أحمد فخري
الحلقة الثانية (قصة الصك المسروق)
في عام 1971 أنتقلت من مدرسة سنت بيز الداخلية على حدود اسكوتلندا الى العاصمة لندن لاكمال الدراسة بشكل دائم لانني تعرضت لكثير من الضغوط النفسية خصوصاً وانني كنت الاجنبي الوحيد بالقسم الداخلي وكان هناك الكثير من الطلاب العنصريون. سارت الامور كما ينبغي حتى عام 1973..
في عام 1973 تعرفت على شاب مصري يدعى علي والذي جاء الى لندن لغرض العمل لفترة ستة اشهر والعودة الى بلاده. عرض علي هذا الشخص ان نسكن سوية في غرفة كبيرة واحدة بدل من غرفتي الصغيرة التي كنت اسكن بها وحدي فوافقت. وكانت ايام جميلة جداً قضيناها سوية عندما كانت ظروف الدراسة تسمح بذلك. وبعد ستة شهور عندما قرب موعد مغادرة علي الى وطنه مصر بشكل نهائي كنت حزيناً ومهموماً لاني كنت على يقين باني سافقد واحداً من اعز اصدقائي الذين احببتهم ووثقت بهم. حجز علي تذكرة الطائرة كي يغادر يوم الاحد من صيف 1973. ابديت له رغبتي في ان اسطحبه الى المطار لتوديعه. وفي يوم الجمعة اي قبل موعد السفر بيومين جائني وقال لي،
- اخي احمد اريد منك خدمة صغيرة.
- بالطبع يا علي. انت تعرف اني مستعد لتقديم المساعدة باي طريقة ممكنة فانت اخي وانت تأمرني.
- انظر، لقد بعت جهاز تسجيل بمئة جنيه لاحد الاشخاص بالعمل.
- وما هي المشكلة؟
- المشكلة هي ان المشتري اعطاني صكين من صكوك المسافرين كل واحد بخمسون جنيه استرليني.
- لا ازال لا ارى اين المشكلة في ذلك.
- المشكلة هي ان صكوك المسافرين لا يستطيع المرئ سحب قيمتها مباشرة كسيولة من المصرف. بل عليه ايداعها بحساب مصرفي ثم تدخل في حسابه بعد ثلاث ايام.
- وما المشكلة اذن. لماذا لا تودعها في حسابك؟
- انسيت انني مسافر الى مصر بعد يومين والبنك سيكون مغلق يوم الاحد والاحد هو يوم سفري؟ واذا عملت ذلك فسوف يدخل المبلغ بحسابي بعد ان اغادر الى مصر.
- وما المطلوب مني إذاً؟
- المطلوب منك ان تسحب لي 100 جنيه من حسابك وتدخل الصكين على حسابك انت وبعد ثلاث ايام سيرجع لك المبلغ.
- ان ذلك امراً بسيطاً جداً. لكن هل انت متأكد ان الصكوك ستستغرق ثلاثة ايام كي تدخل حسابي لان مجمل المبلغ الذي عندي بحسابي المصرفي هو حوالي 105 باوند وهو كل ما املك، وهذا المبلغ يجب علي صرفه بحكمة للثلاث شهور القادمة.
- احمد، بامكانك ان تسأل البنك عن الفترة التي يستغرقها الصك في النزول على حسابك.
- حسناً دعنا نذهب للبنك الآن ونسألهم.
استقلينا الحافلة وتوجهنا الى المصرف الذي فيه حسابي وكان بوسط مدينة لندن بشارع اوكسفورد. توجهت نحو الشباك وسألت الموظف عن المدة فقال انها 3 ايام فعلمت ان ذلك مطمئناً لانه مطابق للكلام الذي اخبرني به علي. قلت لعلي، بان الصك سيدخل حسابي بعد ثلاث ايام، لذا لا داعي للقلق. عدت فطلبت من موظف البنك ان يسحب لي مبلغ 100 باوند من حسابي الخاص. اعطاني المبلغ واعلمني ان ما تبقى في حسابي هو 4 باوندات وثمانون بنساً. حالما استلمت المبلغ، استدرت واعطيته لعلي الذي كان واقفاً ورائي. شكرني بحرارة وقبلني فقلت له انه لا داعي لان يشكرني لاني لم اعمل ما يستحق الشكر فإن مالي سيعود لي بعد عطلة نهاية الاسبوع مباشرةً.
بعد يومين ضرب المنبه ليوقظني مبكراً. جهزت حالي واكلت كسرة خبز صغيرة وتوجهت نحو سرير علي كي اقوم بايقاظه. لم يستغرق سوى بضع دقائق في الاستعداد ثم حمل حقائبه وانطلقنا الى خارج العمارة. لثقل حقائبه اقترحت عليه ان نستقل سيارة تاكسي تقلنا الى محطة الحافلات فوافق. وبعد حوالي ربع ساعة نزلنا بمحطة الحافلات حيث استقلينا الحافلة المتجهة نحو المطار. وصلنا المطار تقريباً ساعة ونصف قبل موعد الاقلاع الا ان علي فضل ان يدخل قاعة المغادرة مبكراً لانه اخبرني بانه يريد ان يشتري بعض الهدايا لاهله فقبلته بحرارة ثم دخل الى القاعة بينما استدرت وجهي ورجعت الى بيتي وانا امسح دموعي.
بعد ثلاث ايام اي يوم الاثنين استيقظت من نومي تمام الساعة التاسعة صباحاً فقمت باعداد وجبة افطار خفيفة ثم لبست ملابسي وتوجهت الى الطابق السفلي من العمارة حيث يوضع البريد فوجدت رسالتان معنونتان لي، واحدة من البنك وواحدة من العراق. فتحت الرسالة التي من العراق اولاً وكانت رسالة من اختي الكبرى فوجدت فيها خبر مؤلم جداً هو ان الفتاة التي كنت احبها منذ طفولتي قد تم زفافها على شخص اعرفه تمام المعرفة وان عليَّ ان انساها الآن. لذا كان ذلك الخبر بمثابة صدمة شديدة احزنتني حزناً كبيراً شعرت وقتها ان الارض قد انطبقت فوق رأسي. وبعد ان اتممت قرائة تلك الرسالة المؤلمة فتحت الرسالة الثانية من البنك واذا بها تحتوي على الصكان اللذان اعطاني اياهما علي المصري وقد ختم عليها بحبر احمر كلمة REPORTED LOST OR STOLEN اي ان هذه الصكوك بلغ عنها على انها ضائعة او مسروقة من قبل صاحبها. هنا نزلت عليَّ تلك النزلة بمثابة انفجار بركاني. ففي يوم واحد اتلقى خبرين مفجعين.
ماذا ساعمل الآن؟ ان والدتي سوف لن تبعث لي بالمال الا بعد مرور 3 اشهر. وكيف لي ان اعيش بهذه الاشهر الثلاثة؟ وكيف ساستقل القطار للذهاب لمدرستي وانا لا املك مبلغ التذكرة؟ وكيف ساقنع مديرة العمارة كي تصبر على الايجار لثلاثة اشهر لما كانت فرصة عدم دفع الاجار هي ثلاثة اسابيع فقط؟ إن ذلك وحده يعني انني سالقى على قارعة الطريق. وماذا عن الدراسة؟ هل ساتمكن من ان اواصل الدراسة بالرغم من تلك الازمة؟ كل تلك التسائلات صارت تدور برأسي، تخيفني وتجعل مستقبلي غامضاً مظلماً لا اعرف كيف ساتداركه. ان والدتي كانت محقة عندما قالت باني مازلت طفلاً وقليل خبرة لكي احمل العبئ وحدي. لقد حاولتْ اقناعي بعدم الذهاب خارج العراق لكنها اخفقت امام الحاحي الشديد. فكيف ساجابهها الآن لاخبرها باني قد سُرقت؟ لا انا لم أسرق، لقد استغفلت بوضح النهار. ان علي لم يخطف المال مني وانا غافل عنه. بل انه استطاع ان يستغل سذاجتي كي يجعلني اثق به وان اسحب المبلغ بنفسي واقدمه له بكل سهولة. لقد ذبَحتُ نفسي بنفسي من الوريد الى الوريد، اذاً علي ان اتحمل التبعات. وكيف اتحملها وانا من دون حيلة؟ انا لا استطيع فعل شيء. فاهلي لم يفسحوا لي المجال ان اتعلم حرفة ما استطيع الاتكال عليها بوقت الشدة. فماذا اعمل؟ وامتحانات آخر العام على الابواب اي لم يبقى عليها سوى ثلاثة اشهر، هي نفس الاشهر الثلاثة التي انتظرها كي يحين موعد الحوالة القادمة التي ستبعثها لي والدتي. بينما كانت تدور تلك الافكار برأسي، دخل علي حسن وهو احد المصريين الساكنين عندنا بالعمارة فسألني،
حسن: لماذا تبدو حزيناً؟
- لقد طعنني علي طعنة مميتة. انظر الى هذه الرسالة، انها من البنك.
حسن: لا افهم هذا. هذه صكوك مسافرين. فلماذا ارسلها لك البنك؟
- ارأيت ما كتب عليها؟ لقد كُتبَ عليها (بُلّغَ عنها انها ضائعة او مسروقة). وهذا يعني ان علي قد اعطاني صكوكاً مسروقة واخذ بدلاً منها مبلغ 100 باوند استرليني وهي كل ما املك من مصروفي لغاية شهر حزيران يونيو القادم. اي اني ساجوع وسأخسر العام الدراسي.
حسن: لا تقلق يا احمد، ان علي (ابن ناس) هو من عائلة طيبة وابوه انسان شريف ومعروف جداً في مصر.
- اذا كان بهذه الطيبة فلماذا سرقني ذلك الوغد الحقير.
حسن: لا تقل ذلك يا احمد. فعلي انسان طيب. لا بد ان هناك خطأ ما.
- انت تعلم جيداً ان علي قد سرق تلك الصكوك.
حسن: حسناً دعنا نسأل مصطفى. فمصطفى كان يعمل مع علي بنفس الفندق.
ذهبنا الى غرفة مصطفى بالطابق السفلي وسألناه عن تلك المصيبة فقال.
مصطفى: اجل، اجل انا اذكر ان زبوناً يابانياً بالفندق ابلغ الادارة عن صكوكاً قد سرقت من غرفته. فقامت الشرطة باستجوابنا جميعاً. الا انهم لم يعثروا على السارق.
- ارأيت يا حسن؟ لقد كان شكي بمحله.
مصطفى: ان ذلك شيء مخزي حقاً. لم اتخيل ان علي سيعمل شيء مشيناً مثل هذا.
حسن: اطمئن يا احمد. لدي عنوان علي في مصر. بامكانك ان تكتب له رسالة كي يعيد لك المبلغ.
- حسناً ساقوم بكتابة رسالة حالاً وسأرسلها اليوم.
اخذت العنوان وصعدت الى غرفتي بالطابق الاول وبدأت بكتابة الرسالة بدأتها كالتالي:
علي ايها الوغد الحقير، انك سارق ومخادع واريد ان اضع يدي على عنقك .....
وهنا علمت انني اذا ما اتبعت ذلك الاسلوب معه قد لا يرجع لي مالي ابداً لذا قررت تقطيع الرسالة والبدء من جديد فكتبت:
عزيزي عليوة
ارجو ان تكون قد وصلت الى مصر بالصحة والسلامة وان تكون قد التقيت باهلك جميعاً. لكني ارجو منك ان لا تنسى اهلك بلندن فنحن ايضاً نحبك.
عزيزي علي/ هل تذكر الصكين الذين اعطيتهما لي قبل مغادرتك؟ فهاذان الصكان قد عادا الي من البنك وكتب عليهما انهما كانا مسروقين. وانا الآن بازمة مادية كبيرة. لذا ارجو منك ان ترسل لي مبلغ 100 باوند من مصر باسرع وقت ممكن.
اخوك احمد
قمت بارسال الرسالة بنفس اليوم علني اكسب الوقت واستلم نقودي على جناح السرعة.
انتظرت مدة 14 يوماً دون ان يأتني رد منه. لذا سألت المصريين معي فاخبروني ان بامكاني الكتابة لوالد علي لانه انسان شريف وجيد وطيب وووو. فقمت بكتابة رسالة طويلة شرحت بها مشكلتي لابو علي وارسلتها له على جناح السرعة. وبعد حوالي اسبوعين تسلمت منه رسالة تخبرني بانه حقق بالامر مع ابنه علي وانه اكتشف باني انسان نصاب واني كنت اغار من علي لانه كان (كَسّيب) وانني كنت قد سبق لي ان سرقته في لندن الا انه عفى عني.
يا للهول، لقد وقف السيد الشريف الى جانب ولده ولم يصدق كلامي. وما عن علي؟ لقد كان علي انساناً رائعاً طوال الاشهر الست التي عشناها معاً. فكيف يقول ذلك عني؟ إذاً، كان كل ذلك تمثيل واحتيال. فقد كان يخطط لتلك الخطة الجهنمية بالتأكيد منذ امد طويل.
بعد ان تباحثت بتلك المشكلة مع الشلة المصرية علمت انني يجب ان افوض امري لله رب العالمين. هو وحده يستطيع ان يأخذ لي حقي من ذلك الوغد الحقير. لكني وعدت نفسي امام الله اني لو حصل ان التقيت به بالمستقبل فاني ساقتله لا محال. اما بالوقت الحالي فليس لي الحيلة سوى اتباع اساليب الصراع من اجل البقاء. هنا بدأت افكر بحلول بديلة. بالمرحلة الاولى يجب عليَّ ان احل مسألة الطعام. يجب ان اجد عملاً يمكنني من شراء الطعام لان مخزوني بدأ ينفذ وليس لدي احد استطيع الاتكال عليه سوى الله. فسألت مصطفى عن امكانية عمل لي فقال ان هناك فندق بمحاذات الفندق الذي يعمل به يدعى امباسادور هم بحاجة لشخص يعمل بالبار. وبالرغم من انني كنت افتقر لخبرة عمل البارات فقد قررت الذهاب هناك والمحاولة علني استطيع كسب قوتي.
باليوم التالي ذهبت الى ذلك الفندق والتقيت مدير الفندق (مصري ايضاً) وطلبت منه العمل هناك فوافق على ان امر بفترة ثلاث ايام تجريبية مجانية وبعدها ابدأ العمل بشكل دائم. سألته عن موعد ابتداء العمل فقال:
المدير: تبدأ من الليلة في تمام الساعة السادسة مساءاً وتنتهي العمل تقريباً الساعة الثانية من صباح اليوم التالي.
عملت في هذه الوظيفة لمدة يوم واحد فقط لكنهم طردوني لقلة خبرتي. فقد كنت اجهل اسماء الكوكتيلات المتبعة.
بعدها بيوم وجدت عمل آخر وهو بياع في مطعم خارجي اي ان الزبائن لا يجلسون بالداخل بل يأخذون الطعام معهم (ديليفيري).
لم ابقى بتلك الوظيفة سوى يوم واحد كذلك وطردت منه لاني كنت بطيئاً جداً وقد شكى مني الكثير من الزبائن من كثرة الانتضار.
بقيت اتنقل بالاعمال البسيطة من مكان الى آخر لكني لم اكن اصمد كثيراً باي واحد منها.
اذكر ان في يوم من الأيام جاء لزيارتي صديقي كاكا طارق. كنت وقتها لم اذق الطعام نهائياً منذ 48 ساعة. دخل طارق غرفتي حاملاً بيده سندويتش من الكباب. سألني هل تريد ان تشاطرني هذه الشطيرة فقلت له كلاً شكراً، انا شبعان والحمد لله. بقيت انظر اليه وهو يلتهم تلك الشطيرة وانا اتضور جوعاً. وعندما شبع منها قام برمي ما تبقى من الشطيرة في صفيحة القمامة. بقي معي حوالي ساعة ثم غادر المكان وقال بانه يريد ان ينام مبكراً لان لديه عمل بالغد. حالما خرج صديقي عائداً الى بيته توجهت الى القمامة مسرعاً واخرجت الشطيرة واكلت ما تبقى منها.
بقيت حالتي هذه لفترة ثلاث اسابيع عندما نادتي مديرة العمارة واخبرتني بان مهلة الثلاث اسابيع لعدم دفع الايجار قد انقضت وعلي اما الدفع او المغادرة. هنا بدأت ابكي واخبرها بما حصل لي من عملية نصب واحتيال من البداية الى النهاية، فتأثرت كثيراً وقالت لا تقلق يا بني. انا اعلم انك انسان جيد لذلك سانتضرك لفترة مفتوحة. بامكانك ان تعطيني المبلغ متى ما شئت. شكرتها كثيراً ورجعت الى غرفتي.
بيوم من تلك الايام العصيبة دخل علي جاري الامريكي يدعى (ارت) واقترح علي الذهاب معه الى المرقص. اخبرته باني لا املك نقوداً فقال بانه يريد ان يدعوني الى المرقص وانه يتكفل بكل شئ، فوافقت وخرجنا سوية. بالطريق سألته عن المرقص الذي سنتجه اليه، قال انه يدعى The oak room اي غرفة الارز. وقال ان ذلك المرقص لا يرتاده سوى الجنود التابعين للبحرية الامريكية. وصلنا باب المرقص فاوقفنا موظف الاستعلامات وسألنا عن هوياتنا. فقال له صاحبي باننا من البحرية الامريكية فسمح لنا بالدخول. كان المرقص صغيراً جداً بالمقارنة مع المراقص التي اعتدت مشاهدتها بلندن. ولكن الذي لاحظته هو ان المكان كان يفتقر الى الشخص المسؤول عن اختيار الموسقى. ولذلك كانت بعض النساء من الوات يجلسن بالمرقص يدخلن الى الكبينة الموسيقى ويخترن الاغاني بانفسهن. واحياناً كانوا ينسين اختيار الاغنية الموالية فيبقى المرقص صامتاً بدون موسيقى. سألت صديقي الامريكي ارت فيما اذا كان بالامكان ان اذهب انا الى الكبينة واختار الاغاني فقال: بالتأكيد، يمكنك ان تغير الاسطوانة طوال الليل ان شئت. فدخلت الكبينة وقضيت الليلة كلها وانا اختار الاغاني الواحدة تلو الاخرى وكان الجميع سعيدين بوجودي في الكابينة لان الموسيقى صارت متواصلة ولأني كنت الاحظ الاجواء العامة واقوم باختيار الموسيقة الملائمة لتلك الاجواء. وبعد قليل وقف بجانبي احد الاشخاص وقدم نفسه على انه مدير المرقص وقال.
بوب: انا بوب مدير هذا المرقص.
- وانا جون امريكي واعمل بالبحرية.
بوب: انك تدير كابينة الاغاني بشكل محترف وممتاز. هل سبق لك العمل ك DJ؟
- كلا، لم يسبق لي ذلك.
بوب: وهل ترغب في ان تعمل ذلك كل ليلة؟
- وهل هذا سيكون بمقابل؟
بوب: هذا شيء طبيعي، سنعطيك 3 جنيهات استرلينية بالليلة الواحدة. ما رأيك؟
- ومتى ابدأ؟
بوب: انت بدأت من الليلة.
- شكراً لك، سوف لن يخيب ظنك بي ابداً.
كان ذلك بالنسبة لي بمثابة رحمة من السماء انهمرت، لانني كنت لا املك عملاً واني بامس الحاجة للمال الذي ساتقاضاه من ذلك المرقص. وبذلك اصبحت ال DJ الاول في عائلتنا. (نيالي)
استمريت بهذا العمل فترة بضعة اسابيع حتى تشاجرت مع احد الزبائن الامريكان وقمت بضربه فطردت من تلك الوظيفة.
استمرت حالتي بالسوء لمدة ثلاثة اشهر اخرى، وكلما قربت الفترة من الانتهاء كلما كنت اتفائل لان موعد الحوالة التي ستبعثها لي والدتي صار يدنو شيئاً فشيئاً. وفي احدى الايام استلمت رسالة من والدتي تقول فيها ان الشخص الذي كانت والدتي تبعث معه الحوالات المصرفية (ويدعى ابو ياسين) قد توقف عن العمل وذلك لانه باع شاحنته التي كان يتاجر بها من بغداد الى دمشق فبيروت. وبما ان التحويل من العراق بشكل رسمي كان غير ممكناً لانني كنت دون سن القانوني. فقد كانت امي تعطي المبلغ الى هذا الشخص في بغداد، فيقوم هو بدوره بتحويل المبلغ من بيروت. لكن هذا السبيل قد انقطع الآن، لذا طلبت مني امي ان انتظر قليلا وان اقتصد ببقية المال الذي كان لدي حتى تجد هي طريقة اخرى لارسال الحوالات. اي مال هذا تتكلم عنه والدتي؟ ليتها تعلم بحالي، فانا فقير معدم.
كان ذلك الخبر بمثابة احباط جديد نزل على رأسي لاني طالما انتظرت تلك الحوالة بفارغ الصبر بعد ضياع وجوع وانقطاع عن المدرسة. وها هي الامتحانات على الابواب وانا لم ارى رحلة المدرسة منذ ثلاث شهور.
جاء موعد الامتحان وانا جالس بغرفتي حزين لا ادري ماذا اعمل وفجأة دق بابي احد الساكنين بالعمارة واخبرني ان لدي مكالمة هاتفية بآخر الممر على الهاتف العمومي. جريت نحو الهاتف فسمعت صوتاً يقول لي.
فؤاد ترزي: الو احمد؟
- نعم انا احمد من تكون حضرتك؟
فؤاد ترزي: انا فؤاد ترزي اتذكرني يا عمو؟
- اجل اذكرك، طبعاً اذكرك يا عمي. كيف حالك ومتى وصلت الى لندن؟
(فؤاد ترزي هو احد الاصدقاء المقربين للمرحوم والدي، فلسطيني ويسكن بالعراق)
فؤاد ترزي: وصلت البارحة مساءاً وسأتوجه الى نيو يورك غداً. اريد ان اراك اليوم.
- اكيد يا عمي. اين انت الآن؟
فؤاد ترزي: انا في فندق تشرشل. هل تعرفه؟
- اعرفه طبعاً.
فؤاد ترزي: كم يستغرقك الوقت كي تأتي الى عندي؟
فكرت قليلاً فعلمت اني لا املك اجرة الحافلة كي اذهب الى ذلك الفندق. واذا ما مشيت على قدمي فسيستغرق الوقت حوالي ساعة فقلت له.
- ساكون عندك خلال حوالي الساعة.
فؤاد ترزي: الا تستطيع ان تأتيني اسرع من ذلك؟ فانا جوعان واود ان اتغدى معك.
- كلا عمي لا اقدر.
فؤاد ترزي: اذاً سانتظرك هنا وامري الى الله.
وضعت السماعة وجريت الى غرفتي واستبدلت ثيابي وانطلقت الى الشارع وصرت اسير باقصى سرعتي. فتارةً كنت اركض وتارةً اخرى اسير. لا اعلم كيف تحملت المسافة لكني وصلت بعد حوالي ساعة وربع. وعندما طلعت الى غرفته وطرقت الباب فتح لي الباب وهو من اقرب الاصدقاء لوالدي. اخذني بالاحضان وقال: حماتك تحبك. لقد طلبت الطعام هنا بالغرفة لاني لم اعد اتحمل الجوع. جلست الى جانبه وصرت اكل معه محاولاً جهد الامكان ان اسيطر على سرعتي في تناول الطعام. لكن ذلك كان مستحيلاً. لاحظ ذلك فؤاد ترزي فقال لي.
فؤاد ترزي: الم تفطر اليوم ام ماذا؟
ترددت قليلاً وصرت اسأل نفسي هل اقول له الحقيقة ام ابقيها لنفسي؟ نظرت الى عينيه فانهالت الدموع من عيني وبدأت احكي له حكايتي من سرقة ال 100 باوند الى ركضي في الشوارع كي اصل الى فندقه. نظر الي نظرته المعتادة وتبسم ابتسامة جميلة وقال،
فؤاد ترزي: كم يلزمك؟ قلت له،
- 5 باوندات بل 10 او 20 ان امكن
فؤاد ترزي: انا لا اقول كم يلزمك اليوم. كم يلزمك كي تسد ديونك وتواصل حياتك الطبيعية؟
- مئة باوند او اكثر بقليل
فؤاد ترزي: اتكفيك 200 ام تريد 300؟
- عمي ان ذلك كثير.
فؤاد ترزي: اسمع انا سأخذ المبلغ من والدتك عندما اعود لبغداد. لذا اخبرني ماذا تريد؟
- حسناً اعطني 400 باوند.
اخرج فؤاد ترزي محفظته وصار يعد النقود وقال هذه 500 باوند. 400 من والدتك و100 هدية من عندي.
استلمت المبلغ وانا اكاد اطير من شدة الفرح ولا اصدق ما يجري لي. فقبل دقائق لم اكن احضي بمبلغ 10 بنس وهو عُشر الباوند كي اركب الحافلة والآن املك 500 باوند. شكراً لك يا ربي فقد رزقتني حقاً من حيث لا اعلم.
شكرت العم فؤاد ترزي كثيراً وتمنيت له رحلة موفقة الى امريكا ثم رجعت الى الدار بالحافلة والفرحة تغمرني. جلست بغرفتي لوهلة اراجع ما دار بذلك اليوم اذ بالنسبة لحالتي تلك، كانت ضرباً من الخيال. هنا سألت نفسي: هل استطيع تأدية الامتحان؟ نظرت الى رزنامتي فوجدت ان الامتحان سيبدأ بعد يومين. ومهما درست فان دراستي سوف لن تجدي بشيء لان الوقت قد فات لذا قررت ان افوض امري لله وان انسى الامتحان بهذه السنة. وهكذا ضاعت مني سنة دراسية. لكني استشفيت منها دروس وعبر، عرفت ان ليس هناك شخص غريب استطيع ان اثق به مهما كان قريب من قلبي. وعلمت ان ليس من الشجاعة ان اعطي المال لاحد وينتي بي الامر ان افقد سنة دراسية كاملة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
http://algardenia.com/maqalat/27755-2017-01-03-21-30-20.html
1788 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع