وثيقة قضائية من العهد الاشوري القديم من بلاد الأناضول

                                                

                    د. صلاح رشيد الصالحي

    وثيقة قضائية من العهد الاشوري القديم من بلاد الأناضول

    

صورة خيالية لمستوطنة آشورية (كاروم كانيش) الطبقة الثانية: يلاحظ طرق عريضة تكفي لمرور عربات النقل، وهناك شوارع ضيقة ترتبط بهذا الطريق، يبدو ان الكاروم كان مزدحما بالسكان، اما المنازل فحتوت على غرفتين وإلى ست غرف، والبناء مستطيل الشكل والفناء ليس في وسط الدار انما أقيم على أحد جوانب المنزل، اما الطابق الثاني في المنازل فقد شيد بالأخشاب ويلاحظ عدم وجود سلالم لذا يعتقد إنها كانت مصنوعة من الخشب، كما استعمل الخشب بكثرة في بناء الاسوار وهناك ممرات فوق الاسوار رصفت بالحجارة لغرض الحراسة والمراقبة.

يطلق على النصف الأول من الالفية الثانية ق.م في الاناضول اسم (فترة المستوطنات الآشورية)، هذه الفترة استمرت (200) سنة، وفي وقتها أدخلت الكتابة إلى بلاد الأناضول، ويعتبر موقع كانيش/ كول تبه (Kūltepe-Kaniš) (كانيش اسم الموقع قديما حاليا كول تبة (منطقة قيصري) وكلمة تبة تعني التل وفي العراق ناحية قره تبة معنى الاسم التل الأسود في محافظة التأميم) الموقع الأكثر شهرة لحقبة المستوطنات الاشورية من حيث الاكتشافات الأثرية، وفقا للتنقيبات فإن كاروم كانيش (كلمة كاروم kārum تعني الميناء أو الرصيف، والمستوطنات الكبرى تدعى كارو Káru مفردها كاروم Kárum والمستوطنات الأصغر تدعى ومبراتوم Wabaratum مفردها وابارتوم Wabartum وبالمناسبة مطار القاهرة الدولي يطلق علية ميناء القاهرة الدولي فاسم كاروم لا يعني ميناء على البحر أو النهر)، حددت التنقيبات فيه أربعة طبقات لمستوطنة كاروم كانيش الاشورية، ففي الطبقتين الثالثة (III) والرابعة (IV ) لم يعثر علماء الآثار على الواح مسمارية، واغلب الالواح المكتشفة وصلتنا من الطبقة الثانية (II)، وبعد هذه الطبقة توقفت الأنشطة التجارية أو ضعفت لفترة قصيرة، ولكن عاد النشاط التجاري وكتابة الالواح الاشورية مرة اخرى في الطبقة الاولى (Ib) .
قام بعض العلماء بترجمة ونشر الواح الطبقة (Ib) ومنهم الباحثين (Donbaz) و (Münster) وتوصلوا بان الطبقة (Ib) أطول زمنيا مما كان يعتقد سابقا وانها أقرب إلى عهد المملكة الحثية القديمة، فالألواح الطبقة الاولى (Ib) غالبا مستطيلة الشكل ولونها اسود، اما من حيث اللغة فهي الاشورية القديمة وهي قريبة من البابلية القديمة، والعديد من الرموز المسمارية ( في الطبقة الثانية II) تم تبسيطها وهذا التغير كان طبيعيا نتيجة لتطور الكتابة المسمارية، فقد تم تدريب الكتبة الأوائل في مدينة آشور واحضروا معارفهم معهم إلى بلاد الاناضول، وإذا كان هناك اختلاف في التهجئة في الواح الطبقة (Ib) ربما يعود إلى الكتبة الذين تعلموا في أماكن مختلفة جاؤا إلى بلاد الاناضول، ومن الواضح فان الالواح في الطبقة (Ib) ليست فقط للأشوريين ولكن أيضا هناك مجموعات عرقية أخرى أصبحت أكثر نشاطًا في ميدان التجارة، على الأغلب كان الوضع خلال الفترة بين الطبقة الثانية (II) و الطبقة الاولى (Ib) تتميز بتوتر العلاقات والتنافس بين الآشوريين والأناضوليين.
لدينا نص مسماري تحت رقم (Kt.2001/k 325) عثر علية في الطبقة الأولى (Ib) في كاروم كول تبة، خلال تنقيبات عام 2001، ولا نعرف من كان بحوزته النص؟ ومن قام بخزنه في الأرشيف؟ (عثر على أرشيف كانيش الذي ضم الالواح حيث تم خزنها في جرار كبيرة الحجم أغلب هذه الواح تتناول التعاملات التجارية والقانونية والاجتماعية في كول تبة) ولكن ما نعرفه أن هذه الوثيقة تنتمي إلى أرشيف مهم جدا.
لوحظ وجود كسر في الغلاف الذي يضم الوثيقة (في الالواح المهمة يصنع غلاف من الطين الطري ويرش بداخله تراب جاف ويوضع اللوح داخل الغلاف مع وضع الأسماء والاختام عليه ثم يوضع تحت اشعة الشمس ليجف أو في النار ليكسب صلابة وقوة ولا يفتح الغلاف إلا بقرار قضائي)، المهم لوحظ في الوثيقة بعض السطور المفقودة، وأمكن اتمام النص من الشظايا الموجود داخل الغلاف واعادتها إلى مكانها في النص الأصلي، اما الأسماء الشخصية في السطور الخمسة الأولى فأخذت من الغلاف وقد سبقتها طبعة الختم (KIŠlB) لذلك تم إعادة بناء النص الموجود داخل الغلاف كما هو على اللوح الاصلي تقريبا، في وسط الغلاف هناك طبعة ختم منبسط، ومن المعروف أن الأختام المنبسطة كانت تستخدم في الغالب من قبل الأناضوليين خلال فترة الطبقة الاولى (Ib) كما في الوثيقة (Kt.2001/k 325) الذي نحن بصددها، وتتعامل هذه الوثيقة مع عائلة ذات أصل مختلط: الآشوريين والأناضوليين، وينعكس هذا طبعا على أنواع الأختام المطبوعة على الظرف، وترجمة الوثيقة ما يلي :
(1-7) خمالا (Ḫamala) من مادا (Mada)، وشماش-باني (Šamaš-bāni)، وآمور-عشتار (Amur-Ištar)، وشومي-آشور (Šumi-Aššur)، وآشور-شمشي (Aššur-šamši)، أبناء شاليم-آشور (Šalim-Aššur)، وزيكي (Ziki)، ابنة شاليم-آشور، الكاهنة، وقد اختارت الشهود، وبموافقتهم جميعا
(7-8) دخلنا بيت شاليم-أشور (ومعنا القرار الآتي):
(9-13) ملك كانيش، بفضل حكمته، أعطى بيت شاليم-أشور الكبير لخمالا من مادا، والبيت من حق خمالا نفسه
(14-15) سوف يجلب خرشو-ملكا ابنة شاليم -آشور
(15-18) زيكي ابنة شاليم-آشور الكاهنة يجب أن تأكل وتمسح بالزيت معهم مثل أم خمالا وزوجته.
(19-22) إذا عامل خمالا وزوجته خرشو-ملكا الكاهنة زيكي معاملة سيئة أو دخل ارخالوم (arḫālum) إلى البيت.
(23-30) سوف يعطيها خمالا تمثال بشكل إله من الذهب مصنوع من مجوهرات ابيها، ومعها واحد من ثلاثة خدم، وأمة (فتاة) واحدة، وحمار واحد وجميع ممتلكاتها، ثم تغادر (بيت ابيها) وتذهب لتسكن مع اخوتها
(30-34) شماش-باني، وأمور-عشتار، وشومي آشور، وآشور-شمشي ابناء شاليم-آشور لا مشكلة عليهم (أمام القانون)، ويمكنهم الذهاب أينما يرغبون، وانهم ليسوا مسؤولين عن (arḫālum)
(35-36) وسوف يحصل الأخوة على منزل صغير خارج المدينة
(36-38) وخلال السنوات الثلاث القادمة سوف يجهز الإخوة أختهم زيكي بقطعة نسيج واحدة، وقطعة نسيج-šitrum واحدة (محتمل ثوب من الصوف)
(38-43) بعد مرور ثلاث سنوات سوف يتوقفون عن (تجهيز) النسيج، ونسيج-šitrum، وسوف يعطون في كل سنة 3/1 مينا من الفضة لأختهم زيكي
(43-50) بعد وفاة أختهم زيكي، الكاهنة، فان شماش-باني، وأمور-عشتار، وشومي-آشور، وآشور-شمشي، أبناء شاليم-آشور، يأخذون من خمالا الالواح ومعها عقود اعمال ابيهم شاليم-آشور
(51-54) خمالا ليس المسؤول عن ديون شاليم-آشور ابن بوزور(؟)-آشور Puzur(?) Aššur) )، وإذا كانت هناك دعوى قضائية فعلى ابنائه.
(54-55) الشهر شا-كيناتيم (Ša-Kēnātim) (كانون الأول) السنة التي تلي سنة أخايا (Aḫiya) ابن ادوناي (Adunaya).
(55-58) أمام الشهود شولمو-شا-آشور (Šulmu-ša-Aššur) ابن دادايا (Dadaya)، و ازيروم (Azirum) ابن كورارا (Kurara)، وشو-راما (Šu-Rama) ابن شارو-شوين (Šarru-Su'in)، وشو-اشخارا (Šu-Išḫara) ابن اوشخير (Ušḫer)، ولا-قيب (Lā-qēp) ابن شو-عشتار (Šu-Ištar)، وداكو (Dakū) و ودو (Wadū)
التعليقات
نلاحظ في هذه الوثيقة القضائية عدم إعطاء اسم المستوطنة (كاروم) (kārum) أو محطة تجارية وابارتوم (wabartum) في نهاية النص كما هو المعتاد لهذا النوع من الوثائق، على الرغم من وضع التاريخ بالأشوري حسب الشهر والسنة، أشارت الوثيقة إلى شخص يدعى شاليم-آشور(Šalim-Aššur) (معنى اسمه سلام الإله آشور لان شاليم تعني السلام وبالعبرية شالوم)، لدية ابنتان (الكاهنة زيكي Ziki، وخرشو- ملكا Ḫaršu-melka)، وأربعة أبناء وهم شمش-باني، و آمور-عشتار، و شومي-آشور، وآشور-شمشي، بالإضافة إلى خمالا من مادا زوج خرشو- ملكا، وكان حاضرا هو الاخر أثناء المحاكمة من المحتمل شاليم-آشور توفي قبل تدوين وصيته، لذلك هذه الوثيقة عبارة عن تقسيم الميراث، ويحتوي النص على الشروط المتعلقة بأخوة زيكي الأربعة وأختهم خرشو-ملكا وزوجها خمالا، وكتب اسم خرشو-ملكا بوجود مقطع في آخر اسمها(–elka) أو (–alka) ولذلك فهي من الأسماء المحلية الاناضولية، وبما انها ابنة شاليم-آشور فعلى ما يبدو أن ابيها لديه زوجة أناضولية محلية، فمن المعروف أن بعض التجار الآشوريين كانوا يملكون زوجة في آشور تسمى زوجة أشوتم aššutum) ) وزوجة أخرى في الأناضول تسمى امتم (amtum) بمعنى (أمة) أو (خادمة).
الشخص الأكثر أهمية في هذه الوثيقة هي زيكي، التي كانت كاهنة [أوقبابتوم] (ugbabtum) (NIN.DINGIR) ، (كانت الكاهنة انتو (entu) تعادل كاهنة أوقبابتوم من حيث المنصب الديني فكلاهما تعتبران كاهنة عظمى في المعبد، ومن المفترض كلاهما تعيشان عفيفتان ومحرم عليهن انجاب الأطفال حسب قرار الآلهة، ولذا هن من المحرمات على الرجال، وكان الإباء يفتخرون بان بناتهم كاهنات في مناصب دينية عالية، والحقيقة الهدف من ادخالهن سلك الكهنوت حتى يرثن تركة العائلة ولا يورثن الممتلكات لاحد فليس لهن أطفال فيبقى الإرث داخل الاسرة)، وفقا للقرار، سيتم توفير الإقامة، وتجهيز الطعام والزيت للكاهنة زيكي من قبل خمالا وزوجته خرشو-ملكا، واستخدمت عبارة ( أوشبات اكلات و بشات إشتيشونو) (ušbat aklat u paššat ištīšunu) ( سوف تعيش وتأكل وتمسح بالزيت معهم) (سابقا الزيت ضروري لترطيب الشعر والقضاء على الطفيليات والقمل، وايضا لترطيب الجلد، ومن تقاليد بابل القديمة في حالة خطوبة البنت يتم مسح شعرها بالزيت، واحيانا يتفاخر ملوك الشرق الأدنى بانهم استلموا هدايا من بينها زيت فاخر)، وإذا عانت زيكي من معاملة سيئة أو إذا دخل البيت رجل ذو منصب حكومي ارخالوم (arḫālum)، فيجب على خمالا أن يعطيها المجوهرات على شكل تمثال من الذهب بهيئة إله، وكل ما تركه لها والدها، ويعطيها أيضا خادم حسب اختيارها، و فتاة أمة، وحمار (للركوب) وكل شيء يخصها، ثم تذهب زيكي لتسكن في بيت أخوتها، ومن الواضح أن زيكي لم تكن مضطرة للعيش مع أختها خرشو-ملكا وزوجها خمالا، انما تم تسجيل حقوقها بشكل خاص من أجل ضمانها.
كما على خمالا إعطاء وثائق شاليم-آشور الى أبنائه بعد وفاة زيكي، وهذا يعني أن الكاهنة زيكي تحتفظ بالوثائق، ولكننا لا نعرف لماذا أبعد أبناء شاليم-آشور من تقسيم الإرث؟ ربما كانوا محرومين من قبل والدهم قبل وفاته؟ كذلك تناولت الوثيقة ملكية البيت الكبير وهو ملك شاليم-آشور، هنا وبقرار من ملك كانيش اعطي البيت إلى خمالا، ولا يوضح النص لماذا اعطي له؟ ولكن من المحتمل شاليم-آشور استدان (طلب دين) من خمالا ولذلك من حقه الاستحواذ على البيت الكبير، أو ربما ملك كانيش كان قد اعطى البيت لخمالا لان التاجر شاليم-آشور هو والد خرشو-ملكا، أو قد يكون خمالا شخصية مهمة؟ المهم حصل الاخوة الأربعة على بيت صغير خارج المدينة! مما يوحي وجود مبلغ من الدين في رقبة التاجر شاليم-آشور لم يسدد حتى وفاته.
وفقا لمعرفتنا لا يوجد دليل آخر على تدخل ملك كانيش في شؤون التجار الاشوريين في حالة تقسيم الميراث، ولكن الغريب في الامر أن يتدخل الملك في تقسيم الميراث، فعادة ينظر في مثل هذه القضية في محكمة الكاروم، ربما حدث هذا لأن المؤسسات الآشورية لم تكن مجهزة بما فيه الكفاية للتعامل مع هذه الشؤون الإدارية.
إضافة إلى أسماء خمالا، وخرشو-ملكا، فان أسماء الشهود على الوثيقة في السطر (55-58) ذكروا أول مرة في نص كاروم كول تبة، ولكن اسم خرشو-ملكا ورد في نص من الموقع الاثري علي شار (Alişar) ولذا يمكن القول إن الاسماء الأشخاص السته في هذا النص هم من مدينة أمكوا (Amkuwa) (على الأرجح هي انكرا Ancyra الكلاسيكية أي انقرة الحالية في تركيا)، وكما ورد في الأسطر (14-15) (سوف يجلب خرشو-ملكا)، يبدو أن خرشو-ملكا كانت تعيش في مدينة أخرى، ربما في أمكوا، إذا كان هذا صحيحا، فأن هاتان الشخصيتان هما نفس الشخصين في الوثيقة أعلاه.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

602 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع