شخصية الخصي (شا ريش) في العصر الاشوري الحديث

                                                 

                     د.صلاح رشيد الصالحي

شخصية الخصي (شا ريش) في العصر الاشوري الحديث

                   

شكل 1: لوح حجري نقش مشهد بالنحت البارز من قصر سرجون دور شروكين (Dur Šurruken) (خرسباد حاليا) يمثل سرجون الثاني الملك الاشوري ومعه رئيس المخصيين في البلاط الاشوري (متحف المعهد الشرقي، شيكاغو)

تعود دراسة الخصي في تاريخ الشرق الأدنى القديم إلى قرن من الزمان وأصبحت الآن راسخة، ولدينا الدليل على حصول الخصيان على المناصب الرفيعة في البلاط الملكي التي تعود إلى أوائل العصر البابلي القديم، ولكن معظم معلوماتنا مستمدة من العصرين الآشوري الحديث والبابلي الحديث، ان المعنى الحرفي المستخدم في البلاط الاشوري مازيز بعني (mazziz pānī) المعنى الحرفي (شخص يقف أمام الوجه)، أي بحضور الملك، فمن المتعارف عليه لا يحق لعامة الناس النظر في وجه الملك مباشرة، ولكن الخصي يستثنى من ذلك لأنه يقف أمام الملك، ويطلق علية تسمية شا ريش (ša rēši) حرفيا (هو الرأس) و (lú.sag/ša rēši) بمعنى (خصي القصر)، ويعتقد بعض الباحثين ان (lú sag) مصطلح سومري وشا ريش هم فئة من الرجال الذين يتولون مناصب سياسية، ولهذا شا ريش تعني (هو الرأس)، ومن ثم فهو مصطلح سومري قديم أطلق على (الخادم الشخصي)، ولكن المصطلح في النصوص الاشورية يشير ببساطة إلى أنه يقف بجانب رأس الملك، ومن وجهة نظري فان شا ريش تغيرت لدى عامة الناس على مر العصور إلى أبو الريش ويطلقها الشباب حتى وقتنا الحاضر على أحد رفاقهم لغرض الضحك والتهكم على أساس لا ينبت له شعر اللحية انما ينبت ريش خفيف أي فاقد الرجولة هذا مجرد رأي قابل للقبول والرفض، على العموم كان هناك صراع شرس في المؤسسات الآشورية يدور حول ما إذا كان بالفعل أولئك الأشخاص مخصيين أم لا ؟ لان البعض منهم قاد جيوش اشورية، والبعض الاخر تولى مناصب عالية فمثلا بعد انتقال العاصمة الاشورية من آشور المقدسة إلى كالخو (موقع نمرود حاليا) أعتبر هذا الانتقال جزءاً من الاستراتيجية المتعمدة التي صممت لتقوية مكانة الملك اشورناصربال الثاني (883-859) ق.م على حساب النخب الحضرية القديمة الذين لعبوا دورا مهما سابقا في الحياة السياسية للدولة الاشورية في العديد من المناصب الادارية العليا وقيادات الجيش، والان تركت الخدمة في الادارة والجيش في العاصمة كالخو الجديدة بيد المخصيين (شا ريش) ذوي الاصول الغامضة، وهؤلاء ولاءهم غير مشكوك فيه اتجاه الملك الاشوري، فمن يرغب في الاقامة في كالخو كان يجب اختيارهم بواسطة أحد هؤلاء المخصيين، فقد عين المرسوم الملكي الخصي نركال- ابلي- كوما (Nergal-apil-kumu’a) كمراقب على تحرك وانتقال الناس من المدن الثلاث (اشور، واربيل، ونينوى) إلى كالخو لغرض السكن فيها، وعلى هذا الاساس افترض بان الاشخاص الوحيدين الذين تم اختيارهم لسكنى العاصمة الجديدة هم الذين اظهروا حماستهم وتشجيعهم للملك اشورناصربال الثاني وخططه العسكرية، وهذه الاستراتيجية التي ابتكرت عام (879) ق.م جعلت كالخو ليس فقط مركز سياسي جديد ولكن أوجد بشكل خاص مؤيدين وموالين للملك، وقدر عدد سكانها بين (12000) إلى (16000) نسمة، وقد حدد عدد سكانها على اساس انتاجية الاراضي الزراعية للوادي المحيط بالعاصمة الجديدة.
ولأجل أن يكون شا ريش خصيا يجب ان تنطبق عليه تعويذة لعنة العفريت (الشيطان): (قد تجف بذورك مثل (بذرة) شوت ريش (šut rēši) الذي لا يستطيع الانجاب)، ونظرا لكثرة تواجدهم في القصر فهم يدخلون ضمن الصراع الذي يجري داخل القصر الملكي باعتبارهم ناقلي الاخبار أو مثيري الفتن بل ويشاركون في المؤامرات، فعلى سبيل المثال في صيف عام (338) ق.م قام خصي فارسي يدعى (باجواس) أو (بابواس) الذي احتكر إدارة البلاد في قبضته، وأثبتت سياسة هذا الخصي فشلها واعتمادها على الدسائس حتى وجد نفسه مضطرا إلى قتل سيده الملك ارتاكزركزس الثالث (Ochus) (359-338) ق.م عن طريق السم كما قتل معظم أولاده ونصب أصغر أولاد الملك القتيل المسمى (ارسيس) (Arses) على العرش الاخميني، وعندما شعر بانه يريد أن يستقل بالحكم قتله هذا الخصي الذي لا رحمة في قلبه، وأثبت بانه لا يرجى منه نفع مادام هو خصي.
على العموم، فإن الكلمة العبرية للخصي ساريس (sarīs) مشتقة من الاشورية شا ريش (ša rēši )، ويقارنه أشعياء بـ (شجرة يابسة) (إشعياء 56: 3)، اما في اللغة الآرامية يطلق على الخصي سرس (srs) ومن المحتمل كلمة (سرسري في اللهجة البغدادية) مشتقه عن الآرامية سرس، وهناك نقش على ختم آرامي يذكر أسم بن-اشور-لامور (Pan-Aššur-lamur) سرس (srs) في خدمة الملك سرجون الاشوري (721-705) ق.م (شكل 1) .

   

شكل 2: نقش بالنحت البارز من جدار قصر سرجون الثاني في دور شروكين (خرسباد) يظهر مخصيين يحملون غنائم حرب (متحف اللوفر بباريس)
هناك تناقض في النصوص الآشورية بين مسؤول وصف بـ(شخص ذي اللحية) (شا زقني) (ša ziqni) (زقني بالعربية ذقن)، أي شخص ليس بخصي، فهناك طبعة ختم اسطواني يظهر رجل بدون لحية يقف أمام الملك، ويظهر في النقوش الصخرية التي تزين قصر الملك الاشوري اشخاص ذوي لحية في خدمة الملك، غالبية النقوش الاشورية التي تصور شا ريش بالنحت البارز في القصور الملكية للعصر الاشوري الحديث بان أجسادهم ناعمة مدورة وبدون لحية وشارب وهم اقصر قامة من الملك وبذلك فأشكالهم يمكن تميزها عن شكل الملك بلحيته الكثة وعضلاته، كما نرى في مشهد صيد الأسود للملك اشوربانيبال (668-627) ق.م وكل المنحوتات التي تصورهم كانت بشكل واحد ،أما ملابسهم فهي مطابقة مع ما يرتديها الاخرين الشال قطعة واحدة أو قطعتين، والخناجر في الحزام، والاقراط، وتصورهم المنحوتات وهم يسيرون إلى جانب الملك أو يقودون عربته الملكية، وكان القانون الاشوري صارما اتجاه التخنث ففي المادة (19) من القانون الاشوري الوسيط نص (إذا أساء رجل في السر إلى سمعة صاحبه وادعى بان صاحبه مأبون ..... ولم يتمكن من اثبات تهمته، فسوف يضرب خمسين جلدة ويوضع في خدمة أعمال الملك لمدة شهر كامل (بمعنى اعمال سخرة) ويعلم بعلامة ويدفع طالنت واحد من الرصاص)، اما المادة (20) فنصت (إذا لاط رجل بصاحبه، واتهم بذلك وثبت التهمة عليه، فسوف يلاط به ويخصى) وهكذا فان تصرفات شا ريش إذا كانت شاذة جنسيا فإنها ليست مرغوبة داخل المجتمع بشكل عام، ومع ذلك، هناك جدل هو ما إذا كان باستطاعة شا ريش تبني أبناء في تلك الفترة أم لا؟
هناك أدلة تبين أن المخصيين لم يشاركوا في الحروب فقط ونقل الغنائم إلى منازلهم (شكل 2) انما كان لديهم جيوش خاصة ولديهم براعة عسكرية في ميدان المعركة فنرى رئيس المخصيين شا-نابو-شو (Ša-nabû-šū) عهد اليه قيادة جيشه الخاص تحت اشراف الملك اسرحدون (680- 669) ق.م وابنه الملك اشوربانيبال، علاوة على ذلك اللوحة الحجرية لمنادي القصر بيل-حران-بيل-اوصر (Bēl-Harran-bēlī-ușur) تقدم ادلة جيدة تصوره بلحية ورجولة وقادر على مفاوضة السلطة أمام ذكور النخبة الحاكمة، وجاء في نص اشوري ترقية خصي ملكي وتعينه في المقاطعات التي تم ضمها حديثا، وفي نصوص أخرى منحهم أراضي وممتلكات بل وإقامة نصب خاصة بهم وأيضا، واعفائهم من الضرائب، ولو كان هذا مخالف لما هو معروف بانه امتياز حصري للذكور المهيمنة على الدولة.
ان جميع المشاهد المنحوتة على اللواح الحجرية من العصر الاشوري الحديث والتي كانت تزين القصور الملكية تصور الخصي بدون لحية، فسابقا كانت اللحية دليل الرجولة والنضوج ولحد الان في مجتمعنا عندما تظهر الشوارب واللحية على الفتى نقول (صار رجل) بمعنى انه قادر على الانجاب وتكوين الأسرة، وربما حالة الخصيان في تلك الفترة بسبب عدم القدرة على الانجاب فانفصلوا عن عائلاتهم وبالتالي تعرضوا إلى الاخصاء وابعادهم عن عائلاتهم من أجل إزالة أي مشاعر شخصية.

   

شكل 3: لوح حجري بالنحت البارز من قصر دور شروكين (خرسباد) اثنان من المخصيين وضعا اليد اليمنى على اليسرى وهما يسيران خلف الملك سرجون الاشوري (متحف المعهد الشرقي، شيكاغو)
ان هؤلاء الرجال المميزين حصلوا على وضعهم من خلال القرب من الملك، وهو أمر لا لبس فيه، وتم منحهم الامتيازات كما تمنح الامتيازات للذكور المهيمنين على السلطة، وقد اكسبهم ولائهم للملك امتياز في إقامة نصبهم الخاصة (شكل 3)، ويجب ان نضع في اعتبارنا قد يشكل الخصي تهديدا للملك الشرعي كما هو الحال مع الملك اسرحدون الذي أخذ يشك برئيس الخصيان بانه سوف يغتصب عرش اشور أو ينافسه على الملكية لصالح مرشح آخر ففي رسالة تحت رقم (SAA 10 179) يستعلم عراف المعبد الإله سين بناء على طلب الملك إذا كان رئيس المخصيين اشور-ناصر (Aššur-naşir) يخطط بالفعل للاستيلاء على العرش؟ وهذا يعني ان المخصيين كانوا ذكورا وليس جنس ثالث (بمعنى ليس رجل ولا أمراءه) فنحن نعلم ان الخصي الملكي سين-شومو-ليشر (Sin-šumu-lesir) حكم سنة واحدة (626) ق.م، وكان مغتصبا للعرش، وأحتل منصب جنرال (تورتان) (Turtanu) في الجيش الاشوري في عهد اشور-اطل-ايلاني(Aššur-etel-ilani) واعلن نفسه ملكا بعد وفاة آشور- أطل-ايلاني، وقد ورد اسمه في قائمة الملك من اوروك، كما ذكرته نصوص المدن البابلية (باب-ايلي (Bab-ili من نيبور (Nippur)، ولم يسيطر على الدولة الاشورية انما حكم بابل لمدة سنة واحدة وربما أقل من ذلك، ثم خلع عن حكم بابل بعد قتال ضد الملك سين–شار-اشكن(Sin-shar-ishkun) (627 – 612) ق.م ، ربما نحن الان لا نتقبل استيلاء شا ريش على العرش الملكي، ولكن الامر يكون مقبولا إذا كانت قوة تحت امرته، والمال بيده، وتأييد كهنة المعبد.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

594 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع