أعتقد جازماًَّ ، أنه لو خلت (الكوردولوجيا) الروسية والأوروبية من أعمال و مخطوطات الدبلوماسى والمستشرق الروسى البارز ، البولونى الأصل ،" آفگوست ژابا "
(1894 - 1801) لكانت صورة الأدب الكلاسيكى و التراث الشعبى الكوردى– كما نعرفها اليوم – مغايرة الى حد كبير , و أقل ثراءً ، ذلك لأن هذا العالم الجليل ، هو الذى بادر – عندما كان يشغل منصب قنصل روسيا القيصرية فى مدينة أرضروم خلال الفترة (1848–1866) - الى تعلم اللغة الكوردية و جمع العلماء الكورد حوله و فى مقدمتهم العالم الكوردى " الملا محمود البايزيدى " و حثهم على تدوين خير ما فى هذا التراث من آثار أبداعية و فكرية ، أصبحت اليوم محل زهو المثقفين الكرد عموما و المبدعين والباحثين منهم على وجه الخصوص.
تخلى " ژابا " عن منصبه الدبلوماسى من اجل التفرغ لـ( الكوردولوجيا ) وكرس ما تبقى من حياته فى سبيل جمع و نسخ عيون التراث الكردى و هو الذى أعد أولى القواميس الكردية – الفرنسية ، و الفرنسية الكردية - المحفوظة اليوم فى أشهر دور المخطوطات الروسية و الفرنسية .
و مما يدعو الى الأسف حقاً ، ان الأوساط العلمية و الثقافية الكوردية ، لم توف هذا الرجل حقه و لم تذكر – كما يجب – جهوده المضنية فى توثيق و أنقاذ أهم جانب من جوانب التراث الكوردى الكلاسيكى و الشعبى .و حتى خلال المهرجان - الذى نظمته وزارة الثقافة الكوردستانية فى دهوك – قبل حوالى خمس سنوات - المكرس لأحياء ذكرى " الملا محمود البايزيدى " ، لم تذكر جهود هذا المستشرق على النحو ، الذى يستحقه ، ولم يحظ من المهرجان سوى بأشارة عابرة هنا و هناك فى ثنايا البحوث المكرسة للبايزيدى والتى كانت بعيدة كل البعد عن البحث المعمق فى مؤلفات و ترجمات " البايزيدى " نفسه ، ناهيك عن أعمال " ژابا " ما عدا البحث ، الذى قدمته الدكتورة شكرية رسول عن سيرة حياة و أعمال الكوردولوجية البارزة مرجريت رودينكو (1976 - 1926) ، و تطرقت خلاله الى جهود " ژابا " . و رودينكو ، عالمة فذة ، يعود الفضل اليها فى نفض غبار النسيان عن المخطوطات الكوردية المحفوظة فى روسيا و تحقيق القسم الأهم منها و ترجمتها الى اللغة الروسية و نشرها خلال ربع قرن (1976 - 1951) من الجهد العلمى الدؤوب ، تلك المخطوطات النفيسة ، التى الفها او نسخها او ترجمها عن الفارسية و التركية الى الكوردية عدد من الشعراء و الأدباء و رجال الدين الكورد بطلب من " ژابا " و مساعده ، رجل الدين الكوردى " البايزيدى " و قد كنا أول من كتب سيرة حياة " رودينكو " و ذلك فى مقالنا المنشور فى مجلة " زاغروس " عام 1998 ، و هى مجلة كانت تصدرها وزارة الثقافة الكوردستانية و يرأس تحريرها الكاتب و الصحفى الراحل نزار جرجيس ( 1948 – 2008)
و لولا جهود " ژابا " لم نكن نعرف اليوم شيئاً ، حتى عن " البايزيدى " و عن العديد من العلماء و الأدباء و الشعراء الكورد الكلاسيكيين ، الذين عاشوا فى مدينة أرضروم ( كوردستان الشمالية ) َ فى منتصف القرن التاسع عشر . ، فـ " ژابا " هو الذى كلف " البايزيدى " بتدوين و ترجمة الآثار الكوردية النادرة و الثمينة و فى مقدمتها ، ترجمة كتاب " شرفنامة " للبدليسى من اللغة الفارسية الى اللغة الكوردية لأول مرة و تأليف كتاب عن" العادات و التقاليد الكردية " و غير ذلك كثير .
وليس من المبالغة فى شىء القول أن " ژابا " هو المؤسس الحقيقى للكوردولوجيا الروسية .
صحيح ان مستشرقين آخرين سبقوا " ژابا " فى دراسة بعض جوانب حياة الشعب الكردى ولغته و تأريخه و ثقافته ، لعل أبرزهم المستشرقون " ب. لرخ " و " ب. دورن" و " ف. ديتل " . و كان الأعتقاد السائد لدى المستشرقين السوفييت و تلامذتهم من الباحثين الكورد ، أن هؤلاء المستشرقين الثلاثة هم أبرز مؤسسى الكوردولوجيا الروسية . و لكن " ژابا " كان هو المستشرق الوحيد ، الذى و قف جل حياته و معظم و قته لـ( الكوردولوجيا ) . و كان هذا هو هدفه الأسمى فى الحياة ، و الذى سعى الى تحقيقه بكل جد و تفان ، و لم تكن جهوده موزعة على دراسة لغات و ثقافات عديدة متباينة فى معظم الأحيان ، كما فعل مستشرقون آخرون ، و الذين كتبوا عن الكورد و كوردستان ضمن دراساتهم عن تركيا او ايران او البلاد العربية . " ژابا " هو الذى أنقذ جزءاً كبيراً من الأعمال الأبداعية الكوردية من الضياع و الأهمال و النسيان ، ان لم يكن الجزء الأهم منه . و يكفى ان نقول ان أغلب المخطوطات الكوردية فى روسيا قد تم جمعها بجهود "جابا " و مساعديه من الأدباء و العلماء الكورد. و هى مجموعة قيمة لا نظير لها ، لا فى روسيا ، و لا فى الدول الأوروبية مثل فرنسا و ألمانيا و حتى فى كردستان الكبرى نفسها .
و لد " ژابا " فى عام 1801 فى مدينة ( فيلنو ) من عائلة بولندية نبيلة ، وتخرج فى جامعة فيلين - التى تفاخر اليوم بطلابها النوابغ الذين تخرجوا فيها منذ تأسيسها قبل حوالى مائتى سنة و من بينهم " آفگوست ژابا "- ، الذى ألتحق بعد تخرجه بمعهد اللغات الشرقية التابع لوزارة الخارجية القيصرية . و كانت المهمة الرئيسية للمعهد المذكور تهيئة الشباب المثقف - من العوائل النبيلة فى غالب الأحيان - للعمل فى السلك الدبلوماسى . و قد تم تعيين " ژابا " فى البداية بصفة مترجم فى القنصلية الروسية فى يافا ( فلسطين ) قبل نقله الى سالونيكا ومن ثم الى سميرنا ( أزمير التركية حاليا ) .
و فى العام 1948 تم تعيينه قنصلا لروسيا القيصرية فى مدينة أرضروم ( كوردستان الشمالية ) .
أشترك فى حرب القرم ( 1856 - 1853) بين روسيا القيصرية و تركيا العثماتية ، و بعد ان وضعت الحرب أوزارها ألتحق بوظيفته القنصلية فى أرضروم مجدداً .
لقد دأب بعض الدارسين الكورد ، على نقل و ترديد ما تقوله ( الكوردولوجيا ) السوفيتية حول هذا الموضوع أو غيره من قضايا الكوردولوجيا ، من دون تمعن او تمحيص أو محاولة التحليل النقدى لما نقلوه من مصادر يغلب عليها الطابع الأيديولوجى ، الذى كان يتماهى مع أهداف النظام السوفييتى القائم آنذاك.
فعلى سبيل المثال تذكرأدبيات الــ(كوردولوجيا ) السوفيتية ، أن " ژابا " شرع بدراسة اللغة الكوردية و جمع المخطوطات الكوردية لأكاديمية العلوم الروسية ، . بناءأً على طلب الأكاديمى " ب. دورن" مدير المتحف الآسيوى آنذاك . و لكننا نعتقد أن هذا التكليف جاء بعد ان علمت الأكاديمية بنشاط " ژابا " العلمى و نجاحه فى جمع عدد كبير نسبيا من خيرة المثقفين و الأدباء و العلماء الكرد حوله فى مدينة ارضروم و تشكيل ما يشبه تجمعا ثقافيا مهمته أنقاذ جانب من التراث الكردى من الضياع . و لدينا سبب قوى للأعتقاد بأن " ژابا " هو الذى بادر الى العمل فى هذا السبيل من تلقاء نفسه و ليس بتكليف من أحد ، لأنه – كما نوهنا آنفاً - أستقال من منصبه الدبلوماسى فى العام 1866 و أنتقل الى مدينة (سميرنا) و قرر تكريس بقية حياته للأعمال الكوردولوجية و فى مقدمتها ، تأليف أولى المعاجم الكوردية – الأجنبية على وفق المناهج العلمية الأوروبية الحديثة ، فقد كان " ژابا " عالما بحق و ليس دارساً هاويا أو دبلوماسياً مكلفاَ بأنجاز مهمة بعيدة عن واجباته القنصلية .
وتتألف مجموعة جابا , من (54) مخطوطة منها (44) مخطوطة باللغة الكردية و (4) باللغة الفرنسية و (3) باللغة التركية , وهذه المخطوطات تتضمن نتاجات في شتى جوانب الثقافة الكردية ( اللغة , الادب , الفولكلور , الاثنوغرافيا , التاريخ ) وهي محفوظة في مكتبة سالتيكوف – شدرين الحكومية العامة في مدينة بطرسبورغ كما توجد مجموعة ثمينة أخرى من المخطوطات الكردية في مكتبة معهد الاستشراق التابع لأكادمية العلوم في المدينة ذاتها وتتألف من (40) مخطوطة منها ( 3) مخطوطات مأخوذة من مجموعة " ژابا " اما البقية فقد قدمت للمكتبة من قبل عدد من المستشرقين منهم " دورن " و " فيليا مينوف – زيرلوف " وآخرين. و بين تلك المخطوطات بعض أعمال " ژابا " المبكرة مثل " ترجمة ملحمة " أحمدى خانى " " مم و زين " و أعداد مجموعة قصص شعبية كردية - بمساعدة " الملا محمود لبايزيدى " - مع ترجمتها الى اللغة الفرنسية . أضافة الى ملاجظات قيمة عن الأدب الكردى فى القرون الوسطى .
و بفضل " ژابا " اصبح اسماء العديد من الأدباء و الشعراء الكرد – الذين كانوا يكتبون باللهجة الكردية الشمالية المعروفة ب الــ( كرمانجى ) – معروفا فى روسيا و الدول الغربية.
تفرغ " ژابا " منذ العام1866 لأعداد ثلاثة قواميس " كردية – أجنبية " . حيث تم نشر القاموس " الكردى – الفرنسى " فى العام 1879 و أشرف على أعداده للنشر المستشرق الألمانى " يوستين " ، و صدر عن أكاديمية العلوم الأمبراطورية الروسية فى العاصمة سان بطرسبورغ . هذا القاموس كان الأول من نوعه و سرعان ما حاز على جأئزة أكاديمية العلوم كأفضل عمل أكاديمى فى تلك السنة .
يتضمن هذا القاموس ( 15 ) ألف كلمة كردية مع الأشارة الى أصل تلك الكلمات و شرحها و مقارنتها بما يماثلها فى اللغات الفارسية و التركية و العربية .
أما القاموسان الآخران و هما القاموس" الفرنسى – الكردى – الروسى " و " الكردى – الفرنسى – الروسى " ، فلم ينشرا حتى يومنا هذا ، و هما محفوظان فى أرشيف أكاديمية العلوم الروسية – فرع سان بطرسبورغ .
و لعل أهم نتائج النشاط العلمى لـ" ژابا " هو أثبات ، ان الشعب الكردى صاحب ادب كلاسيكى ثرى و انجب شعراء عظام و علماء بارزين . بعد ان كان الأعتقاد السائد لدى المستشرقين ، سواء الروس منهم أو الأوروبيين ، ان الأبداع الثقافى الكوردى يقتصر على ألوان التراث الشعبى المدون و غير المدون . و جاء " ژابا " ليصحح هذا الأعتقاد الخاطىء بعد بذل جهود متواصلة طوال أكثر من أربعة عقود من الزمان .
اسهمت أعمال " ژابا " العلمية فى تطور الــ(كردولوجيا ) فى روسيا و تحولها الى حقل أستشراقى معرفى مستقل ، حيث تم فى وقت لاحق ، تحقيق و ترجمة و نشر الكثير من المخطوطات الكردية الثمينة ، التى جمعها هذا الدبلوماسى و الكوردولوجى اللامع فى مجالات الأدب و التأريخ و الأثنوغرافيا .
و من النتاجات القيمة ، ضمن مجموعة " ژابا " التى تم تحقيقها و نشرها لاحقاً من قبل المستشرقين السوفييت ، ملحمة " مم و زين " لأحمدى خانى و " الشيخ صنعان " لفقى طيران و " ليلى و مجنون " لحارث البدليسى و " عادات و تقاليد الكرد" للملا محمود البايزيدى و " قواعد اللغة العربية باللغة الكردية " لعلى ترماخى . و " الأغانى الشعبية الكردية " و هى من اعداد " ژابا " نفسه و تحقيق و ترجمة المستشرقة "موسيليان " و صدر فى كتاب باللغة الروسية فى العام 1985 .
و يجرى العمل حالياً فى معهد المخطوطات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية فى مدينة سان بطرسبورغ ، فى تحقيق مخطوطات أخرى لـ" ژابا " تم العثور عليها فى السنوات القليلة الماضية و من أهمها " المحادثة الكوردية – الفرنسية " (حوار بين كورديين ) من تأليف أو تدوين " ژابا " نفسه و يعود تأريخ أعدادها الى عام 1880 . و كانت هذه المخطوطة محفوظة فى العاصمة البريطانية لندن لدى المستشرق الروسى البارز " فلاديمير مينورسكى " الذى قام بأرسالها الى معهد الأستشراق– فرع لينينغراد فى العام1952, و قد بقيت المخطوطة ضمن أرشيف " مينورسكى " فى المعهد المذكور و لم يكن أحد من المستشرقين المعاصرين يعلم بوجودها طوال قرن و نيف ، رغم أنها ذكرت فى رسائل " ژابا " الى أكاديمية العلوم بعد أستقالته و أستقراره فى مدينة ( سميرنا) و تفرغه للأعمال الكوردولوجية . و منها رسالته - المؤرخة فى 15 آذار عام - 1880 الى " فيسيلوفسكى " و التى يتحدث فيها " ژابا " عن هذه المخطوطة ، و لم يرد ذكر هذه المخطوطة الثمينة فى المصادر الكردولوجية سابقاً و منها كتاب " رودينكو " الصادر فى عام 1960 و المكرس لوصف المخطوطات الكردية المحفوظة فى خزائن لينينغراد ( سان بطرسبورغ حاليا ) و هو كتاب ثمين ويعد حتى يومنا هذا مرجعاً أساسياً فى جرد و وصف تلك المخطوطات وصفها وصفاًعلمياً دقيقاً .
و توجد مخطوطة أخرى تحمل نفس العنوان السابق و لكنها اكبر حجما و مؤلفة من (478) صفحة ، قام البايزيدى بنسخها بالأشتراك مع شاعرين كرديين .
و المخطوطة الأخيرة كسابقتها ( حوار بين كرديين ) باللهجة الكرمانجية الشمالية . و قد تم العثور عليها مؤخرا و لم يرد ذكرها أيضاً سواء فى الكوردلوجيا الروسية أو الغربية و لم تحقق او تنشر لحد الآن . و لعل من الممتع مقارنة مضامين هذه المخطوطة مع المخطوطة السابقة التى تحمل نفس العنوان .
والمخطوطتان تتضمنان معلومات ثمينة و متنوعة عن شتى جوانب الحياة الأجتماعية و الأقتصادية و الثقافية للكورد فى كوردستان الشمالية فى منتصف القرن التاسع عشر ، و هما مصدران مهمان لا غنى عنهما للدارسين و الباحثين فى طبيعة المجتمع الكوردى و لغته و ثقافته فى تلك الفترة .
433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع