لا نريد دولة القانون.. بل نريد دولة العدالة
2 - 2
أ.د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
خبير بالشؤون القانونية والأمنية
بعد عشرة أعوام من غزو العراق، وإقامة نظام حكم جديد، وإجراء انتخابات نيابية، بإمكاننا أن نتأمل واقع الحال في العراق الذي يسمونه العراق الجديد، وشكل الدولة ونظام الحكم الذي أفرزته السنوات العشر، ومازال الأمل المرتجى بالعدالة غائباً، وما زال هناك ظلم وقهر وانتهاك لمبادئ العدالة، بل إنتهاك حتى للدستور الذي كتبوه بين ليلة وضحاها.
ولسنا في حاجة إلى إثبات كل حقائق الظلم والقهر، من انتهاك أبسط حقوق الإنسان، ومن إعتقال تعسفي، ومن إعدامات جزافية مبنية على أحكام مستندة لإعترافات انتزعت بالتعذيب والقهر.. ومن إساءة أحوال السجناء والمحتجزين، وقرارات قضائية مصبوغة بصبغة سياسية انتقامية، وغير ذلك مما إعترفت به أركان السلطة قبل أن تطلق منظمات حقوقية دولية واقليمية ومحلية أصواتها استنكارا. فبالأمس طلع علينا الناطق الرسمي باسم وزارة حقوق الانسان العراقية ليعلن في مؤتمر صحفي أن وزارة حقوق الإنسان تسلمت خلال العام المنصرم ما يقارب 500 ألف شكوى عن تعذيب في سجون ومواقف حكومية خلال العام 2012 فقط، وأن هذه الشكاوى قدمت من قبل الموقوفين بشكل مباشر أو من خلال ذويهم أومحاميهم أو قدمت من بعض المنظمات المجتمعية الخاصة بحقوق الإنسان.
جور القوانين في دولة القانون؟
هناك من يرى أن دولة القانون هي ملاذ الخائفين، والمنقذ من الدكتاتورية والتعسف والظلم، وأنها القادرة على تحقيق العدالة، وهناك من يرى الضد في أن القوانين ما هي إلا إرادة السلطة الحاكمة لحماية ظلمها وقهرها واستبدادها، ولنا في احتجاج ملايين المحتجين في عدد من محافظات العراق من (جور القوانين) و (تعسف تطبيق القوانين) في ظل دولة تدعي أنها دولة القانون. فالقانون هو ركيزة للظالم وحجة يرميها على خصومه ليثبت لهم أنه دولة قانون لا دولة فوضى.. ولكن القانون اذا انيط تنفيذه بسلطة غاشمة انقلب الى الضد، فبدلا من أن يشيع العدل والطمأنينة سوف يشيع الخراب والفوضى، لذلك تحتج الملايين على غياب العدالة في حكم القانون أو ما تسمى بدولة القانون.
الصلة بين الاستبداد والفقر
كثير إن لم نقل جميع الأنظمة الاستبدادية الدكتاتورية الشمولية في العالم تدعي أنها دولة قانون ودولة مؤسسات، رغم أنها تنتج الفقر والقهر والتعسف والاستبداد. فتراها تحد من حريات الأفراد الأساسية التي كفلتها لهم شرائع السماء وشرائع الأرض، بذريعة حفظ الأمن والنظام. ومن يصنع الفقر غير الاستبداد؟، حين يتحول الاقتصاد الذي يقضي على الفقر إلى وسيلة في يد الديكتاتور، يراكم بها الثروات ويغدق بها الأموال على المقربين والخدام والمتزلفين والمشاركين المشركين. والدولة التي يحكمها فرد أو حزب ليس دولة قانون، إنما هي دولة إكراه واستبداد وطغيان. الفرق في درجات الاستبداد لا يجعل من نسخة من الاستبداد معادلا للحرية. ليس بإمكاننا أن نساوي بين حاكم يجعل من تطبيق القانون وظيفته الوحيدة وحاكم يوهم الأفراد أنه سيعمل من أجل فك مشكلاتهم المادية بطريقة أخرى غير إرساء أسس دولة حكم القانون. ليست للحرية من دولة غير الدولة التي تحفظ تطبيق القانون. (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
تاريخ مصطلح دولة القانون:
ومن المعروف تاريخياً أن مصطلح "دولة القانون" ظهر في نهايات القرن التاسع عشر في ألمانيا في زمن تكوين الوحدة (القومية) الألمانية (عهد بسمارك). لذلك كان الهدف منها يتجه أساساً لتدعيم مركزية الدولة، إضافةً لعقلنتها وحسن سيرها. ولم يكتسب مفهوم دولة القانون بعده الليبرالي إلا فيما بعد. وقد أخذ الفقهاء يميزون بين مصطلحين متناقضين للتعبير عن مضمون دولة القانون. هذان المصطلحان هما: "دولة البوليس" (دولة الضبط الإداري تحديداً) و"دولة القانون" (دولة التشريع). فالدولة البوليسية "دولة البوليس" هي التي تمتلك سلطة (إدارة) غير مفيدة لمواجهة الأوضاع المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية... وبالتالي تتخذ القرارات والأوامر والتدابير (التقديرية) اللازمة كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك مما يعني بأنها تشكل تهديداً للحقوق والحريات العامة، باعتبارها غلبت ضرورات السلطة على ضمانات الحريات والحقوق العامة (كما أشرنا سابقاً). أما دولة القانون فهي التي تقيد نفسها بنظام قانوني (تشريعي بالمفهوم العام). والسلطة القضائية تعتبر الوسيلة الأمثل لصيانة وحماية الحقوق والحريات. ووجود قضاء مستقل شرط أول لوجود باقي مقومات الدول’ والرقابة القضائية لا قيمة لها إلاّ إذا كان القضاء مستقلاً. والسلطة القضائية تعتبر الوسيلة الأمثل لصيانة وحماية الحقوق والحريات. ووجود قضاء مستقل شرط أول لوجود باقي مقومات الدول’ والرقابة القضائية لا قيمة لها إلاّ إذا كان القضاء مستقلاً.
دولة القانون عند أفلاطون
"القانون فوق أثينا" .. هكذا يقول أفلاطون حيث يشكل تعبير "دولة القانون" مصطلحاً سياسياً وقانونياً. فدولة القانون مصطلح سياسي بل "شعار سياسي" يعبر في الأساس عن طموح جمعي أو مجتمعي (المحكومين) لمواجهة السلطة (الحكم). بيد أن مصطلح دولة القانون كشعار سياسي أصبح يستخدم من قبل السلطة (الحكم) لإضفاء صفة الشرعية التي يمثلها في مواجهة المحكومين. أي أن مفهوم دولة القانون كمصطلح سياسي يستخدم من قبل فريقين متنازعين على السلطة بشكل أزلي هما الحكام والمحكومين. ودولة القانون كمصطلح قانوني يشكل نظرية دستورية محورها تبين الانتقال أو التحول في الحكم من المشخص إلى المجرد. أي بمعنى أوضح انتقال الحكم من مفهوم ذاتي أو شخصي متصل بالحاكم (الملك، الأمير..) إلى مفهوم مجرد أساسه القاعدة القانونية والمؤسسة.
دولة القانون مجرد شعار سياسي
دولة القانون مجرد شعار سياسي ونظرية دستورية هدفها تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين. وهذا التنظيم يتم من خلال إيجاد علاقة متوازنة بين طرفي العلاقة. فالحاكم كأحد طرفي العلاقة وممارس للسلطة يرغب بتغليب ضرورات ممارسة السلطة. والمحكومون باعتبارهم الطرف الآخر لهذه العلاقة يرغبون بتغليب ضمانات الحقوق والحريات العامة. ولكن ضرورات ممارسة السلطة تتجلى من خلال التقييد الوارد سياسياً وقانونياً على الحقوق والحريات العامة، في حين أن ضمانات الحقوق والحريات العامة تتجلى من خلال التقييد القانوني والسياسي للسلطة. لذلك فإن دولة القانون ينبغي أن تقيم التوازن بين ضرورات استقرار السلطة وبين ضمانات الحريات والحقوق العامة. فتغليب ضروريات السلطة يقود إلى إستبداد السلطة، وبالعكس فإن تغليب الحريات الفردية على ضرورات السلطة يقود الى الفوضى. فكيف يتم التوازن بين دولة القانون ودولة الحق والعدل؟
الطاعة للقانون وليس للحاكم:
في العقد الاجتماعي بين السلطة والافراد، رضي الافراد بالتخلي عن ((جزء)) من حقوقهم وحرياتهم، لصالح كيان جمعي هو الدولة متجسداً بالسلطة، بهدف تحقيق ضمان أفضل لتلك الحقوق والحريات. وإن الأصل هو إطلاق الحقوق والحريات العامة وإن الإستثناء هو التقييد. كما لابد من إدراك أن نوعية الحكم في دولة القانون أصبحت تتجلى في التقيد بالأحكام القانونية والخضوع للمؤسسات بدلاً من الطاعة للحكام. فالطاعة للقانون وليس للحكام هو هدف دولة القانون، أي الانتقال من المشخص إلى المجرد، من الفيزيائي إلى الاعتباري.
مفهوم الحكم الرشيد:
لقد انتج الفكر القانوني والدستوري، مفهوماً لدولة القانون العادلة، هو مفهوم "الحكم الرشيد"، أو "الحكم السديد"، بل إنه يمكن القول إن مفهوم دولة القانون أصبح من المسلمات، وغير كاف بحد ذاته لتقديم حكم نوعي، فنوعية الحكم المطلوبة حالياً مختلفة وتتطلب إضافة لدولة القانون حكم جيد له أبعاد تنموية.
والحكم الرشيد هو مصطلح غير محدد مستخدم في أدبيات التنمية لوصف كيفية تصرف المؤسسات العامة والشؤون العامة في إدارة الموارد العامة من أجل ضمان إعمال حقوق الإنسان. وهو يوصف الحكم "في عملية صنع القرار وعملية اتخاذ القرارات التي وتنفذ (أو التي لم تنفذ) " الحكم المدى يمكن أن تنطبق على الشركات الدولية والوطنية، والحكم المحلي أو للتفاعلات بين القطاعات الأخرى من المجتمع. مفهوم "الحكم الرشيد" كثيرا ما تبرز كنموذج للمقارنة بين الاقتصادات غير فعالة أو الهيئات السياسية التي تمر اقتصاداتها قابلة للحياة والهيئات السياسية ونظرا لأن معظم الحكومات الناجحة في العالم المعاصر تكون في الدول الديمقراطية الليبرالية تتركز في أوروبا والأمريكتين، تلك البلدان المؤسسات التي غالبا ما تكون المعايير التي يمكن من خلالها المقارنة بين الدول الأخرى المؤسسات. لأنه يمكن أن تركز جيدا على المدى الحكم بأي شكل واحد من الحكم، ومنظمات الإغاثة والسلطات في البلدان المتقدمة وغالبا ما تركز معنى الحكم الجيد لمجموعة من المتطلبات التي تتوافق مع أجندة المنظمات، مما يجعل "الحكم الرشيد" تعني أشياء كثيرة مختلفة في سياقات مختلفة.
ولقد بات موضوع الحكم الرشيد يمثل أهمية كبيرة على المستوى العالمي. حيث يمثل اليوم جزءا من توافق الآراء في الأمم المتحدة، وينص إعلان الأمم المتحدة بشان الألفية على أن الحكومات لن تدخر جهدا في تعزيز الديمقراطية، وتعميم سيادة القانون، فضلا عن احترام جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها دوليا بما في ذلك الحق في التنمية، ويرتبط نجاح أو فشل جهود أي دولة في تعزيز التنمية الإنسانية أو حتى احتمال توجهها نحو هذا النهج ارتباطا وثيقا بطبيعة وجودة الحكم. ويشكل إقامة بيئة سليمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة أمرا لا يمكن فصله عن نوعية الحكم التي تؤثر أيضا في النشاط الاقتصادي. والأدوات التي يمكن أن تستخدمها الدولة في الوقت الحاضر لتعزيز قدرتها قد تكون مختلفة عنها فيما مضى. وهي تشمل، حكم القانون، والشفافية ، والإجراءات غير التعسفية واستقلال القضاء، والانفتاح، وبناء المؤسسات وهذه العوامل هي صلب عملية الحكم، ولها تأثير كبير على درجة الثقة التي تولدها الاقتصاديات الوطنية.
العلاقة بين القانون والحق :
لا يوجد خلاف بين الحق والقانون وكل منهما ينشأ عن الآخر، فالقانون صيغ لإظهار الحقوق وتثبيتها لأصحابها ، وهو يمنع الشخص من التعدي على حقوق غيره. كما أن الحق هو ثمرة وجود القانون وتطبيقه بشكل عادل وسليم. فهناك بينهما علاقة إنسجام، وعلى القاضي أن يرى بحسه السليم وفطنته الذكية نداء الحق ، فالحق لا يتمثل في القواعد القانونية ، وإنما بما تقرره هذه القواعد وتجعل من هذه الحق قوة يمكن الوصول إليها ، ويوجد بين القانون والحق علاقة ترابط وإتصال تجعل الحق قوة عندما يقر ذلك القانون. فهو يهدف إلى تحديد الحقوق وبيان مداها وكيفية إكتسابها وإنقضائها. إن الحق هو ثمرة القانون والعدالة هي الهدف الأسمى لدولة القانون. أما إذا كان القانون عبارة عن أداة لتكريس هيمنة اهل السلطة وفرض القهر على الناس، تغيب العدالة ويشعر الناس بالحنين إلى الدكتاتورية التي توفر لهم الأمن والانتظام.
لا يمكن لدولة القانون ان تستمر في ظل انتشار الفساد، فالدول تنتهي بإنتشار الفساد بين صفوف شعبها، ورغم أن نهوض الدولة مقرون بمحاربة الفساد ونشر الوعي بين صفوف المجتمع ، لكن مع الأسف ينتشر الفساد في معظم مؤسسات الدولة مما يعيق عجلة التقدم والتطور والتحديث ، ويمنع النهوض.
هل يوجد خلاف بين دولة العدالة ودولة القانون؟
معلوم أن الإنسان كائن إجتماعي لا يمكن أن يعيش منعزلا ، بل خلق ليعيش في المجتمع ، وبما أن المجتمع مجموعة من الناس فلا بد من ضوابط ونظم تنظم شؤون هؤلاء الناس وعلاقاتهم مع بعضهم لذا وجد القانون الذي يعتبر ضرورة تفرضها الحياة ولهذا قيل: "يوجد القانون حيث يوجد المجتمع " ويقول مونتسيكيو: ((إذا كانت السلطة التشريعية والقضائية بيد واحدة إنعدمت الحرية)) .. ولذلك يعتبر طغيان السلطة التنفيذية على السلطة القضائية من المخاطر الكبيرة على المؤسسة العدلية ، لذلك فإن العدالة هي الموئل الذي نتمسك به، وهي المحطة التي تنقلنا الى طريق الإصلاح، وبالتطبيق السليم والمتجرد والعادل للقانون تنحني العدالة لتلثم جبين القانون وتشد على يده ليكون الملاذ لكل الضعفاء والمظلومين ، بل لكل المواطنين الذين ينشدون العدل والإنصاف وحكم الحق.
1139 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع