الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
(اتفقوا على التمرد) وقتلوا الملك سنحاريب (704-681) ق.م
صورة خيالية مستوحاة من التوراة، بينما كان سنحاريب يصلي في المعبد تسلل اثنان من أولاده وقتلوه
قتل سنحاريب (سين-أخي-اريبا) (Sîn-aḫḫī-erība) في 20 تيبتو (Tebet) كانون الثاني عام (681) ق.م، ومن الطبيعي أدى مقتل الملك إلى ردود فعل مختلفة، فقد فرح بالحدث سكان بابل (لان سنحاريب دمر بابل على إثر تمردها ضده واحرقها وهجر سكانها عام 689 ق.م)، وكذلك ابتهج سكان مملكة يهوذا في فلسطين (لان سرجون والد سنحاريب اسقط مملكة السامرة في شمال فلسطين بسبب تمردها ضد السيادة الاشورية، وهجر سكانها عام 722 ق.م)، وكلا الفريقين اعتبرا مقتل الملك الاشوري عقاب من الآلهة للطاغية المكروه حسب اعتقادهم، ولا عجبا ان يذكر خبر جريمة القتل في المصادر المعاصرة واللاحقة، سواء كانت مسمارية أو غير مسمارية، وكان هذا الحدث موضوعا كبيرا ناقشه الباحثين لمعرفة دوافع الجريمة ومعرفة: هوية القاتل
تتفق مصادرنا على أن القاتل هو أحد أبناء الملك سنحاريب مع العلم لم يذكر اسمه في أي نص مسماري، ما عدا أسماء القتلة التي قدمتها التوراة وهما (أدرملك (معنى اسمه ملك مقتدر)، وشرآصر Shar-ezer)، وأيضا المؤرخ البابلي بيروسوس Berossus)) (عاش في القرن الثالث ق.م في عهد الدولة السلوقية، وكتب تاريخ بابل لم يصلنا منه غير شذرات اقتبسها منه المؤرخين اليونانيين)، هذه الاسماء على ما يبدو غير مقبولة باللغة الاشورية، فاسم عراد- نينليل أو أراد- نينليل (Arad-Ninlil) هو ابن سنحاريب، ولدينا وثيقة قانونية تذكر اسمه، ومن ثم فهو القاتل (أو على الأقل العقل المدبر للجريمة) وهو وريث سنحاريب وخليفته على العرش الاشوري، أما اسرحدون (سين-اخُ-يدينا)(Aššur-ahhe-iddina) (680-669) ق. م فقد كان مهندس عملية التخلص من القتلة حتى يتجنب عزله وتنصيب أحد إخوته على العرش، هذه الفكرة تحتاج إلى وجود أدلة واضحة وقاطعة.
من المهم أن نعرف هوية القاتل بدرجة معقولة وقريبة من اليقين، ففي عمليات التنقيب التي جرت في بابل عثر على رسالة تعود إلى العهد البابلي الحديث (625-539) ق.م، وهي ضمن الرسائل الاشورية-البابلية وتحمل رقم ( (ABL 1091 محفوظ في شيكاغو منذ عام (1911)، ونشرت منذ عقود مضت، وتنص بوضوح على اسم القاتل بأنه ابن سنحاريب، و أيضا الاسم قريب الشبه مما ذكرته التوراة، أو حتى ما ذكره المؤرخ البابلي بيروسوس، ونص الرسالة ترجم من قبل الباحث (Harper)، وهي ترجمة ضعيفة وغير مفهومة بشكل صحيح، وعلق الباحث (Waterman) بان الاسم سيظل مجهولاً لأن طريقة نطقه وكتابة مقاطع الاسم فيها تضليل، ومن ثم كان لابد من ترجمة الرسالة مره اخرى من قبل الباحث الفلندي (Simo Parpola) وهو عالم الاشوريات وناشر لأرشيفات الدولة الاشورية واختصارها (SAA) وبعدة أجزاء.
(اتفاق بالتمرد)
بداية الرسالة (ABL 1091) مفقودة، اما الأسطر الثلاثة الأولى فهي موجودة لكن مجزأة، ويفهم منها وجود عبارة لكاتب الرسالة إلى بعض (الأخوة البابليين)، ومن السطر الرابع يصبح النص بحالة جيدة، ويشير إلى أشخاص بينهم (اتفاق بالتمرد)، وبعد ذلك قدم رجل منهم طلب لمقابلة الملك، مستخدما تعبير (كلمة الفصل تعود للملك)، وذكر الرجل المعني بأن الملك هو القاضي الأعلى، وبالتالي يطلب مقابلة الملك مباشرة في القصر، ويستمر النص بذكر اثنان من المسئولين الآشوريين اللذان لديهم شكوك تحوم حول الرجل، وبعد أن وجد من يهتم بطلبه لمقابلة الملك، غطوا وجهه وأخذوه بعيدا، ربما هذا الشخص لم يكن شخصية رفيعة المستوى، لأن الناس العاديين لا يسمح لهم بالنظر إلى الملك وجها لوجه، ولكن ما يلي في الرسالة هو المذهل، لا ينقل الرجل إلى الملك سنحاريب بل إلى الأمير عراد- نينليل (Arad-Ninlil)، وهو الشخص الذي يريد الرجل أن يتحدث عنه، وأنه يريد قتل الملك، ويطلب منه (وما زال وجهه مغطى) أن يتكلم بصراحة، من الواضح أن الرجل (المخبر) كان يظن بأنه يتحدث إلى الملك مباشرة لأنه لا يرى شيئا، فقال الرجل: (ابنك عراد-نينليل سوف يقتلك)، هنا بدأت الأمور تسير باتجاه آخر، فقد أزيل الغطاء عن وجه الرجل: وتم استجوابه من قبل الأمير عراد-نينليل: الذي أمر بقتله مع رفاقه المذكورين في بداية الرسالة فورا، السطور السبعة المتبقية مجزأة للغاية بحيث لا يمكن فهمها بشكل صحيح، ولإضفاء أهمية هذه الرسالة أضع بعض الحقائق الأساسية:
الأول: من الواضح أن (اتفاق بالتمرد) المذكورة في بداية النص هي التي دفعت الرجل التعيس إلى مقابلة الملك، وثانياً: أن معلوماته تخص الأمير عراد-نينليل، وثالثاً: بسبب هذه المعلومات قتل الرجل هو وزملاؤه الذين يعرفون قضية (اتفاق بالتمرد) على الفور.
يبدو أن الأمير عراد-نينليل لا يريد أن يصبح معروفا بشكل علني بنيته في قتل الملك سنحاريب، وبما أن هذه المعلومات قد تصل آذان الملك فمن الأفضل قتل الرجل وزملاءه جميعا، لم يبقى في الرسالة من اسم عراد-نينليل بالكامل غير مقطع (LÍL)، ولا نعرف أسم الأمير السرجوني الاخر الذي اشترك بالجريمة وذكرته التوراة باسم (شرآصر)، ولكننا نعرف بأن عراد-نينليل هو ابن سنحاريب، وبذلك فإن الملك المشار إليه في النص هو سنحاريب حتما.
من ناحية أخرى الرسالة نفسها لا يمكن أن تكون موجهة إلى سنحاريب، لو أراد الكاتب أن يحذر الملك من عملية اغتيال مدبرة لكان قد عبر عنها بشكل آخر مختلف، لذا نستنتج أن الرسالة كانت مكتوبة بعد وقوع جريمة القتل بالفعل، وربما وجهت الرسالة إلى اسرحدون، وقد اطلع عليها بشكل جيد وعرف من قتل والده سنحاريب، ومن السخافة أن نفترض أن الغرض من الكاتب كان إبلاغ الملك عن هوية القاتل، انما كان هدفه مختلفا تماما إذا نظرنا إلى النص نجد الكاتب وهو يشير إلى الدور القيادي لعراد- نينليل في المؤامرة، ولكن ما يحاول أن يوضحه هو أن المسؤولين الاشوريين المذكورين في الرسالة وهما نابو-شوم-اشكن (Nabu-šum-iskun )، وسيلا ( Sillâ) كانا مسؤولين عن قتل الرجل المخبر ورفاقه، وبالتالي فقد شاركا أيضا في المؤامرة وكلاهما معروفين باسم مسؤولي سنحاريب اللذان استمروا في مناصبهم خلال السنوات الأولى من حكم اسرحدون، ونجد في رسالة من تل قوينجق (في نينوى القديمة) العديد من العبارات التي تذم المسؤول سيلا، ولهذا لا نستغرب بان يقوم سيلا (Sillâ) بقتل الرجل المخبر ومن معه، خوفا ان يعلم سنحاريب بعبارة (ابنك عراد-نينليل سوف يقتلك).
يبقى ان نربط أسم عراد-نينليل بأسماء القاتل التي وردت في التوراة وهي ادرملك (Adrammelech) أو ادرميلوس (Adramelos) أو ادرموزان (Ardumuzan)، وفي مقتطفات المؤرخ البابلي بيروسوس أيضا.
في الواقع لا توجد أي مشكلة على الإطلاق، ففي القراءة التقليدية للاسم الآشوري، يجب أن يكون الاسم الثاني (d-NIN.LÍL) و أن يقرأ موليشو(Muliššu) أو موليسو (Mullêsu)، وهو الشكل الآشوري الجديد لقراءة الاسم الأكادي للإلهة نينليل (Ninlil)، والموثقة على أنها موليتوم (Mullitum) في قائمة الآلهة في عهد البابلي القديم ، يبدو أن هذا الاسم كان منتشرا على نطاق واسع في الألفية الأولى ق.م، من ناحية أخرى، يمكن تحديد قراءة المقطع الأول عراد ( (ARAD مثل عردا (arda) أو عردي (ardi) على أساس التهجئة في النصوص الآشورية، وبذلك يمكن قراءة الاسم عراد-موليشي( Arda-Mulissi) أو أراد-موليسي، تصبح أسماء القاتل الموجودة في المصادر غير المسمارية سهلة التفسير نسبيا مثل الاسم في التوراة (Adrammelech) ويمكن ان يقرأ المقطع الأخير ميليس( (meles ويحرف إلى ميليك (melek)، وهذا الاسم شائع ومتكرر في الأسماء الشخصية السامية في شمال غرب آشور فنقرأ الكثير من الأسماء تنتهي بالملاك أو ميليك أو ملكا، وكلها تعني الإله أو الروح كأن نقول ملاك الرب، أو ملك الموت، أو ملاك الرحمة، أما الاسم عند المؤرخ البابلي بيروسوس فهو أدرميلوس (Adramelos) وهو يطابق تقريبا مع اردا-موليسي(Arda-Mulissi) أو عردا-موليسي (Mullêsu) على أنه قاتل الملك سنحاريب ولكن ما هي دوافعه وكيف انتهى به المطاف إلى فعل ما فعله؟ يمكن وصف الأحداث كما يلي:
في عام (694) ق.م، تم القبض على الابن البكر للملك سنحاريب الاشوري والوريث على عرش ابيه، ويدعى آشور-نادن-شومي (šumi –Assur-nãdin) حاكم بابل نيابة عن ابيه (699-694) ق.م من قبل المتمردين الكلديين وحلفائهم العيلامين، وتم نقل الأمير الاشوري إلى عيلام، وهناك قتل ولم يعد يسمع عنه شيئا، أما الابن الأكبر الثاني عراد- موليسي (Arda-Mulissi)، فلديه كل الأسباب لأن يستلم ولاية العهد بعد مقتل أخيه في عيلام، ومع ذلك، فقد ازيل من منصب ولاية العهد لصالح أخيه الأصغر اسرحدون، وهو ابن آخر للملك سنحاريب، والذي أصبح الابن المفضل للملك الاشوري بفضل أمه نقية زاكتو(Naqi'a Zakitu)، وهي ليست أم عراد-موليسي، وهكذا أعلن اسرحدون رسميا وليا للعهد، وكل من في آشور عليه أن يقسم بالولاء له، ومع ذلك يتمتع عراد-موليسي بشعبية كبيرة في بعض المؤسسات الاشورية الذين يرغبون في رؤيته ملكا بدلا من أخيه اسرحدون، و مع مرور السنين ارتفع عدد معارضي اسرحدون، واكتسب عراد-موليسي واشقائه شعبية واسعة في مدن آشور ونينوى، هذا التطور السياسي حتما سوف يؤدي إلى تحول في الأحداث، ولكن ليس إلى ما يأمله عراد-موليسي وأنصاره، فقد أرسل سنحاريب ولده اسرحدون بعيدا عن العاصمة إلى المقاطعات الغربية في بلاد الشام لعله يحقق انتصارات عسكرية فيرتفع رصيد شعبيته في عيون سكان بلاد آشور، ورجال الحاشية، والاسرة الملكية، بينما يصيب الفشل أحلام اخوته باستلام الأخ الأكبر للعرش، وعندها لا حاجة للملك سنحاريب تنظيم ولاية العهد من جديد، وفي هذه الحالة، وجد عراد-موليسي ومن معه أمام طريق مسدود، فمن ناحية، هم في أوج قوتهم السياسية، ومن ناحية أخرى في حالة الفشل في استلام الحكم سوف يضطر شقيقهم المنافس على العرش ان يقضي بقية حياته في المنفى، ويبقى اسرحدون وليا للعهد، ولا يوجد شيء يمكن أن تفعله المعارضة حيال ذلك، فقد بقي سنحاريب على عناده لم يتغير، كما أن اسرحدون ليس في متناول اليد لأنه في المقاطعات الغربية، يبدو أن السبيل الوحيد أمامهم لمعالجة الوضع هو التصرف بسرعة والسيطرة على الحكم بالقوة، وهكذا كان خطة (الاتفاق بالتمرد)، وبينما كان سنحاريب يصلي في المعبد تم طعنه حتى الموت على يد عراد- موليسي ومعه أخيه، أو ربما تم سحقه وهو على قيد الحياة تحت ثقل تمثال الثور المجنح العملاق الذي يحرس المعبد وهو يصلي وقت ارتكاب جريمة القتل، ويمكن تتبع ما بقي من الرواية في وثيقة الملك اسرحدون الخاصة بالأحداث، وقد ادين الأمير عراد-موليسي بجريمة قتل أبيه سنحاريب فهرب لإنقاذ حياته والعيش في المنفى كلاجئ في مملكة اوراراتو (Araratu) (شرق تركيا) .
الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع