و الألتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على طهران . و منها أستخدام المصارف العراقية فى تعاملات أيران التجارية مع العالم و تزويد دمشق بالنغط العراقى و دفع مرتبات القوات الأمنية السورية من خزينة الدولة العراقية ، وهى معلومات كشفت عنها صحيفة " الراصد العسكرى " الروسية فى أعقاب زيارة المالكى لطهران ..
موقف المالكى و تدخله فى الصراع الدائر اليوم فى سوريا ، لم يعد سراً ، لذا فأن التصريح الذى أدلى به فى موسكو حين قال : "نحن نحذر من إشعال النيران والتدخل لإسقاط الأنظمة السياسية بالقوة كما يحصل في سورية " أثار موجة من السخرية اللاذعة فى الأوساط الدبلوماسية العربية فى موسكو و لندن .".
ففى موسكو ،وصف مراقب سياسي عربى ، رفض رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التدخل العسكري لاسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بالتشكيك بشرعية وصوله الى الحكم الذي جاء بتدخل عسكري يرفضه اليوم.
وقال مراقب عربي من العاصمة البريطانية لندن "لقد وقع المالكي في فخ نصبه لنفسه، ويبدو ان نشوة الكرسي أنسته كيف وصل الى حكم المنطقة الخضراء".
وتساءل بقوله "أيعقل ما يقوله رئيس حزب الدعوة الاسلامي المدعوم من ايران حول (صراخه) في موسكو بان حكومته ترفض سياسة إشعال النيران والتدخل لإسقاط الأنظمة السياسية بالقوة".
وقال "هل تناسى المالكي عن عمد كيف وصل الى كرسيه، أم انسته نشوة السلطة؟".
ويرى مراقبون ان زيارة المالكي الى موسكو جاءت بنصيحة "ايرانية - سورية" مشتركة في محاولة لايصال رسالة الى واشنطن مفادها ان حكومته لا يمكن ان تترك المحور الايراني.
5 - عن أى خطر خارجى يتحدث المالكى ؟:
المالكى فى سباق محموم مع الزمن للحصول على أسلحة هجومية حديثة ، فلديه اليوم عقود تسليح موقعة مع الولايات التحدة الأميركية لتجهيز جيشه المليونى بطائرات مقاتلة و دبابات و منظومات صوارخ متطورة بقيمة 12,2 مليار دولار و عقود مماثلة بمئات الملايين من الدولارات مع كندا و أوكرانيا و دول اخرى ، أضافة الى صفقة السلاح الروسى الحالية بقيمة 4,3 مليار دولار و القادمة بمليارات الدولارات - التى اشار ايها المالكى بنفسه فى تصريح لوسائل الأعلام العالمية - . و السؤال الذى يتبادر الى الذهن هو : ممن يخشى المالكى ؟ و ما هى الأخطار الخارجية التى تواجهها حكومته ؟
الخطر الخارجى الوحيد الذى يمكن ان يهدد العراق هو الخطر الأيرانى ، و لكن المالكى فى شهر عسل دائم مع النظام الأيرانى و لولا هذا النظام لما وصل الى سدة الحكم أصلاً ، ومن المستبعد أن تكون ايران مصدر خطر على العراق ما دام المالكى أو أى رئيس وزراء آخر من طائفته فى الحكم .
ثم هل تشكل دول الجوار الأخرى أى خطر على العراق ؟ أن أى عاقل لا يمكن أن يتصور بأن العراق سيتعرض الى هجوم من دولة حليفة للولايات المتحدة كتركيا أو من دول الجوار العربية. كما أن الأتفاقية الأمنية بين العراق و الولايات المتحدة تنص على حماية العراق من أى عدوان خارجى .
أذن فأن الأستناج المنطقى الوحيد هو أن المالكى يتأهب للأستيلاء على المناطق المستقطعة من أقليم كردستان و الدخول فى حرب داخلية ضد الشعب الكردى ، و كذلك مواجهة النظام القادم الذىسيتولى الحكم فى سوريا بعد سقوط النظام الأسدى . و لكن مخاوف المالكى فى غير محلها ، لأن الفترة الأنتقالية التى ستشهدها سوريا ما بعد الأسد ، لن تتيح لها الفرصة للقيام بمغامرات عسكرية خارجية .
و اخيراً من حق كل عراقى ان يتساءل : ألم يكن من الأجدر صرف المليارات من الدولارات التى ذهبت وتذهب لعسكرة العراق من جديد ، على أعمار البلاد و أنشاء البنى التحتية التى تمس الحاجة اليها .
أن من المثير للسخرية أن يطلب المالكى تشريع قانون " الدفع الآجل " الذى اطلق عليه اسم قانون " البنى التحتية " أى الحصول على قروض أجنبية يزيد على ثلاثين مليار دولار من أجل صرفها على مشاريع البنى التحتية . أذن أين ذهبت ما يزيد على (600) مليار دولار صرفتها حكومة المالكى خلال السنوت الست الماضبة ؟
ان كل ما يجرى فى عراق المالكى اليوم أشبه بحكاية ميلودرامية منافية للمنطق السليم ، مضحكة و مبكية فى آن . و كم فى العراق من مضحكات و لكنه ضحك كالبكا .
جودت هوشيار
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
474 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع