نقوش الزواج المقدس على الاناء النذري من اوروك بلاد الرافدين، وزهرية انانديك من بلاد الاناضول

                                                         

                         د.صلاح رشيد الصالحي

نقوش الزواج المقدس على الاناء النذري من اوروك بلاد الرافدين، وزهرية انانديك من بلاد الاناضول

  

شكل الاناء النذري من معبد إنانا في اوروك ويمثل مشهد الزواج المقدس، وبالمناسبة دمر هذا الإناء تماما في المتحف العراقي مع الاحتلال الأمريكي عام 2003

ارتبط الزواج المقدس بالإلهة (إنانا) أو (انينا) أو (نينا) من صيغة (nin-an-na) والتي تعني (سيدة السماء) (بالأكدية عشتار) أو من ينوب عنها مثل الكاهنة العظمى في المعبد أو ربما الملكة التي تجسد شخصية الإلهة، وبالمقابل زوجها أو عشيقها الإله دموزي (Dumuzi) بالسومري (بالأكدى تموز) أو من ينوب عنه ربما الكاهن الأعظم (EN)، أو الملك (LU.GAL) يجسدان شخصية الإله، وتجري طقوس دينية حيث تجسد إنانا/عشتار إلهة الخصب، ويطلق على طقوس الزواج المقدس باليونانية هيروس كاموس (Hieros Gamos)، وعادة ما تستخدم عبارة (وضع السرير) للإشارة إلى الزواج المقدس، وتصادف مراسيمه في عيد رأس السنة السومرية زاك موك(zag-mug)، حيث تقام احتفالات كبيرة في سومر (القسم الجنوبي من بلاد الرافدين)، ويعتقد ممارسة تلك الطقوس كانت في وقت مبكر من عصر فجر السلالات، فهي معروفة منذ زمن سلالة لـﮕش الثانية وعلى وجه التحديد في عهد الامير گوديا (2150) ق.م، كذلك في فترة سلالة أور الثالثة، وخاصة الملك شولكي (2095-2048) ق.م، والملك شو- سين (2038-2030) ق.م، وايضا في زمن سلالة ايسن في عهد الملك ادن- دﮔان (1974-1954) ق.م.
وليست المعابد السومرية هي الدليل الوحيد على إقامة هذا النوع من الاحتفالات، لكن لدينا نقوش على إناء طقسي كبير من المرمر طوله ثلاثة أقدام عثر عليه في معبد إنانا في أوروك (Uruk) (موقع الوركاء)، والنقوش مثلت في ثلاثة صفوف تمتد على سطح الإناء ويعلو احداها الأخرى، ويتكون الصف السفلي من نقوش تمثل مجموعة من النباتات والحيوانات وسنابل الشعير مع عذوق التمر، والخراف، والكباش، ويبدو بانها الهدايا المفضلة للآلهة، أما الصف الثاني من النقش فتمثل الرجال عراة وهي الهيئة المألوفة لدى زيارة الكهنة للآلهة اذ المفروض ان يتجرد من كل ملابسه (في الإسلام عند دفن الميت يجرد من ملابسه الدنيوية لأنه سيقابل الله يوم الحساب)، ويحمل هؤلاء الرجال هدايا ونلاحظ في النقش اختلافا طفيفا بين هيأة الرجال وكذلك بين الهدايا التي يحملونها مما يحمل على الاعتقاد توضيح كثرة الهدايا التي تلقتها إلهة الخصوبة، ونرى في النقش الدقة في تمثيل الحركة والسير بالنسبة للرجال فقد جعل القدم اليمنى للأمام واليسرى للخلف بينما نرى العكس بالنسبة لأقدام الحيوانات في الصف السفلي، أما الصف العلوي فيمثل للإلهة إنانا وهي تقف أمام حزمتين من القصب مربوطتان من الاعلى وهما يرمزان للإلهة ذلك ان الحزمة كانت تعني في الكتابة التصويرية الإلهة إنانا، وخلف الإلهة وضعت الهدايا في صفوف ويظهر من كل نوع منها زوجان فيوجد زوجان من الكؤوس الشبيهة بالإناء الذي اصفه، كما نرى إناءين على شكل كبش وأسد، ونجد دكتين يقف عليه المصلون، بينما يقدم كاهن عاري الفاكهة التي ترمز لخصوبة الإلهة، ويليه يقف كاهن يعتقد الباحثين بانه يمثل الإله دموزي أو تموز (زوج إنانا) ويقف خلفه أحد مساعديه أو خدمه يمسك بحزام من القماش ملتف حول خصر الإله، في هذا النقش يبلغ طول الإلهة نفس طول البشر وبذلك تختلف النقوش العراقية القديمة عن نظائرها في مصر التي كانت تمثل الآلهة أكبر حجما في النقوش من البشر.
ولا نجد أي نقوش أو وثيقة تذكر علاقة الاناء النذري بالطقوس، ولا يوجد أية نصوص أدبية تسجل تاريخ الزواج المقدس بعد فترة اوروك، على الرغم من أن الإناء ربما صنع بين (3100 و2900) ق.م، فأقدم نص ادبي عن الزواج المقدس يرجع إلى فترة عصر فجر السلالات الأول (2900-2334) ق.م مع العديد من الأناشيد التي تعود إلى فترتي سلالة أور الثالث، وايسن (2100-1800) ق.م.
قدم الأدب القديم نصوص تعتبر مصدر عن طقوس الزواج المقدس وتسجل الحدث بين الإلهة إنانا والإله دموزي، وتراتيل أخرى تصف الملك وهو يشارك في الطقوس مما يدل على وجود طقوس الزواج المقدس فعليا، ولدينا مقطع لترنيمة للإلهة إنانا يعود تاريخها إلى عهد الملك ادن- دﮔان (Iddin-Dagan) (1950) ق.م : (عندما يجتمع ذوي الرؤوس السوداء (يقصد الناس) في القصر، في البيت الذي يقدم النصح للأرض ولجميع البلدان الأجنبية في منزل عذاب النهر، وهو المكان المخصص لـ (نينغالا) (Ninegala) (لقب إنانا)، يظل الملك الإله هناك معها، في السنة الجديدة، في يوم الطقوس، لكي تتمكن إنانا من تحديد مصير جميع البلدان، وفي خلال النهار (؟) يتم تفتيش الخدم المؤمنين، وفي يوم اختفاء القمر تظهر القوى الإلهية، ويتم تهيئة سرير سيدتي. ويعطر العشب بعطر الأرز، ويرتب سرير سيدتي، ويوضع غطاء في الأعلى (؟) من اجل جمال ونعومة السرير، وتستحم سيدتي وتغسل أفخاذها المقدسة، من أجل فخذي الملك، انها تستحم من أجل فخذي ادن- دﮔان، وتغتسل إنانا المقدسة بالصابون انها ترش الزيت وعطر الارز على الأرض).
تسجل هذه الترنيمة استعدادات إنانا للزواج المقدس في المعبد في يوم رأس السنة الجديدة (عيد اكيتوAkitu ) والأهم من ذلك ذكر في الترنيمة اسم الملك ادن- دﮔان، كزوج للإلهة إنانا المقدسة، النظرية العامة بأن طقس الزواج المقدس كان يعقد لضمان خصوبة الأرض، وفي هذه الحالة الملك يشارك في ضمان خصوبة الأرض أيضا وتبارك الإلهة حكمه، ويمكن الاستدلال على الصور المنقوشة على الإناء من أوروك وزهرية انانديك من بلاد الاناضول، وكذلك في الأدب المسماري فالطقوس ترتبط بالإلهة إنانا /عشتار التي تبارك المحصول الزراعي، وهو النشاط الاقتصادي المهم في بلاد الرافدين.
أن طقوس عبادة إنانا كانت تستغل من قبل عامة الناس في إقامة طقوس معينة يتم فيها تجاهل الأعراف الاجتماعية، فيتم إعادة تمثيل الزواج المقدس بين إنانا وزوجها دموزي، ويرافق طقوس الزواج عزف الموسيقى والغناء، والرقص، والالعاب البهلوانية -كما هو على زهرية انانديك وذكرتها الأناشيد، ويختم المهرجان بإقامة مأدبة كبيرة في المعبد بمرافقة المطربين والموسيقيين. ويعلق الباحث (Roscoe) (لابد وأن تعزف الموسيقى الهزلية والألعاب البهلوانية لخلق جو ترفيهي بهيج)، بالإضافة إلى الغناء والرقص والألعاب البهلوانية، نجد العديد من الأفراد يشارك الاحتفالات في إراقة الدماء، وقد يقوم البعض بإجراء طقوس اخصاء، فقد كان هؤلاء الخصيان مسؤولين عن انشاد قصائد الرثاء والنواح خلال مهرجان الرثاء الذي يجرى للإلهة إنانا عند نزول دموزي للعالم الأسفل (بمعنى موته)، كما كان خصيان إنانا وعشتار مهمين بسبب قدرتهم على اداء أدوار الجنسين التقليدية في المجتمع ﻷﻧﮭم ﮐﺎﻧوا ﯾرﺗدون ملابس اﻟﻧﺳﺎء ويتصرفون مثلهن، ﮐذﻟك يشارك افراد آخرين ليسوا بخصيان في الاحتفال، يبدو أن علاقة إنانا وعشتار بالخصوبة والجنس كانت متقلبة إلى حد كبير وسهلة تماما، فهناك ترتيلة واحدة، يعود تاريخها إلى الفترة ما بين (2000 و 1600) ق.م، تصف إنانا بانها كانت تعبد في كثير من الأحيان كإله مخنث وتعرف باسم (اللحية) .
اقترنت الإلهة بكوكب الزهرة فهي نجمة مذكر في الصباح يطلق عليها (اكاديتو)، ونجمة انثى في المساء تدعى (اوركيتو)، وكان يرمز لها بالنجمة الثمانية في المشاهد الفنية للدلالة على نجمة الزهرة لظهورها المتناوب تارة عند الغروب وتارة اخرى قبل الشروق، ومن خصائصها المزدوجة كإلهة تجمع الجنسين فهي تمثل الخصوبة من جهة وإلهة الحرب من جهة أخرى، ويبدو غريبا للإلهة الخصوبة ان يكون بعض المتعبدين من الخصيان ربما كانوا يحاولون تقليد إلهتهم التي تجمع الجنسين، وقد يعكس إخصاءهم أيضا الطبيعة المزدوجة لإنانا /عشتار كإلهة الخلق وإلهة الدمار، فعندما نزلت إنانا للعالم الأسفل (ورد ذلك في الفترة السومرية في نيبور)، و لم يتم تسجيله حتى عام (1800) ق.م ، يذكر النص توقف كل النشاط الجنسي على الأرض لأن إنانا نزلت إلى العالم السفلي، وبدونها توقفت كل الخصوبة (النبات والحيوان والانسان)، ولدينا ترنيمة آشورية تسجل هذه الفكرة قائلة بإن عشتار (تحول الرجال إلى نساء ونساء إلى رجال) هذه القدرة ترددت في ترنيمة الإلهة إنانا المنسوبة إلى الكاهنة انخيدوانا (Enheduanna) ابنة أو أخت الملك سرجون الأكدي، هذه التراتيل جنبا إلى جنب مع غيرها تسجل العديد من الأمثلة على أن انانا/عشتار لديها قدرات هائلة، ويشير الباحث (Harris) إلى أن ) أن البغاء المقدس مع الاغاني التي ترافقها الموسيقى يجد فيها المحتفلين بالزواج المقدس التحلل من القيود الاجتماعية) .
ومن المثير للاهتمام أن إنانا كانت حارسة ميس (mes) بالأكدية بارشو (paršu)، الذي مثل في الأدب السومري بالمؤسسات الاجتماعية، والسلوكيات، والممارسات الطقسية التي كانت أساس الحضارة، فهي تحمي وتحافظ عليها وهذه القيم هي أساس الفهم السومري للعلاقة بين الانسان والآلهة، واعتقد بان احتفالية الزواج المقدس كان يمثل توازن الفوضى والنظام في الكون وأن شخصية إنانا المتغيرة باستمرار كانت تعكس قوتها، ومن المحتمل يمارس المشاركين والمشاهدين لهذه الطقوس خرق النظام الاجتماعي التقليدي والهدف من الزواج المقدس تذكيرهم بالفوضى التي قد تنتج إذا ما خرجوا من عن الخط العام ومن ثم هذه الطقوس كانت إعادة تأكيد للطريقة الصحيحة في التصرف من خلال إظهار الطريقة الخاطئة للتصرف والفوضى، وقد يوفر الزواج المقدس للملك الفرصة بان يكون وسيط بين البشر والآلهة لضمان الحفاظ على النظام، على اية حال نلاحظ انتقال هذه الاحتفالات الى اليونان والرومان فيما بعد.

الزواج المقدس في بلاد الاناضول في عهد المملكة الحثية

   


شكل مزهرية انانديك من بلاد الاناضول (تركيا) نقش عليه الزواج المقدس (القرن السابع عشر ق.م)
يمكن القول بان احتفال الزواج المقدس انتقل إلى بلاد الاناضول مع فارق زمني طبعا، فقد عثر على زهرية انانديك (Inandik) (في اقليم قوروم Corum بتركيا الحالية) ضمن معبد حثي قديم جرت فيه عمليات تنقيب ولعدة مرات، وكشفت عن كمية كبيرة من الفخاريات، الشيء الجدير بالاهتمام بان الزهرية زينت بالوان متعددة وعلى شكل اربعة صفوف تمثل احتفال الزواج المقدس، ويتضمن الصف السفلي التحضيرات للعيد ومواكب الموسيقيين من الذكور والاناث مع آلاتهم الموسيقية الدفوف والقيثارة والصنوج، واعداد النبيذ والبيرة في جرار كبيرة، ويجلس كاهن وكاهنة (ربما إله و إلهة)على مقعدين متقابلين وامامهم مذبح، الصف الذي يليه موكب من الرجال والنساء يحملون الهدايا متجهين الى مذبح يقف عليه ثور يمثل إله العاصفة (مثل إله العاصفة بشكل ثور في الفترة الحثية القديمة)، في الصف الثالث من الأعلى المحتفلين من النساء والرجال يضربون الدفوف والقيثارة والبعض يحمل الهبات التي تقدم أمام المذبح مثل جرة الخمر ومواد غذائية رتبت على منضدتين، وفي الصف الرابع من الأعلى عزف الموسيقى والأغاني وأداء الألعاب البهلوانية بمرافقة الكهنة، أما مشهد الزواج المقدس فيظهر في اقصى الزاوية اليسرى يؤديها كاهن وكاهنة ربما يمثلان إله وإلهة من اجل نشر الخصوبة على الأرض.
اما الزهرية الثانية فقد عثر عليها في موقع تل يوسينديد (Hüseyindede) (في اقليم قوروم Çorum ) وعليها مشهد يماثل ما ذكر اعلاه في زهرية (انانديك)، ففي القسم الاعلى موكب من الراقصين والمغنيين يقودون ثور كقربان، وكما في زهرية انانديك يتجه الموكب إلى المذبح، وهناك منضدة القرابين، وعرش يجلس عليه شكلين ربما كاهنة أو إلهة فهناك تشوه في الزهرية، القسم الثالث: حامل القربان ومعه موسيقي يقترب من إله جالس خلف منضدة القرابين، وهناك ثلاثة اضاحي حيوانية تقاد باتجاه الإله، احدهما على ما يبدو آيل (على الرغم من ان شكل قرونه غير عادية)، والآخر كبش أو عجل، والثالث من الصعب تميزه لوجود كسر في الزهرية اما القسم السفلي: فقد احتل من قبل ثيران تجري بشكل متناقض فقد اعتبر الباحثين بان الثيران لها دور متميز في العبادة عند الحثيين، وفي الوثائق المسمارية الحثية فان العروض البهلوانية مع الثيران المقدسة تؤدى أمام إله العاصفة ضمن المواكب الطقوسية الاحتفالية في مهرجان حاتتي المكرس الى (Teteshapi)، حيث تؤدى الطقوس في منطقة تاوينيا (Tawinia) التي تقع على بعد (15) كلم جنوب غرب حاتوشا (عاصمة المملكة الحثية)، ويطلق على الثور القرباني اسم (ثور الإله)، لقد استمرت إقامة الاحتفالات بالزواج المقدس في المملكة الحثية لغاية حكم الملك تلبينو (1525–1500) ق.م، حيث تجري ارقة السائل القرباني (NIN.DINGIR) من قبل الكاهنة، وهكذا النقوش على المزهريتان (انانديك و يوسينديد) تمثل المهرجانات والمواكبَ تكريماً للإلهة (إنانا) وتعتبر الدليل على انتشار طقوسِ الزواج المقدس الرافدية في الحضارةِ الحثية، ومن ثم فهي تشبه الى حد ما الإناء النذري من الوركاء التي تصف الزواج المقدس بانه بين الإله دموزي والإلهة إنانا سيدة السماء كما وردت في النصوص السومرية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

776 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك